ما لا يقلّ عن ثلاثة أعمال فنية وأدبية أنجزها ثلاثة من المبدعين العرب انطلقت معا من، أو صبّت في، الإنجاز العمراني الكبير الذي حققه حسن فتحي المعماري المصري الكبير الذي بات منذ سنوات عديدة يلقّب بـ"شيخ البنائين العرب". وأول هذه الأعمال رواية الكاتب فتحي غانم "الجبل" التي حولها السينمائي خليل شوقي في ستينات ازدهار القطاع السينمائي العام في مصر إلى فيلم يحمل بدوره العنوان نفسه، وهو المبدَع الثاني في حديثنا هنا، أما المبدَع الثالث والأكثر حداثة نسبيا فهو فيلم "لا يكفي أن يكون الله مع الفقراء" الذي حققه في سنوات الثمانين من القرن العشرين، وبالتعاون مع منظمة اليونسكو في باريس السينمائي اللبناني برهان علوية ليكون واحدا من أبرز أفلامه. فما الذي في عمل حسن فتحي أغرى هؤلاء المبدعين بالإهتمام به إلى درجة خصّه بأعمال ضخمة ضخامة الأفلام السينمائية؟
أصالة العمران
بكل بساطة تجربته العمرانية الفذة في مجال الجمع بين ما رآه أصالة وما يُعتبر حداثة في العمران. علما بأن حسن فتحي هو واحد من أولئك التنويريين العرب الكبار الذين يرون أن المسألة العمرانية هي أم القضايا في السياق الثقافي والإجتماعي العربي، وأن العودة إلى العمارة الأصيلة قد يكون فيها الحل الناجع لعدد من المشاكل الإجتماعية العربية. فهل تراه كان مصيبا في هذا؟ وهل أفلتت مشاريعه من فخ النخبوية وهي تتنطح لإعادة المواطن العربي/ المصري هنا، إلى التعامل مع بيته وحيّه وبيئته بشكل عام بطريقة "ترفض الحداثة" و"تغوص في أصالة القديم"؟ فإذا كانت الحال كذلك لماذا فشل مشروعه وتحوّل هو إلى مَعْلم من معالم الحياة الثقافية العربية والمصرية بل العالمية حتى، بدلا من أن يكون المؤسس المعترف به عمليا لنهضة عمرانية شاملة كما كان يتوقّع لنفسه أن يكون، كما كان يشرح في كتابه الشهير "عمارة الفقراء" الذي غالبا ما ترحم إلى لغات أخرة بعنوان "العمارة مع الشعب"؟ أسئلة تُطرح دائما لعل اللافت أنه فيما طرحتها رواية فتحي غانم ومن ورائها فيلم خليل شوقي وضمنيا بصيغة لا تخلو من نقد للجانب العملي من المشروع يتواكب مع تمجيد لجانبه النظري؛ يأتي حسن فتحي بنفسه في الفيلم الوثائقي "لا يكفي أن يكون الله مع الفقراء" ليفسر الأمر ويبرر الأسباب التي "أفشلت" المشروع. وفي الحالين نعرف أن مشروع قرية "القرنة".
إذا كانت مصر قد اكتشفت حسن فتحي وعمله المعماري العظيم ببطء اعتبارا من 1969 الذي صدر فيه، بالعربية، كتابه الأساسي «عمارة الفقراء» الذي عاد وترجم بعد ذلك إلى العديد من لغات العالم، ومكن ذلك العالم من اكتشاف تجربة حسن فتحي وتجاربه المعمارية الأصيلة، فإن الحياة الثقافية العربية لم تكتشف حسن فتحي حقا، إلا عبر الفيلم الذي حققه اللبناني برهان علوية عن العمارة في مصر بعنوان «لا يكفي ان يكون الله مع الفقراء» وتبدى فيه حسن فتحي في المشاهد التي ظهر فيها، حكيما أصيلا في حديثه عن التراث العمراني العربي وعن ضرورة أن ننهل من تراثنا، وعن فشل تجربتنا العمرانية التي استقيناها من الغرب وكان الباطون عمادها وسلاحها.
منذ ذلك الحين صار حسن فتحي على كل شفة ولسان، رغم انه كان قد بات أدنى إلى الثمانين من عمره، وكان من الواضح أن عمله وتجربته قد أصبحا جزءا من الماضي. ومن هنا، حين رحل حسن فتحي عن عالمنا يوم الأول من كانون الأول (ديسمبر) 1989 وهو يقترب من التسعين، اعتبر رحيله خسارة كبيرة لمصر وللعالم العربي، بل كذلك لحركة التجديد العمراني في العالم، وهنا علينا ألا ننسى أبدا أن اكتشاف مصر لحسن فتحي أواخر الستينات كان اكتشافا ثقافيا ومعرفيا بحتا، أما اكتشاف العالم الغربي والخارجي له، فكان اكتشافا عمليا، بمعنى اننا في العالم العربي اهتممنا بما يقول، أما العالم الخارجي فإنه اهتم بما يفعل الرجل.
العمارة والرواية
ولعل من اللافت هنا ان تجربة حسن فتحي العمرانية كانت قد شكلت، ومنذ اواسط الخمسينات، موضوع واحدة من أجمل روايات فتحي غانم «الجبل» وهي الرواية التي عاد خليل شوقي وحولها إلى فيلم سينمائي، غير أن قلة من الناس ربطت في حينه بين الرواية والتجربة الحقيقية التي تتحدث عنها، ونعني بها تجربة «القرنة» تلك القرية التي بناها حسن فتحي خلال العهد الملكي لإيواء الريفيين بعيدا عن كهوفهم الجبلية في محاولة لتحديث حياتهم، لكنهم سرعان ما هربوا من القرية النموذجية ليستعيدوا حياتهم في الكهوف، وكان السبب، بكل بساطة، أنهم في الكهوف يعتاشون من نبش الآثار وبيعها للأجانب، أما في القرية النموذجية البعيدة عن كهوفهم فإنهم لن يجدوا ما يعتاشون منه.
والحال أن أفكار حسن فتحي، وانطلاقا من تجربة «القرنة» اعتبرت على الدوام أفكارا طوباوية لا تصلح للمجتمع المحلي. ومن هنا فإن فتحي الذي كان يتحدث عن بدايته بالعبارات التالية: «لقد أخذت البكالوريا سنة 1918، وكنت أريد ان أدخل مدرسة الزراعة حتى أحقق أحلامي وأصبح من سكان الريف المصري، لكني فشلت في اجتياز امتحان الدخول، ودخلت قسم العمارة في مدرسة المهندسخانة وتخرجت عام 1926، وبدأ معي الأمل في ان أصمم بيتا مصريا حقيقيا يحفظ للعائلة المصرية خصوصيتها ويعبر في الوقت نفسه عن الشخصية المصرية. إنني أرفض فكرة أن الحداثة تعني الاتجاه نحو الغرب، الحداثة والتطور يجب أن ينبعا من الجذور ومن التاريخ».
من الواضح أن كلام حسن فتحي يتنافى مع الممارسات العمرانية كافة التي مورست طوال عقود هذا القرن في مصر وفي بقية أنحاء العالم العربي. ومن هنا نظر، محليا، إلى حسن فتحي على أنه طير يغرد خارج سربه. لكن العالم نظر إليه نظرة أخرى، تبدت دائما أكثر إنصافا، ويعدد لنا الفريد فرج في مقال كتبه بعنوان «شيخ البنائين»، ضروب التكريم التي كانت من نصيب حسن فتحي، من تكريمه في عهد فاروق والأوسمة التي حصل عليها في عهد عبدالناصر وصولا إلى درجات الزمالة والشرف في المعهد الأميركي للمعمار، ومن جامعة لوزان ومن أكاديمية الفنون البلجيكية والاتحاد الدولي للمعماريين وجائزة الآغا خان للمعمار الاسلامي، وصولا إلى اختيار اتحاد المهندسين الأميركيين له في 1987 كواحد من أعظم المعماريين في العالم.
أما نظرية حسن فتحي فتقوم على مبدأ الفصل بين التحديث والتغريب للخلاص من أزمة العمارة والإسكان التي تعيشها مصر. فحسن فتحي وكما يلخص الفريد فرج آراءه، ينظر إلى القضية من زاوية الريف، ومن منطلق أن البناء الحرفي العربي هو الذي عمر القاهرة ودمشق وبغداد، وابتدع وظائفية البيت انطلاقا من وضعه البيئوي وقضايا الحرارة والبرودة وحساب هندسة الظل. بالنسبة إلى حسن فتحي «آن الأوان لانقاذ الفقراء من مساكنهم ويستحيل إعادة بناء 4 آلاف قرية مصرية بالطرز الغربية ومواد البناء المستوردة، يمكن فقط تطوير الريف بابتعاث فن المعمار التقليدي، وضمان الشروط المساعدة ليبني الفلاحون بيوتهم بأنفسهم».
هذا الكلام الجميل الذي لم يكن حسن فتحي يكف عن التفوه به، وجد على الدوام من يعارضه باسم الفعالية الميدانية وانطلاقا من كونه كلاما خياليا لا يمكن أن ينعكس أيما انعكاس في الواقع العملي المحلي. والمؤسف أن هذا النقاش توقف تماما مع رحيل حسن فتحي، ووسط انشغال العالم العربي بالعديد من الأمور التي جعلت مسألة العمارة، على أهميتها وحيويتها، لا تشغل مكانة أساسية في حياتنا العربية. فهل يمكن اعتبار هذا الكتاب هزيمة أخيرة لحسن فتحي؟