Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل أصبح الإنسان منظومة رغبات تتلقى التوجيه من آلة الاقتصاد؟

آفة العصر... ارتفاع وتيرة الاستهلاك والشعور الدائم بالرغبة والحاجة إلى الاقتناء

الاستهلاك سمة المجتمعات ودوامة لرغبات لا تنتهي (pxhere)

ملخص

ينسجمون مع الآلة الاجتماعية من دون أي احتكاك، بشر يمكن قيادتهم من دون الحاجة إلى القوة، يقادون من دون قادة

أينما يممت وجهك فأنت مدعو إلى الاستهلاك، كل شيء يدور في دوامة الاستهلاك من سلع مادية ومعنوية وحتى روحية متجددة الاستهلاك، فلا يستطيع الإنسان الحالي الهرب من براثن الإغواء من خلال التسويق والدعايات وما يرافقها من متطلبات العصر، ليشعر الإنسان بالحاجة إلى أشياء تنقصه على رغم أنه قد يكون لديه كل ما يحتاجه، لكن توجهات اليوم تفرض استهلاك ما لا يحتاجه المرء من دون تفكير مسبق أو التوقف للحظة والسؤال: هل حقاً أحتاج هذا الشيء؟

فمن الولايات المتحدة الأميركية انطلقت هذه النزعة وانتشرت مثل النار في الهشيم في معظم مجتمعات العالم حتى غدا الإنسان نفسه هو السلعة، بحسب علماء نفس.

سعادة أم انتحار؟

هناك اعتقاد واسع الانتشار في العالم بأن كل الحاجات الإنسانية ستلبى إذا بلغ نموذج الإنتاج الصناعي درجة الكمال، خصوصاً في الولايات المتحدة الأميركية ومن بعدها معظم دول العالم في القارات المختلفة، فإذا ما حصل الإنسان وفقاً لهذا الافتراض على طعام كاف وكثير من وقت الفراغ وفرصة استهلاك متزايدة، فسيكون سعيداً وسليماً عقلياً.

لكن أصواتاً متزايدة ارتفعت مشككة في هذا التفاؤل، وتسأل بعض المراقبين لماذا كان كثير من البلدان المتقدمة والمزدهرة مثل السويد وسويسرا تعاني أعلى مستويات الانتحار وإدمان الكحول في القرن الـ20، مع عودة الرقم ليتصاعد بعد أن انخفض خلال الأعوام السابقة؟ ولماذا يكون البلد الأغنى في العالم، الولايات المتحدة الأميركية، هو المثال الأبرز لحقيقة أننا نعيش في "عصر القلق"؟

وعن هذا يقول عالم النفس والفيلسوف الألماني إيريك فروم في كتابه "كينونة الإنسان"، "لماذا نرى البلدان الأكثر تقدماً اقتصادياً في العالم تهدد البلدان الأخرى بالفناء الكلي وتهدد نفسها بالانتحار الكلي؟ هل هذا فقط لأن التصنيعية لم تحقق كل أهدافها بعد؟".

طاعة سلطة مجهولة

ويقول فروم إن "نمو النظام الصناعي الحديث الذي أفضى إلى مزيد ومزيد من الإنتاج وإلى زيادة في توجه المستهلك، أصبح الإنسان فيه جامعاً ومستخدماً، وأصبحت تجربة حياته المركزية أكثر فأكثر قائمة على أنا أملك وأنا أستخدم، فوسيلة الرفاه المادي الإنتاج، وإنتاج السلع أصبحت غاية بحد ذاتها".

انحلت روابط التآزر العائلي والاجتماعي من دون أن تحل محلها روابط جديدة، فالإنسان العصري وحيد وقلق، إنه حر لكنه خائف من هذه الحرية، وهو يعيش كما قال عالم الاجتماع الفرنسي إميلي دوركهايم، "في حال من عدم استقرار، فقد أمل الإنسان العصري أن يصبح فرداً لكنه أصبح ذرة قلقة يجري تقاذفها إلى الأمام والوراء، كما تطورت الصناعة والاقتصاد بشكل فعال لدرجة أنها كشرط للتشغيل، تحتاج إلى بشر يصبحون مستهلكين، بشر على استعداد لطاعة سلطة مجهولة بينما يعانون وهم كونهم أحراراً ولا يخضعون لأية سلطة"، بحسب علم النفس السلوكي.

وتسيطر على الإنسان العصري المنتجات التي يصنعها بيده ويصبح هو نفسه شيئاً، وفي هذا السياق يقول فروم إن "أولويات الصناعي هي التوازن، الكم والحاسبة والسؤال هو دوماً ما هو المهم؟ ما الذي يحقق الأرباح؟ مبادئ المحاسبة والتوازن والفائدة هذه جرى تطبيقاتها في الوقت نفسه على الإنسان، وقد امتدت من الاقتصاد إلى الحياة البشرية بأسرها، فأصبح الإنسان مشروعاً، فحياته هي رأسماله ومهمته استثمار رأسماله هذا قدر الإمكان، وإذا ما جرى استثماره جيداً فهو ناجح، وإن استثمر حياته بشكل سيئ فهو فاشل، وهكذا يتشيأ ويصبح هو نفسه شيئاً، والنقطة المهمة هنا هي أنه عندما يصبح المرء شيئاً يموت حتى وإن كان مرئياً (لايزال حياً)، وإن كان المرء ميتاً روحياً على رغم أنه حي فيزيولوجياً فعندئذ لا يغدو خاضعاً فقط للتآكل بل يصبح خطراً على نفسه والآخرين".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مرض الاغتراب

لذلك يعاني إنسان هذا العصر، بحسب إجماع بعض العلماء كماركس وإيكارت وفروم، مرض الاغتراب، إذ يبحث الشخص غير الناضج عن صنم، فإن وجد صنماً، شخصاً أو شيئاً، يستطيع أن يصلي له طوال حياته، وهذا هو نوع الإنسان الذي نجحت النزعة الصناعية في إنتاجه، والإنسان المتغرب متغرب، بمعنى أن أفعاله وقواه قد أصبحت غريبة عنه، فهي تقف فوقه وضده وتحكمه بدلاً من أن يكون هو المتحكم بها، ولقد حولت قوى حياته إلى أشياء ومؤسسات، وقد أصبحت هذه الأشياء والمؤسسات أصناماً، وهو يعايشها لا باعتبارها نتيجة جهده الشخصي بل كشيء منفصل عنه، شيء يعبده ويخضع له، إنه إنسان متغرب ينحني أمام ما أنتجته يداه.

وهو نوع الإنسان بحسب علم النفس السلوكي الذي يحتاجه المجتمع لضمان حسن سير عمله، فهم بشر يتعاونون بسهولة في مجموعات كبيرة، بشر يريدون أن يستهلكوا المزيد، بشر موحدو الأذواق ويمكن التأثير في توقعاتهم بسهولة، إنه يحتاج بشراً يشعرون أنهم أحرار ومستقلون ولا يخضعون لأية سلطة أو مبدأ أو ضمير، ومع ذلك هم راغبون في أن يفعلوا ما هو متوقع منهم، وأن ينسجموا مع الآلة الاجتماعية من دون أي احتكاك، بشر يمكن قيادتهم من دون الحاجة إلى القوة، يقادون من دون قادة، ويدفعون دونما هدف سوى أن يكونوا في حركة دائمة، أن يعملوا أن يمضوا قدماً إلى الأمام.

مدعم الذاتية

كما أن استهلاكنا تقرره شعارات الإعلان بدلاً من حاجاتنا الأساس وحاسة الذوق أو النظر أو السمع، وبذلك لا يعي الإنسان أنه يستغرق معظم وقته في الاستهلاك، فيتحول لنظام رغبات وإشباع، فعليه أن يعمل كي يشبع رغباته، وهذه الرغبات ذاتها تتلقى التنبيه والتوجيه الدائمين من آلة الاقتصاد.

وعن هذا يقول المعلم الروحي إيكهارت تول في كتابه "الأرض الجديدة"، "يعلم العاملون في مجال الترويج الإعلاني أنهم إذا أرادوا بيع المنتجات التي لا تحتاجها العامة بشكل حقيقي فإن عليهم أن يقنعوا الآخرين بأن تلك المنتجات ستضيف شيئاً لهم وتحسن صورتهم في أعين الآخرين، وبمعنى آخر تضيف شيئاً ما إلى إحساسهم بالذات، ويؤدون هذه المهمة على سبيل المثال من خلال إقناعك بأنك ستكتسب مظهراً لائقاً بين العامة عندما تستعمل هذا المنتج، وبالتالي ستشعر بالرضا عن الذات، أو ربما يخلقون عنصراً مشتركاً بين المنتج وشخص ما مشهور، لذلك في أحوال عدة أنت لا تشتري المنتج وإنما مدعم الذاتية، فعلامات المصمم تشكل بشكل رئيس ذاتيات جماعية تقوم أنت بشرائها".

ويضيف، "إن العملية التي تحافظ على ما يدعى المجتمع الاستهلاكي تنطوي على حقيقة مفادها بأن تلك المحاولة لإيجاد نفسك من خلال التماهي مع الأشياء هي محاولة لا تعمل باستمرار، فإرضاء الأنا لا يمكن أن يدوم لفترة طويلة، وهكذا بوسعك البحث عن مزيد والاستمرار في الشراء والاستهلاك".

اقرأ المزيد

المزيد من منوعات