Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

متى تتخلص الدراما العربية من "عقدة المؤرخ"؟

من حق المخرج أن يفسح لخياله العنان بشرط ألا يتم ذلك على حساب الحقيقة

التاريخ في الدراما بنية تخييلية أكثر من كونه واقعة حقيقية (مواقع التواصل)

ملخص

يكره العرب التغيير في أمور بسيطة ذات صلة بحياتهم الحميمية، فكيف يقبلون التفكير في التاريخ بروح نقدية تحرر هذا التاريخ الذي يعتقدون أنه مجدهم وأصالتهم.

يكثر اللغو في رمضان حول الدراما العربية، خصائصها وميزاتها وجمالياتها، ويبدو المشاهد العربي في هذا الشهر متخصصاً بأحوال الدراما ومتخيلها، بل وكلما تعلق الأمر بالسياسة والجنس والدين، يجد نفسه مدعواً للانخراط في النقاش داخل وسائل التواصل الاجتماعي، في حين هناك غياب كبير للأقلام النقدية، بحكم أن النقد العربي لا يهتم بالدراما التلفزيونية مقارنة بالسينما وصناعتها، ومن ثم يجد القارئ نفسه أمام "متخصصين جدد" في المسلسلات و"السيتكومات" والبرامج الرمضانية.

يغلب على آراء مختلف المدونين كتابة الأهواء والمشاعر التي تتعامل مع العمل الدرامي وفق معدات واقعية، من بين هذه الأغاليط التي تطفح على سطح الدراما العربية علاقة هذا الإنتاج الفني بمفهومي التاريخ والذاكرة، إذ لا يفهم المجتمع أنه أمام عمل درامي يستند إلى التخيل وليس إلى أحداث الواقع، إذ على رغم اعتماد المسلسل على الواقع كمنطلق للتفكير، فهو يبقى مدعواً للتخيل البصري، لأنه في ماهيته عبارة عن عمل تخيلي وليس عبارة عن سرد يحاكي الحياة الواقعية اليومية.

الدراما والتاريخ

لم تحظ العلاقة بين التاريخ والدراما بعد بأي اهتمام يذكر من لدن الباحثين والنقاد، ذلك أن ضبابية هذه العلاقة داخل السينما نفسها، تجعل ميكانيزماتها غير مفهومة في الدراما، فإذا عدنا إلى الأدبيات النقدية لا نعثر على دراسات علمية تتيح للقارئ فهم ما يجري داخل الصورة التلفزيونية، فالمسلسلات عبارة عن أعمال فنية تخيلية، قد تستند في مجملها إلى الواقع كبنية بصرية، لكن من دون أن تعمل على محاكاته، وفي هذا الأمر ما يستحق الانتباه والتأمل، ذلك أننا أمام عمل فني إبداعي يتجاوز حدود المحاكاة صوب الإبداع والابتكار.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

فالمخرج التلفزيوني حين يريد الاشتغال على واقعة تاريخية ما، فهو يتعامل معها على أساس أنها يمكن أن تغدو ضرباً من التخيل، فهدفه ليس التدوين كما هي الحال في صنعة المؤرخ، بحيث يكون الغرض تدوين التاريخ وإعادة إنتاج المعنى، أما المخرج فيتعامل مع التاريخ كأرضية تسعفه على ابتكار لغة بصرية جديدة قادرة على تجديد التخيل الدرامي، في حين يرتكز عمل المؤرخ على نقل التاريخ وتدوينه انطلاقاً من المصادر والوثائق، سواء كانت أثرية أو مكتوبة أو بصرية.

في كتابه "كيف نكتب التاريخ؟" يقول بول فاين إن أي شخص حين "يفتح كتاباً للتاريخ يفهمه كما لو أنه رواية، أو ما يقوم به الجيران، وبعبارة أخرى أن تفسر واقعة تاريخية معناه إظهار تسلسل عقدة الحكاية، لذلك فالمؤرخ في حقيقة الأمر يشرح الحكايات ويفسر عقدها".

حين تطرح اليوم بالعالم العربي بعض الأعمال الدرامية ذات البعد التاريخي، فإنها غالباً ما تحرك الأهواء وتدفع الناس إلى إنتاج خطاب معاد لها، لا لأنهم يجدون فيها ابتعاداً عن الواقع، بقدر ما يعتبرونها خرقاً لعقيدة المؤرخ، أي إنها لا تقبل منطق الأحداث الدرامية التي يخترعها المخرج، بحيث تفرض عليه اتباع الأحداث كما هي ونقلها إلى عرش الصورة التلفزيونية.

حين طرح السنة الماضية (2023) مسلسل "ابتسم أيها الجنرال" لمخرجه عروة محمد اعتقد المشاهد أنه أمام عمل يحاكي الواقع السوري، إذ على رغم وجود كثير من الصور المطابقة لما يعيشه البلد من قتل وحيف وظلم وتهميش لا توجد علامات بصرية تؤكد ذلك، فالفضاءات التاريخية على اختلافها وتنوعها مفيدة في اختراع القصص والحكايات والعمل على تخيلها.

 

يهرب المخرج التلفزيوني اليوم من الواقع عبر إقامته في التاريخ، لكنه يجد نفسه أمام أشباح تحاصر هذا التاريخ ولا تقبل بالاشتغال عليه كمادة تخيلية، بل يريدون لهذا التاريخ أن يجسد من جديد داخل شاشاتهم، في حين أن الفلسفة تقتضي استخدام التاريخ إما من جانب تسليط الضوء على مرحلة تاريخية حساسة كان لها الأثر البالغ في ما يعيشه الفرد اليوم، أو يعمد إلى التاريخ والذاكرة من أجل إدانة الواقع اليومي.

فقدان الشرعية

يكره العرب التغيير في أمور بسيطة ذات صلة بحياتهم الحميمية، فكيف يقبلون التفكير في التاريخ بروح نقدية تحرر هذا التاريخ الذي يعتقدون أنه مجدهم وأصالتهم، فالتجربة التاريخية مهما بلغت من أهمية تبق قابلة للتفكير والنقد، فالتعامل مع التاريخ من منطلق أنه تاريخ مقدس أمر يجعلنا نعيش في سراديب هذا التاريخ، فبدلاً من أن نأخذ منه ما يفرحنا ويجعلنا نقتحم باب الحداثة، نظل متعلقين به موقفاً ورؤية ووجوداً، وحتى المسلسلات العربية التي اشتغلت على التاريخ تعاملت معه بنوع من "الحشمة" على مستوى التصوير، ولم تستطع اقتحام تابوهاته وتكشف عيوبه ومآزقه وتصدعاته، فلا غرابة أن تأتي هذه المسلسلات على صورة سيرة ذاتية تعيد تخيل سير بعض الشخصيات التاريخية خلال حقب متعددة.

 

يرى الباحث عثمان المنصوري أنه من "حق المخرج أن يفسح لخياله العنان، بشرط ألا يتم ذلك على حساب الحقيقة التاريخية، يمكنه مثلاً أن يتصور قيام قصة غرامية بين بطلين نكرتين، ويضعهما في بيئة تاريخية معينة مطابقة لما هو مكتوب عنها من طرف المؤرخين، ومن دون تداخل بين الحقيقة والخيال ومن دون مبالغة في الدور الذي يلعبه البطل".

ويقول المنصوري إن مجمل المخرجين لا يعملون على "إشراك المؤرخين في إنجاز المسلسلات التاريخية، لا بد للمؤلف أن يطلع على الفترة التي يكتب عنها، ولا بد له من استشارة المؤرخين، فكما يستشار اللغويون لتصحيح لغة المسلسل، والعلماء للتأكد من مطابقة الأحداث للكتاب والسنة، فيجب أيضاً استشارة المؤرخين المتخصصين حول اللباس والعادات والأحداث وشكل البناء والأدوات المستعملة وغيرها".

اقرأ المزيد

المزيد من فنون