كشفت دراسة حديثة أنّ الصناعات المستندة إلى النفط والغاز والفحم [بما فيها استخراجه] تطلق كميات من غاز "الميثان" الذي يعتبر من المُكوّنات الشديدة التأثير [في ظاهرة الاحتباس الحراري]، تفوق التقديرات السابقة بأشواط، وأنّ كبح انبعاثات الميثان يمكن أن يقدم فوائد سريعة لكوكب الأرض.
ويأتي الميثان في المرتبة الثانية بعد ثاني أكسيد الكربون، في ترتيب الغازات المسؤولة عن ظاهرة الاحتباس الحراريّ، وقد ارتفعت مستوياته في الغلاف الجويّ بحوالى 150 في المئة منذ الثورة الصناعيّة.
وعلى الرغم من أنّ مستوياته أقل من ثاني أكسيد الكربون، إلاّ أنّ تأثير "الميثان" في غازات الدفيئة أقوى بحوالى 80 ضعفاً. وعلى عكس ثاني أكسيد الكربون الذي يمكن أن يبقى في الغلاف الجويّ قرابة قرن بعد إطلاقه، يدوم الميثان أقلّ من عشر سنوات، ما يعني أنّ خفضه يمكن أن يترك تأثيرات ملموسة تظهر بسرعة نسبيّاً.
وفي هذا الشأن، تحدّث بنجامين هميل، باحث في جامعة "روتشستر"، مشيراً إلى إنّه "حتى لو توقّفنا عن التسبّب في إطلاق ثاني أكسيد الكربون تماماً اليوم، ستبقى مستوياته مرتفعة في الغلاف الجويّ للأرض مدة طويلة".
وأضاف، "لذا من المهم دراسة الميثان، لأن خفض معدل انبعاثاته سيترك انعكاسات إيجابيّة على كوكب الأرض بصورة سريعة".
في الواقع، ما انفكت مستويات الميثان في الغلاف الجويّ ترتفع. وعلى الرغم من ذلك، كان من الصعب حتى الآن تحديد مصدر الانبعاثات، لا سيما أنّ ثمة طريقتين مختلفتين تتسبّبان في إطلاقه.
أوّلاً، من خلال النشاطات البيولوجيّة التي يشهدها سطح الكوكب، على غرار الزراعة، والأراضي الرطبة، وحقول الأرز، ومواقع طمر النُفايات. ثانياً، بواسطة الوقود الأحفوريّ المستخدم في نشاطات الصناعة [بما في ذلك توليد الطاقة].
مستندين إلى البحث الجديد، صار العلماء قادرين على الفصل بين الميثان الناتج من حرق الوقود الأحفوريّ من جهة، وبين الميثان المنبعث بيولوجيّاً من الجهة الثانية. هكذا، أدركنا للمرة الأولى مدى الدور الذي يؤديه حرق الوقود الأحفوريّ في إطلاق مستويات عالية ضارة من الميثان في الغلاف الجويّ.
في الحقيقة، تملك الدراسة إملاءات لا يُستهان بها. ومثلاً "من شأن تطبيق أنظمة أكثر صرامة حيال انبعاثات الميثان التي تتسبّب بها الصناعة التي تستخدم الوقود الأحفوريّ، أن يؤدي إلى خفض الاحترار العالميّ [= الاحتباس الحراري] في المستقبل بمعدلات تفوق ما كان يُعتقد سابقاً"، وفقاً للدكتور هميل.
بشكل عام، يمكن الكشف عن تركيز الميثان البيولوجي في الغلاف الجويّ، من طريق بصمة كيماويّة تتمثّل في وجود ذرة "الكربون 14" التي تمثّل نظيراً مشعّاً نادراً للكربون الموجود طبيعياً في المواد العضويّة.
بيد أنه في أنواع الوقود الأحفوريّ كلها، تتفكَّك كل المواد الهيدروكربونيّة اللازمة لتوليد تلك البصمة، بتأثير بقاء المواد العضويّة [التي تتحول وقوداً أحفورياً] ملايين السنين تحت الأرض، ما يؤدي إلى اختفاء ذرات "الكربون 14".
ولمّا كان العلماء قادرين على قياس كميات إجمالي الميثان في الغلاف الجويّ للأرض بشكل دقيق، تصبح بصمة "الكربون 14" أو بالأحرى غيابها، مؤشراً على مقدار الميثان الذي يتأتّى من استخراج الوقود الأحفوريّ [واستخدامه في الصناعات كلها].
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
توخياً لمزيد من الدقة في الفصل بين العناصر الطبيعيّة من الميثان وتلك التي تخلِّفها نشاطات البشر، لجأ الدكتور هميل وزملاؤه إلى الماضي، عن طريق الحفر في باطن جليد جزيرة "غرينلاند" وجمع عينات من جوفه.
تعتبر عيِّنات باطن الجليد، وتسمّى أيضاً عينات قلب الجليد، كأنها كبسولات زمنية، بمعنى أنّها تسجِّل الظروف البيئيّة التي كانت سائدة إبان تشكّلها، إذ تحتوي على فقاعات صغيرة من الهواء الذي كان موجوداً الأزمنة الغابرة، وتكون محاصرة في دواخل الجليد.
استخدم الباحثون حجرة ذوبان كي يستخرجوا الهواء القديم من تلك الفقاعات بغرض دراسة تركيبته الكيماويّة. وركزوا على قياس تركيبة الهواء خلال الفترة الممتدّة بين أوائل القرن الثامن عشر، قبيل بدء الثورة الصناعيّة، حتى يومنا هذا.
معلوم أنّ البشر لم يشرعوا في استخدام الوقود الأحفوريّ بكميات كبيرة حتى منتصف القرن التاسع عشر [زمن الثورة الصناعية].
لذا، تتيح عملية قياس مستويات الانبعاثات قبل تلك الفترة [= قبل الثورة الصناعية] تحديد كميات الميثان المتأتية من العمليات الطبيعية أثناء ذلك الزمن الذي خلا من الغازات المتأتية من حرق الوقود الأحفوريّ وما يبعثه من غازات باتت موجودة في الغلاف الجويّ حاضراً. ولا يتوفّر دليل على أنّ كميات الميثان المتأتية من مصادر طبيعية، تتبدل على مدار بضعة قرون.
وبواسطة قياس مستوى ذرات "الكربون 14" في الهواء منذ ما يربو على 200 عام، وجد الباحثون أنّ كميات الميثان كلها في الغلاف الجويّ تأتت من مصادر بيولوجية حتى عام 1870 تقريباً.
وفي المقابل، عند تلك النقطة من الزمن، راح الميثان المتأتي من حرق الوقود الأحفوريّ [في الصناعة] يرتفع بوتيرة سريعة، علماً أنّ هذا التوقيت يتزامن مع زيادة حادة في استخدام الوقود الأحفوري [في الصناعات].
وذكر الباحثون إن النتائج التي توصلوا إليها تشير إلى أن مستويات الميثان التي انبعثت من مصادر بيولوجيّة عن طريق عمليات طبيعية كالتهوئة، جاءت أقل بحوالى 10 أضعاف عن التقديرات التي جاءت بها البحوث السابقة.
وفي الوقت نفسه، يؤدي حرق الوقود الأحفوريّ من قبل الإنسان إلى إطلاق كميات من الميثان بنسبة فاقت بما يتراوح بين 25 في المئة و40 في المئة ما رصده العلماء سابقاً.
للأسف، يشير البحث إلى أنّ قطاع الطاقة لا يراعي المستويات المرتفعة التي يضخّها في الغلاف الجويّ من ذلك الغاز العديم الرائحة واللون، التي تسهم في رفع معدل الاحتباس الحراريّ في كوكب الأرض.
واستناداً إلى ذلك، وصف الدكتور هميل نتائج الدراسة بأنها إيجابيّة، "لا أريد أن أفقد الأمل بسبب ذلك الشأن [كميات الميثان الضخمة المتأتية من حرق الوقود الأحفوري] لأنّ بياناتي تحمل تأثيراً إيجابيّاً يتمثّل في أنّ معظم انبعاثات الميثان من صنع الإنسان، من ثم يمكننا التحكّم فيها أكثر. في الحقيقة، ستترتّب على خفض انبعاثاتنا، تأثيرات إيجابيّة عدّة".
البحث منشور في مجلة "نايتشر".
© The Independent