Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

تدهور الجنيه السوداني فاقم الأزمات الاقتصادية في ظل الحرب

خبير مالي يدعو إلى اتفاق سياسي جديد يمهد لاستقرار أمني واقتصادي في البلاد

ملخص

يقول في حديثه إلى "اندبندنت عربية" إن السودانيين لم يفقدوا الأمل ويدعو إلى الذهاب لصناديق الاقتراع لحل الأزمة

أثقلت الحرب في السودان كاهل اقتصاد البلد الذي أتعبته السياسة وأرهقته الحروب طوال تاريخه بتحديات لا حصر لها، فبين إمكانات اقتصادية هائلة لم تستغل وفقد يعانيه اليوم في ما تبقى من موارد، يشخص المتخصص في الشأن الاقتصادي محمد الناير جرح بلاده الذي يئن تحت وطأة صراع الجنرالات منذ حوالى ستة أشهر، متحدثاً في حوار مع "اندبندنت عربية" عن "الروشتة" الاقتصادية المثلى التي تكفل للبلاد التعافي من الأسقام والنهوض من جديد بعد نفض غبار الحرب وإزالة آثارها عن وجه المدن والولايات.

يرى الناير الذي عمل مديراً لأكاديمية السودان للعلوم وحاضر في عدد من الجامعات بالخرطوم وجوبا وكردفان لأكثر من عقدين، أن التحديات الرئيسة التي تواجه الاقتصاد السوداني اليوم كثيرة، فاقتصاد بلاده كان ينعم ببعض الاستقرار قبل انفصال جنوب السودان مطلع الألفية، ويمكن مطالعة ذلك في سعر صرف مستقر ومعدل تضخم منخفض إلى رقم أحادي آنذاك بفضل إنتاج وتصدير 480 ألف برميل من النفط يومياً حتى منتصف عام 2011، وباعتماد على الإيرادات النفطية التي مثلت أكثر من 90 في المئة من موارد البلاد من النقد الأجنبي وعادلت أيضاً أكثر من 50 في المئة من إيرادات الموازنة، قبل أن يفقد ذلك مع توقيع اتفاق السلام الشامل عام 2005 مع الحركة الشعبية والاستفتاء في جنوب السودان الذي تقرر بعده الانفصال فعلياً.

ويضيف أن الانفصال حرم الخرطوم من عوائد نفطية كانت تنتج في جنوب السودان، بالتالي تبقى لها من إنتاج النفط ما يقدر بـ115 ألف برميل فقط يومياً قبل أن تتراجع حالياً إلى أقل من 40 ألف برميل يومياً، معرباً عن اعتقاده بأن هذا الأمر كان أحد العوامل الرئيسة التي أدت إلى تراجع الاقتصاد السوداني، وأنه لو تم الحفاظ على إنتاج 115 ألف برميل يومياً منذ انفصال الجنوب عام 2011 أو زيادة الإنتاج عبر رفع معدلات الاستخلاص والتكرير لكان الوضع مختلفاً اليوم.

الدين يتجاوز 60 مليار دولار

ويشير الناير إلى انفصال الجنوب ومن قبله الأزمة المالية العالمية، ومن بعدهما جائحة كورونا والحرب في أوروبا وصولاً إلى القتال في السودان باعتبارها عوامل مجتمعة شكلت تحدياً للاقتصاد السوداني، ويقول إنه بعد الحرب الأخيرة تفاقمت التحديات التي تواجه الاقتصاد السوداني، وكان من الممكن في حال انتشار الحرب في كل بقاع السودان أن ينهار الاقتصاد السوداني انهياراً كاملاً، لكن الحرب حصرت في الخرطوم وعدد من الولايات وبقيت 14 ولاية في الأقل آمنة من مجمل الولايات السودانية الـ18، مما قلل من الأثر السلبي على الاقتصاد، موضحاً أن القطاع الزراعي بشقيه النباتي والحيواني لا يزال في نسبة كبيرة منه واقعاً في الولايات الآمنة، بينما تستحوذ الخرطوم على خمسة في المئة فقط من إجمال القطاع.

يتحدث الناير عما يعانيه اقتصاد بلاده اليوم من إشكالات، في مقدمتها ارتفاع مستوى الدين الخارجي الذي يتجاوز 60 مليار دولار من أصل دين لا يتجاوز 17 مليار دولار فقط، إذ تمثل الفوائد وجزاءات تأخير سداد المبلغ المتبقي، لافتاً إلى العجز في الميزان الداخلي والخارجي وضعف الصادرات إلى مستوى 4 مليارات دولار سنوياً منها عائدات الذهب التي تمثل وحدها النصف بوصفها شواهد أخرى على ضعف الاقتصاد قياساً بإمكانات وقدرات الطبيعية الضخمة التي لم تستغل بالشكل المطلوب منذ الاستقلال.

لكن مشكلة السودان أقدم مما تبدو، فمن منظور الناير، لم تحظَ البلاد منذ الاستقلال باستقرار سياسي أو أمني، وكلاهما شرط أساس لتحقيق أي استقرار اقتصادي في أي قطب بالعالم، إذ ينبغي لتحقيق الاستقرار الاقتصادي، خلق استقرار سياسي يشمل وفاقاً تاماً بين كل القوى السياسية واستقرار أمني يتمثل في إنهاء كل الحروب بصورة كاملة، بالتالي يسهّل تحقيق الاستقرار الاقتصادي بصورة كاملة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 ويعرب الناير عن أسفه الشديد لحال البلاد التي تعيش حروباً منذ عقود، وما حرب جنوب السودان الطويلة التي كانت نتيجتها الانفصال، ثم الحرب في دارفور، إلا مراحل سابقة للحرب الأخيرة، بالتالي لم يكن هناك استقرار أمني أو سياسي وهو ما أثر سلباً في أداء الاقتصاد السوداني، معبراً عن أمله في أن يعي السودانيون كل هذه الدروس والاستفادة منها، ويؤكد أن حكم البلاد لن يأتي إلا عبر صناديق الاقتراع، داعياً الأحزاب السياسية إلى الذهاب لصناديق الاقتراع مع تشكيل حكومة كفاءات مستقلة للإشراف على الانتخابات.

ويحذر المتخصص في الشأن الاقتصادي السوداني من تفاقم الدين الخارجي لبلاده بصورة سنوية، متوقعاً أن تصل جزاءات وخدمة الدين إلى 1.5 مليار دولار كل عام، في وقت يتزايد عبء الفائدة المركبة، ومع أن البلاد من أكثر الدول استحقاقاً لمبادرة إعفاء الدول النامية المثقلة من الديون إذ إنها استوفت هذه الشروط منذ زمن بعيد، لكن أهدافاً سياسية من قبل المجتمع الدولي من النظام السابق مثلت تعنتاً، وفق ما يقول، ولم يمضِ المجتمع الدولي حتى مع السلطة في المرحلة الانتقالية بخطى كبيرة في هذا الاتجاه، داعياً إلى إعادة جدولة الديون وهو ما يتطلب إعادة هيكلة الاقتصاد السوداني وتقويته للخروج من الآثار السلبية التي خلفتها التحديات الاقتصادية ومفاوضة الدائنين، بخاصة مجموعة "نادي باريس".

السودانيون لم يفقدوا الأمل

ويرى الناير أن السودانيين لم يفقدوا الأمل، فلدى بلادهم موارد طبيعية ضخمة، ومن هذه الموارد مساحات زراعية هائلة تصل إلى أكثر من 85 مليون هكتار صالحة للزراعة، تكفل جعل البلاد من الأكبر على مستوى العالم من حيث الدول التي تمتلك مساحات صالحة للزراعة، ولا يستغل منها سوى 25 إلى 30 في المئة فقط، ولم يتم العمل حتى بالأساليب العلمية لزيادة إنتاجية القطاع بصورة كبيرة، مؤكداً أنه لو أحسنت حكومات البلاد المتعاقبة استغلال هذه الموارد لأعاد السودان تقوية اقتصاده، إضافة إلى امتلاكه مصادر متنوعة من المياه وحصة كبيرة من مياه النيل تصل إلى 18.5 مليار متر مكعب، والمستخدم فقط 12.5 مليار متر مكعب، بينما الستة المتبقية غير مستغلة، ولديها أيضاً المياه الجوفية في الحوض النوبي بكميات هائلة ومياه الأمطار التي يمكن أن تستغل وتعالج قضايا الري في الفترة المقبلة عبر إنشاء سدود في الأودية لحجز مياه الأمطار وتجنيب البلاد الفيضانات، وأشار إلى أن هذه السدود صغيرة لا تقارن بالسدود الكبيرة التي تقام على نهر النيل، بالتالي استغلال هذه المياه لزيادة الدورات الزراعية لاثنين أو ثلاث دورات بدلاً من دورة واحدة حالياً في الخريف.

ويقول الناير إن لدى الخرطوم ثروة حيوانية تصل إلى 110 ملايين رأس ماشية تجعل البلاد الخامسة أو السادسة عالمياً من حيث عدد الماشية ومن كبريات الدول الأكثر إنتاجاً للثروة الحيوانية، لكنها لم توظف بالشكل المطلوب من قبيل إنشاء مسالخ ضخمة وتصدير اللحوم وتصنيع الجلود بدلاً من تصدير الماشية حية، موضحاً أن لدى البلاد كذلك تنوعاً في المناخ وإنتاج المحاصيل الزراعية، ولديها أيضاً محاصيل نادرة مثل الصمغ العربي في منطقة كردفان الذي لم يشمله حظر الولايات المتحدة عام 1997 لعدم قدرة العالم على إنتاجه، ويعتقد بأن لدى البلاد كثيراً جداً من المحاصيل العضوية التي تزرع، إضافة إلى إمكانات سياحية كبيرة لم تستغل، وإيرادات لا تتجاوز 950 مليون دولار فقط بوجود إمكانات قادرة على جلب 10 مليارات دولار من القطاع السياحي قياساً بالإمكانات الضخمة في ساحل البحر الأحمر أو جبل مرة، أو محمية دنقناب أو غيرها من المواقع السياحية الكبيرة التي يفترض أن تستغل بشكل أكبر.

ويلفت الناير إلى أن باطن أرض السودان يحوي 30 معدناً على رأسها الذهب ومعادن نفيسة أخرى، إضافة إلى مساحات كبيرة زاخرة بالنفط ومنها منطقة الحدود مع ليبيا، وهي كلها ثروات ضخمة ينبغي توظيفها، علاوة على الموقع الاستراتيجي الذي تحظى به البلاد كرابط بين أفريقيا والدول العربية، وساحل بطول 750 كيلومتراً على البحر الأحمر وكفى بذلك من إمكانات، ويضيف "هذا كله تسبب في كل هذه الحروب وخلق مطامع محلية ودولية، لذا لدى السودان ما يكفي لإعادة التوازن للاقتصاد حتى من دون الحاجة إلى الدعم الخارجي، إنما يحتاج إلى استثمارات كثيرة للغاية في مجال البنية التحتية حتى يتمكن من استثمار إمكاناته".

غياب المساعدات الخارجية 

ويتناول المتخصص السوداني غياب المساعدات الخارجية عن بلاده ويقارن ذلك بالحالة الأوكرانية التي حصلت على 250 مليار دولار تقريباً، فيما لم تتلقَ الخرطوم من المجتمع الدولي سوى الوعود، قائلاً "كان هذا المجتمع الدولي يتحجج بالنظام السابق وكل التجارب أثبتت أن المجتمع الدولي يعد ولا يفي بوعوده، ويجب على الحكومة المقبلة أن تعمل على بناء البلاد بسواعد الأبناء وبالإمكانات المتوافرة لديها، من دون انتظار مساعدة المجتمع الدولي الذي سيأتي طوعاً حينما نقوى ويقوى اقتصادنا".

يستكمل الناير حديثه عن القصور في أداء الجهاز التنفيذي في السودان الذي أدى إلى تراجع العملة الوطنية، إذ يرى أن هناك إجراءات كثيرة كان يمكن أن تتخذ لحماية الجنيه السوداني وإيقاف تدهوره في ظل الحرب، مضيفاً "المعروف أن أية حرب تؤثر سلباً في قيمة العملة، ومع ذلك كان بالإمكان اتخاذ تدابير للحد من هذا التدهور لكنها لم تتخذ، وربما لا تقدم الدولة على خطوة تبديل العملة لأن هذه الخطوة تحتاج إلى أموال كثيرة وفترة زمنية بعيدة، إنما كان بإمكانها منع تداول فئة الـ1000 جنيه والـ500 جنيه في النشاط التجاري على أن تقبل الفئتين في المصارف فقط، وهي خطوة يمكن أن تحد من الآثار التي تسبب بها نهب الأموال وتخفف الضغط على النقد الأجنبي بصورة كبيرة وتعود كل هذه الأموال إلى المصارف باعتبار أنها لم تكن صالحة للتداول، ولكن لم يتخذ مثل هذا القرار، وهذه الأموال أثرت بصورة كبيرة في قيمة الجنيه السوداني والدولة انتبهت أخيراً إلى أهمية خفض التحويلات اليومية في التطبيقات المصرفية، بينما كان من الضروري اللجوء إلى ذلك بشكل مبكر، مما كان من شأنه أن يحد من تدهور العملة".

ويعتقد الناير بأن التدهور في قيمة الجنيه السوداني تم بأدوات محلية وأخرى إقليمية تتدخل في هذا الأمر وتسهم في تخريب اقتصاد بلاده، داعياً الحكومة إلى العمل على تفادي نجاح هذه الأدوات في مخططاتها وإلى ضرورة إعادة عمل مصفاة النفط التي تغطي حوالى 60 في المئة من حجم الاستهلاك المحلي وتصدير 40 في المئة، إذ إنه بعد توقف هذه المصفاة اضطرت الدولة إلى استيراد 100 في المئة من حاجاتها من المحروقات، ومن ثم يمثل ذلك ضغوطاً على الدولار، وينصح الدولة بالعمل على زيادة صادراتها وترشيد الواردات لخفض العجز التجاري، وهي كلها عوامل تسهم في استقرار سعر صرف الجنيه، بالتالي يمكن للحكومة المقبلة اتخاذ تدابير عدة للحفاظ على قيمة الجنيه السوداني كي لا يحدث تدهور في الأنشطة الاقتصادية الأخرى والنهوض من جديد بالاقتصاد في ظل ما تملكه البلاد من إمكانات.

المزيد من حوارات