Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كيف صار الانشغال المفرط الهوية المسيطرة على عالم العمل؟

سيل الرسائل عبر تطبيقات العمل وتقويمات العمل المكتظة بالمواعيد والدوامة اللانهائية من رسائل البريد الإلكتروني: لماذا بتنا مهووسين بإظهار انشغالنا في العمل بصورة مفرطة؟

رمزية الوضع: الانشغال يمكن أن يجعلنا نشعر بالحاجة (غيتي/ أيستوك)

ملخص

إذا كان المديرون يمدحون الانشغال الزائف ويمارسونه أنفسهم، فسيشعر الناس أن ادعاء الانشغال ضروري للحفاظ على وظائفهم، لكنه تصرف قد يؤدي إلى الإحباط وعدم الرضا، مما يطغى على الإنجاز الحقيقي والعمل الهادف

من المفروض أن يكون السؤال العادي "كيف كان أسبوعك؟" سؤالاً بريئاً بصورة عامة. على كل حال، في البيئة المكتبية، من المحتمل أن تتلقى مجموعة من الردود التي تشير جميعها إلى الانشغال الشديد، مثل "كان أسبوعاً مشحوناً!"، أو "لا أعرف كيف انقضى الوقت بهذه السرعة!"، أو "كان مليئاً بالعمل بدرجة لا تطاق!". بصورة أساسية، يرغب زملاؤك في إظهار مدى انشغالهم الشديد. وحتى لو كانوا يبالغون قليلاً أمام الآخرين الذين يدردشون معهم أثناء إعداد كوب من القهوة، فقد يكون هناك شيء من الصحة في شكاواهم، لأن الانشغال أصبح العنصر الرئيس في ثقافة العمل في المكاتب.

نحن نندفع لإرسال (ثم إعادة الرد على) عدد لا يحصى من رسائل البريد الإلكتروني. نحن نتدافع للرد على رسائل الدردشة عبر تطبيقات "سلاك" Slack أو "تيمز" Teams بسرعة فائقة حتى لا يظن أحدهم أننا نتراخى. نحن نجلس في اجتماعات غير ضرورية، لأنه (كما قيل لنا) من الجيد أن نكون بين الحاضرين. ونقوم بتبديل ملصقات مهامنا الملونة باستخدام أحدث برامج إدارة المشاريع، لتوثيق انشغالنا. كل هذا، بالطبع، يستهلك الوقت المتبقي لإنجاز المهام التي نوقشت إلى ما لا نهاية: في عام 2016، وجدت دراسة أن "العاملين في مجال المعرفة" (الأشخاص الذين يستخدمون تفكيرهم لكسب لقمة عيشهم ببساطة) ينفقون أقل من 39 في المئة من يوم عملهم في إنجاز العمل الفعلي، بينما تستهلك الأخماس الثلاثة المتبقية من يومهم في الاجتماعات ورسائل البريد الإلكتروني والتحديثات. لا عجب أن كثيراً من الناس يتأخرون في مكان العمل أو يحضرون باكراً من أجل الحفاظ على وظيفتهم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تفرض علينا أماكن العمل الحديثة أن نكون دائماً على أهبة الاستعداد - لكن ما هي الكلفة التي يتكبدها عملنا الذي نقوم به ورفاهيتنا؟ في كتابه الجديد "الإنتاجية البطيئة" Slow Productivity، يلخص الكاتب وأستاذ علوم الكمبيوتر كال نيوبورت مهام العمل المزدحمة مثل هذه كصورة من صور "الإنتاجية الزائفة". ويشير إلى أن إرسال سيل من رسائل البريد الإلكتروني، وإطلاق الردود على "سلاك"، وجدولة اجتماعات لا نهاية لها هي طرق سهلة وواضحة للغاية لتبدو وكأنك موظف نموذجي فائق الكفاءة، ولكن القيام بذلك يؤدي حتماً إلى صرف انتباهك عن المهام الأكثر صعوبة التي تتطلب تركيزاً جيداً.

إنفاق الوقت والطاقة على هذه الأنشطة "ذات الإنتاجية الزائفة" قد يجعل زملاءك يعتقدون أنك منظم بشدة، لكن في الواقع، كما يقول نيوبورت، أنت ببساطة تعطي الأولوية "لمهام محددة أكثر ويمكن إنجازها بسهولة أكبر". إنه شكل ضحل من الكفاءة، وهو عكس عقلية العمل "العميقة" المركزة المطلوبة لإكمال المشاريع الأكثر تعقيداً أو إبداعاً. تقول إميلي أوستن، مقدمة مدونة "ذا بيزي – نس" Busi-Ness الصوتية: "إنك بصورة أساسية تخدع نفسك والآخرين بالاعتقاد بأنك أكثر إنتاجية مما أنت عليه... في كثير من الأحيان، نقوم بأعمال غير منتجة من أجل تجنب القيام بالأشياء التي تقلقنا بشدة"، ومن أجل الحصول على جرعة بسيطة من الرضا تصاحب شطب مهمة ما من قائمة مهامك.

لدى نيوبورت أيضاً نظرية حول كيف أن أصحاب العمل يكنون تقديراً كبيراً للانشغال. ويشير المؤلف إلى أنه في صناعات مثل الزراعة والتصنيع، يكون قياس الإنتاجية بصورة ملموسة أسهل: إذ يمكنك ببساطة النظر إلى إنتاجك - عدد المحاصيل التي تحصدها أو السيارات التي تصنعها. ولكي تصبح أكثر كفاءة، يمكنك التفكير في كيفية تقليل الوقت والطاقة اللازمين لتحقيق تلك النتائج. ولكن عندما أصبح "العمل المعرفي" أكثر شيوعاً، اعتباراً من منتصف القرن الـ20 فصاعداً، لم تعد هذه الأفكار المباشرة حول الإنتاجية قابلة للتطبيق، فالعمال يقومون بمشاريع عدة في وقت واحد، ومن الصعب جداً تعقب إنتاجهم.

يقول نيوبورت إنه في غياب مقياس واضح، بدأ الرؤساء "باستخدام النشاط المرئي [الظاهر للعيان] كمؤشر أولي للإنتاجية الفعلية"، مما شجع الموظفين في نهاية المطاف على إعطاء الأولوية لهذا الانشغال الزائف. ويشير المؤلف إلى أن الأمر ساء عندما صارت أجهزة الكمبيوتر عنصراً أساسياً في الحياة المكتبية: فقد أدت، كما يقول، إلى تخصيص مزيد من يوم العامل العادي للحديث عن العمل، بأسرع ما يمكن وبصورة محمومة، عبر الرسائل الإلكترونية المتواصلة".

لكن هناك عوامل أخرى تلعب دوراً عندما يتعلق الأمر بفهم سبب هوسنا بالانشغال في الوقت الحالي. خلال جائحة كورونا، عندما أصبح العمل من بعد هو القاعدة، كانت أسهل طريقة للرؤساء لمراقبة موظفيهم هي من خلال إمطارهم بالرسائل الرقمية، ويبدو أن هذه العادة ظلت عالقة، على رغم حقيقة أن "البريد الإلكتروني والدردشة والإشعارات تجعل الانقطاع والتركيز على العمل العميق صعبين"، كما تقول الدكتورة ألكسندرا دوبرا كيل، مديرة الابتكار والاستراتيجية في شركة "بيهيف كونسالتنسي" Behave Consultancy. وتضيف أن العودة اللاحقة إلى المكتب "كانت مصحوبة بتصاعد في الاجتماعات الشخصية غير الضرورية"، والتي تنظم بحجة تحسين التواصل وغالباً ما "تعطي انطباعاً وهمياً بزيادة الإنتاجية من دون أن تترجم بالضرورة إلى نتائج ملموسة".

لكن لدينا أيضاً الصورة الأشمل: قد تجبرنا سوق العمل المضطربة على أداء أعمالنا بصورة مستمرة بحيث نبدو لا غنى عنا، كما تقول ليندسي كوهلر، عالمة السلوك الرائدة في شركة "سكارليتابوت" scarlettabbott لاستشارات مشاركة الموظفين. توضح: "نحن في مناخ وظيفي الآن حيث ينشغل الجميع باستمرار بأخبار عمليات التسريح الجماعي للعمال ومدى صعوبة العثور على وظيفة جديدة... لذلك يعتقد الناس أنهم إذا تمكنوا باستمرار من إبراز صورة أنهم مطلوبون وأنهم "موجودون" دائماً، فقد يوفر ذلك مستوى معيناً من الحماية [من التسريح]".

وتشير كوهلر إلى أن الانشغال في بعض الأحيان قد يجعلنا نشعر بالأهمية، وتقول "رؤية شخص ما مشغولاً يمكن أن تشير إلى أن الطلب عليه مرتفع للغاية... إنها تعطي دفعة جيدة للأنا: الجميع يحتاجني، أنا مشغول جداً، انظروا إليَّ". نحن نميل إلى رؤية الأشخاص المشغولين على أنهم مثيرون للإعجاب: في عام 2016، افترض مشاركون في دراسة أميركية أن الشخص الذي يتجول مرتدياً سماعة لا سلكية مهم أكثر من شخص يرتدي سماعات موصولة (من الواضح أن الدراسة أجريت في عصر ما قبل سماعات آبل اللاسلكية، إذ باتت الآن أهم علامة على الانشغال هي أن تتجول وتبدو وكأنك تتحدث إلى نفسك)، إضافة إلى ذلك، نحن نميل أيضاً إلى "تمجيد جداول العمل المحمومة للأفراد الناجحين مالياً الذين يضحون بالنوم لمدة كافية"، كما تشير دوبرا كيل. خذوا مثلاً الرؤساء التنفيذيين لشركات التكنولوجيا وهم يشيدون بفضائل بدء يومهم باكراً جداً، أو مستخدمي "تيك توك" الذين يشاركون مقاطع فيديو عن روتينهم الممتد من "الخامسة فجراً وحتى التاسعة صباحاً" المزدحم جداً قبل بدء وظائفهم التي تبدأ في التاسعة صباحاً وتنتهي في الخامسة مساءً.

في السابق، كانت الحياة المريحة هي المثال الأعلى للمكانة، لكن الآية انعكست الآن: أصبح الانشغال رمزاً للمكانة، كما تقول أوستن، التي تضيف: "لقد شجعتنا ظاهرة ’الأكثر يعني مزيد‘ على جعل جداول أعمالنا اليومية مزدحمة وممارسة نشاط جانبي أو هواية"، مشيرة إلى أن هذا التركيز على العمل المستمر قد امتد إلى حياتنا الشخصية أيضاً (جميعنا لديه ذلك الصديق الذي يود رؤيتنا، ولكنه مشغول بشكل محموم في الوقت الحالي، على كل حال، ربما يكون لديه وقت فراغ قصير الصيف المقبل).

عندما نبدأ عملاً ما، لا يستغرق الأمر وقتاً طويلاً حتى نحدد نوع السلوك الذي سينقلنا إلى القمة. تقول كوهلر: "يدور جزء كبير من ثقافة الشركات في الواقع حول ما يجري الإشادة به، وما الذي يكافأ عليه المرء، ونوع الأشخاص الذين يحصلون على الترقيات". يعني هذا أنه إذا كان الزميل الذي يجلس بجوارك لديه "تقويم مكتظ بالمواعيد"، ويوجد شخصياً "للعمل لساعات طويلة، بغض النظر عن العمل الذي يقوم به أو القيمة التي يضيفها بالفعل"، ويتلقى الإشادة باستمرار، فمن المحتمل أن تقوم بتقليده كي تتسلق السلم. في نهاية المطاف، غالباً ما يكافئ العمال على كونهم مشغولين، بدلاً من قيامهم بعملهم بصورة جيدة. وتقول كوهلر إن هذا "يستنزف الطاقة والموارد التي كان حرياً إنفاقها في أماكن أخرى"، من ثم ستجد نفسك بلا محالة في نهاية الأمر "مع أشخاص متعبين يركزون على الشيء الخاطئ".

ومن الممكن أن نصاب بخيبة الأمل أيضاً. تقول دوبرا كيل: "إن إعطاء الأولوية لمظهر الانشغال يمكن أن يؤدي إلى الإحباط وعدم الرضا، مما يطغى على الإنجاز الحقيقي والعمل الهادف". يمكن أن تكون مشاعر التشاؤم هذه تجاه عملك إشارة خطر بارزة على الاحتراق الوظيفي.

من الواضح أن الانشغال لا يجدي نفعاً، وتعتقد كوهلر أن وباء الإنتاجية الزائفة هو بمثابة "إنذار مبكر عن كارثة موشكة"، ويشير إلى مشكلة "أكبر بكثير" تتعلق بثقافة المكتب: حقيقة أن الموظفين لا يصدقون أن رؤساءهم يثقون بأنهم سينجزون عملهم. تقول "يحتاج المديرون إلى معرفة كيف يمكنهم تحسين الثقة، لأن الناس إذا لم يشعروا بأن الإدارة تثق بهم للقيام بعملهم بالطريقة التي يرونها مناسبة، فقد يعوضون ذلك من خلال ’انشغالهم‘ لضمان أن يبقوا مرئيين... لذلك تجد نفسك في نهاية المطاف في مكان تتجول فيه مجموعة من الحمقى المشغولين".

تؤيد أوستن هذا الكلام وتقول "إذا كانت رؤية الآخرين لعملك تثير قلقك باستمرار، فأنت تقلق للأسباب الخاطئة". تمثل الثقة جزءاً كبيراً من السلامة النفسية في العمل، والتي يمكن تلخيصها في توفير جو يشعر الأشخاص فيه بأنهم يستطيعون تبادل الملاحظات والأفكار بحرية ومن دون انتقام: تضيف كوهلر أن العاملين في مكان آمن نفسياً، لن يشعروا بالقلق من "رفع أيديهم وقول ’لو سمحتم، أنا أشعر بالملل، ربما يمكنني العمل على هذه المهام ذات القيمة الأكبر".

وفي نهاية المطاف، يبدو أن التغيير يجب أن يأتي من قمة الهرم الوظيفي. تقول كوهلر: "إذا كان المديرون يمدحون الانشغال الزائف ويمارسونه أنفسهم، فسيشعر الناس أن ادعاء الانشغال ضروري للحفاظ على وظائفهم، وفي الوقت الحالي، هذا هو أهم ما يدور في أذهان أناس كثر... وهذا يخلق دوائر سلوكية سامة ومرهقة حقاً وغير ضرورية... سيكون الجميع في وضع أفضل إذا قمنا بكسرها".

كتاب "الإنتاجية البطيئة: الفن المفقود للإنجاز من دون إرهاق" متوفر في الأسواق

© The Independent

اقرأ المزيد

المزيد من منوعات