أرسل المسبار الفضائي "نيوهورايزونز" New Horizons دفقة جديدة من الصور المدقّقة في الشكل غير المألوف للمذنّب الثلجي "آلتيما ثول" Ultima Thule، ما زاد في فخر "الوكالة الوطنيّة (الأميركيّة) للطيران والفضاء"، واختصاراً، "ناسا" بإنجاز علمي جديد. ويقتضي الأمر شيئاً من الشرح لتفاصيل ذلك الإنجاز وموقعه في مغامرة اكتشاف الكون. وقبل التوسع في الإنجاز الأميركي، تجدر الإشارة إلى تزامنه مع إنجاز ياباني تمثّل بهبوط المسبار "هايابوسا 2" Hayabusa 2 بسلاسة على المذنب "ريوغيو" الذي يبعد عن الأرض قرابة 322 مليون كيلومتر، بعد إجراء عملية قصف استطلاعي له... حرفيّاً. وفي 23 فبراير (شباط) 2019، أوضحت "الوكالة اليابانيّة لاستكشاف الفضاء" Japan Aerospace Exploration Agency، اختصاراً "جاكسا"، أن ذلك القصف الفضائي أدى إلى تطاير شظايا من "ريوغيو" تمكّن المسبار "هايابوسا" من التقاطها، ثم عملت آلاته المؤتمتة على تحليلها.
في المقابل، ليس المذنّب الثلجي "آلتيما ثول" أبعد نقطة وصلتها مركبات وكالة "ناسا" الفضائيّة، لكن نجاح المسبار "نيوهورايزونز" في التحليق في مدار ذلك المذّنب الضخم (مع التقاط صور تفصيلية لشكله وتركيبه الجيولوجي) يعتبر خطوة ضخمة في مسعى الـ"ناسا" لمعرفة أصل النظام الشمسي وطريقة تكوّنه، واستطراداً التعمق في فهم كيفية تشكّل كوكبنا الأزرق، قبل الانتقال المحتمل إلى سكنى كواكب أخرى!
"فوياجر" هي الأبعد ولكن...
تذكيراً، استطاعت "ناسا" أن ترسل مركبتين، هما "فوياجر1" و"فوياجر2"، إلى خارج حدود النظام الشمسي بأسره، بل صارتا أول مركبتين من صنع البشر تحلقّان بين النجوم... حرفياً. واستطراداً، تجاوزت المركبتان اللتان أطلقتا في العام 1977، المسافة التي قطعها المسبار "نيوهورايزونز" للتحليق في مدار المذنّب "آلتيما ثول"، بمسافات طويلة. ويكفي القول أنه في 10 ديسمبر (كانون الأول) 2018، وصلت "فوياجر 2" إلى الفضاء النجمي بعد أن طارت مسافة 18 مليار كيلومتر، فالتحقت بـ"فوياجر1" التي تجاوزت النظام الشمسي، بمعنى أنها تخطت الحد الأخير للجاذبية الشمسيّة وهي القوة التي تمسك بها الشمس الكواكب والمذنبات والأجرام السماويّة التي تدور في فلكها.
يعتقد أن تركيبة الصخور المثلجة التي تدور متجاورة مع بعضها بعضاً في "حزام كيبور"، لا زالت محتفظة بالتركيبة الأصلية الأوليّة للنظام الشمسي بأكمله.
وفي المقابل، جرى "اللقاء" الفضائي بين المسبار "نيوهورايزونز" والمذنب "آلتيما ثول" على بُعد 6.5 مليار كيلومتر...لا غير! واستغرقت إشارة الراديو التي أرسلها المسبار عن ذلك "اللقاء"، قرابة 6 ساعات وثماني دقائق، مع الإشارة إلى أنها تسير بسرعة قريبة من سرعة الضوء. وبالمقارنة، يحتاج الضوء إلى 16.5 ساعة لقطع المسافة بين "فوياجر 2" والأرض، مع الإشارة إلى أن معدات تلك المركبة ما زالت تعمل وترسل إشارات إلى مقرّات وكالة "ناسا".
إذاً، لماذا كل ذلك الفرح الذي اجتاح الـ"ناسا" بما أنجزه "نيوهورايزونز"؟ الأرجح أن الأسباب متنوّعة وكثيرة، ومن بينها أن المركبتين "فوياجر" لم تدورا حول أي جرم في منطقة "حزام كيبور" Kuiper Belt، وهو زنّار ضخم مكوّن من مجموعات كبيرة من المذنبات والأجرام الفضائية، يشبه الحدود الأخيرة حول النظام الشمسي. لماذا يعتبر الحدود الأخيرة؟ لأن الكواكب السيّارة في النظام الشمسي تنتهي عند كوكب "نبتون"، فيما يبعد "حزام كيبور" عنه قرابة ملياري كيلومتر. ويلي "نبتون" الجرم الفضائي "بلوتو" المثير للجدل، لأنه اعتُبِر طويلاً الكوكب السيّار الأخير في المجموعة الشمسية، قبل أن يغيّر العلماء رأيهم فيه ويقولون إنه لا يستوفي المعايير العلمية لتصنيف الكوكب السيّار، ومالوا لاعتباره "كوكباً سيّاراً قزماً"! ومع ذلك، يتفوّق "حزام كيبور" على "بلوتو" في البُعد عن الشمس، لأن الأخير يقع على قرابة 1.5 مليار كيلومتر منها. ويضاف إلى ذلك سبب بديهي: إنها المرّة الأولى التي ينلاقي فيها مسبار فضائي مع مذنب في "حزام كيبور"، وليس مذنباً أصله من ذلك الحزام، وهو ما حصل في وصول المركبة الأوروبيّة "روزيتا" إلى مذنب "شيريوموف- غيراسمنكو" وهبوط روبوتها الفضائي "فيلاي" عليه، في العام 2014.
ويلهب "حزام كيبور" أدمغة علماء الفلك، خصوصاً الساعين منهم إلى معرفة أصل النظام الشمسي وطريقة تكوّنه. إذ يعتقد أن كتلة الغبار الفضائي الضخمة تكوّن منها النظام الشمسي، بداية من الشمس ثم الكواكب السيّارة وبقية الأجرام التي تدور في فلكها. وبسبب بعدها الهائل عن الشمس، والبرودة الكونية حولها، يعتقد أن تركيبة الصخور المثلجة التي تدور متجاورة مع بعضها بعضاً في "حزام كيبور"، لا زالت محتفظة بالتركيبة الأصلية الأوليّة للنظام الشمسي بأكمله. ولا توجد بيئة فيها أو حولها لتؤثر فيها، ولا زالت على الحال الذي كانته قبل قرابة 4.6 مليار سنة. ويملك الرقم الأخير أهمية لأنه يذكّر بأن نظامنا الشمسي وصل تقريباً إلى منتصف عمره، بمعنى أنه مرشح للتحطم بعد قرابة خمسة مليارات سنة، في سلسلة كوارثية من الحوادث التي "تستهل" باستهلاك الشمس الوقود الذي يشعل فرنها الهائل ويعطيها جاذبيتها الضخمة أيضاً.
إذاً، صنعت وكالة "ناسا" التاريخ، ووضعت حجر طريق آخر على مسار استكشاف حضارة الإنسان للكون، بأن وصلت أخيراً إلى الصخرة المثلجة الأخيرة في النظام الشمسي بأكمله. وليست تلك سوى خطوة أخرى.