فلنلعب لعبة توافق الكلمات. ما الذي يخطر ببالكم عندما تفكّرون بالـ " بي بي سي"؟ ستعتمد إجاباتكم على عمركم بالطّبع. في حالتي أنا، ما يخطر ببالي هو برنامج الأطفال "بلو بيتر" وبرنامج "وومنز آور" والمذيعة مويرا ستيوارت وهي تقرأ النشرة الإخبارية، والمراسل جون سبمسون وهو يرتدي البرقع، وبرنامج الموسيقى "توب أوف ذا بوبس"، و"ذا ميتشل براذرز" والبرامج الحوارية وبرامج الألعاب وبرنامج الجرائم "كرايمووتش" (مع جملته الشهيرة "لا تحلموا بالكوابيس")، والعروض المقتبسة من كتب ديكنز، والبرنامج التاريخي الهزلي "بلاك آدر"، وآتنبورو. ويا لآتنبورو.
بالنسبة لملايين البريطانيين، أصبحت بي بي سي جزءاً لا يتجزّأ من نسيج حياتنا. ربّما تغيرت عاداتنا في مشاهدة التلفزيون، إذ لم نعد نتحلّق حول الشاشة الصغيرة كما كنا نفعل في الماضي، لكن ما زالت "بي بي سي" جزءاً من أثاث المنزل، وهي متجذّرة في مسار حياتنا اليومية إلى درجة يندر معها أن نتوقف لنتأملها بهدوء ونقدّر أهميتها. فهي توقظنا صباحاً. وتأخذ على عاتقها تحديد اتّجاه الرياح ودرجة الحرارة. وتسمح لنا بالتنقل عبر الدول والقارات من دون أن نخطو خطوة واحدة خارج باب منزلنا، وتوسّع مداركنا ومعارفنا من غير أن نذهب إلى غرفة الصف الدراسي. وتطلعنا على قصص أشخاص لن نلتقي بهم في حياتنا، وتفتح أمامنا باب السفر عبر الزمن، أو الانطلاق نحو الفضاء. هكذا، تعطينا بي بي سي كل القدرات الخارقة.
ومع ذلك فالجدال مستمرّ حول إلغاء رسوم "رخصة مشاهدة" " بي بي سي"، وتتبنى الحكومة من جانبها موقفاً يقول إنّه على هيئة الإذاعة العامّة البحث عن التمويل في مكان آخر. وفي هذا السياق، حذّر رئيس مجلس إدارة "بي بي سي" من أنّ تطبيق خدمة اشتراك سيؤدي إلى اقتطاعات كبيرة وتراجع في الإنتاج يُرجّح أن تكون برامج الأطفال ضحيّته الأولى.
شكّكت وزيرة الثقافة نيكي مورغان الأسبوع الماضي في مدى مواكبة "بي بي سي" للعصر مشيرةً إلى أنّها تواجه، في عصر "نتفليكس"، خطر التعرّض إلى مصير مشابه لمصير "بلوكبستر"، ولم يبدُ عليها أنها لاحظت آخر ديون نتفليكس المعلنة قد تخطت عتبة الـ12 مليار دولار. وتردّد هذا الأسبوع أن إليزابيث مردوخ صارت بين المرشّحين لتولّي منصب المدير العام حين يتنحى توني هول عنه، وهو خبر تقشعرّ له الأبدان نظراً لهيمنة عائلة مردوخ على جزء كبير من وسائل الإعلام البريطانية، لكن اليزابيث نفت تلك الشائعات.
لا يعني كل ما سبق أنّ "بي بي سي" خالية من العيوب. فهي في الواقع مغرورة وبيروقراطية وغالباً ما تتخذ موقفاً دفاعياً. وفي خضمّ سعيها لإرضاء الجميع، كثيراً ما ينتهي بها الأمر إلى عدم إرضاء أحد. وقد جهدت كي تتكيّف مع التغيير في عادات المشاهدة وهي تواجه خطر خسارة جمهورها من اليافعين للأبد. ولا ننسى أنها بارعة للغاية في إيذاء نفسها، ومن الأمثلة الحديثة على ذلك موقفها غير المشرّف حول مضاعفة التفاوت في الأجور بين الجنسين، والجدال الذي نشب حول تعليقات المذيعة ناغا منشيتي، وإنهاء برنامج "ذا فكتوريا ديربيشاير شو" وهو أقرب ما يكون إلى التجسيد المثالي لخدمة البثّ الإذاعي العامّ.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لا شكّ أنّه من الممكن أن نكنّ كل التقدير لمؤسسة ونتمنى لها الاستمرار، وأن نعارض في الوقت ذاته بعض قراراتها. تحملني "بي بي سي" على الشعور بغضب عارم في أحيان كثيرة، لكنني أجد نفسي مبهورة بإنجازاتها يومياً. تابع 17 مليون مشاهد برنامج "غافن أند ستايسي" الخاص بعيد الميلاد، وهذا إنجاز هائل في عصر وسائل الترفيه المتوفرة حسب الطلب. ومن كان ليعتقد أنّ برنامجاً متواضعاً اسمه "فليباغ" سيستمرّ بحصد الجوائز بعد أربعة أعوام على انطلاقه؟ ولابد أن هناك ما يبرر كون أعمال الكوميديا والدراما التي تنتجها "بي بي سي" موضع حسد حول العالم.
في هذه الأثناء، على كلّ من يحاولون احتساب العائدات من رسوم "رخصة المشاهدة" أن ينظروا إلى زوايا "بي بي سي" التي لا تحظى بالشهرة نفسها، وفرق العمل المغمورة التي تنسج محتوى استثنائياً. تابعوا خدمة "بي بي سي" العالمية هذا الأسبوع مثلاً، وستجدون وثائقيات عن المساواة بين الجنسين في بولندا، والكاتبة البرازيلية كارولينا ماريا دي خيسوس التي وثّقت الحياة في حيّ فقير داخل ساو باولو، وحول "الكتاب الأحمر الصغير" للرئيس ماو تسي تونغ. وعلى سبيل المحاولة لتقديم دليل على إتمام "الهيئة" مهمّتها التي وصفها مديرها العام الأسبق الشهير لورد رايث بـ"الإعلام والتثقيف والتسلية"، دعوني أرشدكم إلى برنامج "آركايف أون 4 " الذي تبثه المحطة الإذاعية الرابعة، وهو عبارة عن رحلة اسبوعية في رحاب الروعة المدهشة باستمرار.
تحوّلت النشرات الإخبارية إلى مصدر دائم لعدم الرضى عن "بي بي سي" وهو أمر مفهوم نظراً للأوضاع العالمية، ولكنّه مع ذلك غالباً ما ينطوي على ظلم الهيئة، وليس من عذر يبرر الإساءة اليومية التي يتعرض لها مقدّمو النشرات ومعدّوها. وفيما يمكننا أن نعتبر أنّ الخطاب الذي تشهده عدّة برامج حوارية سياسية لا يرقى للمستوى المطلوب، ما تزال تقارير "بي بي سي" الإخبارية هي الأفضل بلا منازع. وما تزال ثقة الجمهور بالهيئة كبيرة. وبالنظر إلى المخاطر التي تواجهها الديمقراطية بسبب منصات التواصل الاجتماعي والشبكات المسيّسة، يجب عدم الاستهانة بهذا الموضوع أبداً.
سيزعم البعض أنّهم قادرون على التأقلم مع غياب "بي بي سي" لأنهم لا يتابعون البث التلفزيوني المباشر، ولكنّهم ينسون أنهم يستخدمون تطبيق "الهيئة" للاطلاع على آخر الأنباء، ويستمعون إلى برنامج "ذا ميسينغ كريبتوكوين" الموجود في مدونتها الصوتية وهم في السيارة، ويبحثون في أرشيف وصفات "بي بي سي" الهائل عن أفكار لوجبة العشاء، أو يتابعون بتشوّق مسلسل "بيكي بلايندرز"، الذي أنتجته الهيئة، وتبثه "نتفليكس". على الرغم من كل عيوبها، لاتزال "بي بي سي" متألّقة وجديرة بالحماية. وسنفتقدها عندما نخسرها.
© The Independent