Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

النحات برانكوزي بلغ جوهر الأشياء وضوءها الخفي

معرض في مركز بومبيدو يعيد قراءة مساره متوقفاً عند مصادر فنه وموضوعاته

منحوتة لبرانكوزي في معرض مركز بومبيدو (خدمة المعرض)

ملخص

يستعيد مركز بومبيدو في باريس أعمالأ متعددة للنحات الفرنسي الروماني الأصل، قسطنطين برانكوزي، في معرض استعادي يقدم من خلاله صورة شاملة لتجربة هذا الفنان العالمي الرائد. المعرض يتناول مسار النحات والمراحل التي اجتازها وحقق عبرها إنجازاته الفريدة في عالم النحت.

في العام 1904، عبر فنان روماني شاب أوروبا مشياً قاصداً باريس بغية الإقامة فيها والاستقرار. في هذه المدينة التي كانت آنذاك في حالة غليان ثقافي، ابتكر مَن كان يدعى قسطنطين برانكوزي (1876 ــ 1957) طريقة جديدة في النحت جعلت منه أبا المنحوتة الحديثة. ولا عجب إذاً في الفتنة التي مارسها عمله بسرعة على معاصريه الذين كانوا يأتون إلى محترفه للتأمل في منحوتاته. محترف كان بمثابة مكان حياة وإبداع وعرض، صمّمه الفنان كعمل فني بذاته، ثم وهبه للدولة الفرنسية قبل رحيله، فرصد مركز بومبيدو الباريسي له صالة خاصة داخله أعيد فيها تشكيله كما كان تماماً.

يشكّل هذا المحترف اليوم المحور الرئيس للمعرض الاستعادي الضخم الذي ينظّمه المركز المذكور حالياً لبرانكوزي، ويقترح فيه قراءة جديدة لمسيرته، لمصادر فنه وللموضوعات الكبرى التي واصل استكشافها بعمق، مسلطاً الضوء على تنوّع وسائط إبداعه: النحت، الرسم، التصوير الفوتوغرافي والسينمائي... ومبيّناً قدراته المدهشة على الابتكار، بحثه الدؤوب عن الجمال، وبالتالي حيوية فنان انخرط كلياً في عصره، وأنجز أعمالاً باهرة لا يزال لغز سحرها كاملاً، ولعل مفتاحه يكمن في ما كان يردده صاحبها على زواره: "يجب عدم احترام منحوتاتي، بل حبّها واللعب معها".

في الصالة المحورية للمعرض، ينتظرنا إذاً برانكوزي بالذات داخل محترفه. هكذا نعرف أنه سكن مكاناً مطلياً كلياً باللون الأبيض، وأن شعره ولحيته كانا أبيضين أيضاً، مثل وزرته ومقاعده الحجرية وطاولته المستديرة الكبيرة، وحتى غبار عمله الذي كان يغلّف كل شيء بالبياض. أبيض أيضاً كان طائره الرخامي الموضوع على قاعدة عالية قرب النافذة، مثله مثل نبتة المانيوليا الكبيرة، والطاولة التي تركن إليها. وفي فترةٍ ما، كان يعيش مع كلب أبيض وديك أبيض. من هنا الانطباع المدهش بالوضوح والضياء الذي كان يستحوذ زوار محترفه، الذين كانت تستقبلهم منحوتات مشدودة نحو السماء، تستحضر بشكلها الديك، الحيوان الذي يرمز بنشيده إلى شروق الشمس، ويجسّد فكرة البداية المتجددة التي تطبع كل فن برانكوزي.

دعوة رودان

في الصالة الثانية، نعرف أن الفنان وصل إلى باريس في سن الثامنة والعشرين، ولفت انتباه رودان بمواهبه، فدعاه للعمل معه كمساعد عام 1907. لكن شخصية هذا الأخير القوية، دفعته بسرعة إلى إيقاف هذا التعاون للعثور على طريقه الخاص، كما تشهد على ذلك ثلاث منحوتات مهمة أنجزها بين عامي 1907 و1908: "القبلة"، "حكمة الأرض" و"الصلاة"، وتخلى فيها عن تقنية القولبة لصالح النحت المباشر، كما تخلى عن العمل وفقاً لموديل، مفضلاً إعادة ابتكار هذا الأخير مثلما حفظه في ذاكرته. وعلى رغم أصالته، يبدو فنه وكأنه بوتقة لكل ما كان ممكناً أن يراه في باريس آنذاك: المنحوتات القديمة أو غير الأوروبية في متحف "اللوفر" ومتحف "غيميه"، وأيضاً لوحات بول غوغان التوحشية وأبحاث أندريه دوران التكعيبية. تأثيرات ما لبثت أن انصهرت داخل عمله ضمن سيرورة تبسيطه الأشكال وتجزئتها، بغية التعبير عن "جوهر الأشياء"، كما في سلسلته حول موضوع رأس الطفل.

وكُرِّست الصالة الثالثة لهذه السيرورة التي قادت برانكوزي إلى إزالة التفاصيل من منحوتاته، وبدأت بتأملٍ في موضوع الجسد الأنثوي، أفضى إلى عدم احتفاظه من منحوتته "امرأة تتمرّى"، الكلاسيكية، سوى القوس الذي يجمع الرأس والثدي، فكانت منحوتته الشهيرة "الأميرة إيكس". هل يتعلق الأمر بفتاة عذراء؟ بصورة مثالية للمرأة؟ أم بقضيب منتصب؟ الجانب الملتبس لهذه المنحوتة أحدث فضيحة في ذلك الحين وأدى إلى رفضها في معرض "صالون المستقلين" عام 1920. التباس يشكّل الميزة الأولى لفنّ هذا العملاق الذي يقوم على استثمار ازدواجية المعنى وفكرة التحول، واللعب على وتريهما، عبر صهر المذكر والمؤنث داخل الصورة نفسها، مما يستحضر موضوع الخنثى (androgyne)، الحاضر منذ منحوتة "القبلة". التباس يتجلّى بقوة في منحوتة "جذع شاب" التي يتعذّر حسم جنسها، وتشكّل خير مثال على بلبلة صاحبها، النظام الرمزي المعتمد للفصل بين الجنسين، ضمن مسعى ينسجم مع الروح الدادائية التحريضية التي كانت تطبع آنذاك النشاط والسلوك لدى أصدقائه مارسيل دوشان، مان راي وتريستان تزارا.

في الصالة الرابعة، نرى تداعيات هذا الالتباس داخل موضوع البورتريه الذي احتل مكانة مركزية في فن برانكوزي. فبابتعاده عن المرئي لبلوغ الجوهر، أسقط الفنان كلياً ملامح الوجه البشري، والأنثوي تحديداً. وبينما احتفظت عناوين منحوتاته بأسماء صديقاته ورفيقات دربه اللواتي ألهمنه هذه الأعمال، انصهرت شخصياتهن واندمجت داخل وجه واحد منمّق، بيضاوي وأملس، فأصبحن "غير متماثلات تماماً، وغير مختلفات كلياً"، تتميز كل واحدة منهن بعلامة فارقة، مثل عينين لوزيتيّ الشكل، تسريحة على شكل كعكة، شَعر أجعد أو متموّج... ومن خلال هذه البورتريهات، طرح الفنان سؤال التشابه والتمثيل.

في الصالة الخامسة، نتأمل المنحوتات التي عالج برانكوزي فيها موضوع الطائر على مدى ثلاثة عقود وفقاً لتنويعات لا تحصى بمواد الرخام والبرونز والجصّ. عملٌ انطلق عام 1910 مع سلسلة "طيور ماياسترا" ذات الأجساد المستديرة والرقبة الطويلة والمنقار المفتوح على وسعه، وقد استلهم موضوعها من طائر خرافي من الحكايات الشعبية الرومانية. لكن في العشرينيات، عمد إلى تبسيط الشكل، تنحيفه ومدّه عمودياً إلى حد الانحلال، لدى ابتكاره سلسلة "طيور في الفضاء". سلسلة يرمز الطيران فيها إلى حلم الإنسان في الإفلات من وضعه الدنيوي والارتقاء روحياً.

منحوتات متنوعة

وفي الصور التي التقطها داخل محترفه، وتحتل مختارات منها فضاء الصالة السادسة من معرضه، نرى كيف عمد برانكوزي إلى تأطير منحوتاته من أقرب مسافة ممكنة، مستثمراً القوة الاستحضارية لموادها. صور يتجلى فيها تناقض أسطُح منحوتاته المصقولة مع قطع معدنية خام أو منحوتة بشكل فظّ، وبالتالي ذلك التلاعب بالمواد، الملموس بقدر ما هو بصري. نرى أيضاً في هذه الصور كيف تبدو كل منحوتة فريدة ومتعددة في آنٍ واحد، داخل عمله المتسلسل، وكيف كان يولي اهتماماً خاصاً في القاعدة التي تركن عليها، فيشيّدها من أشكال هندسية بسيطة (صليب، مكعّب، قرص...)، تمنح الانطباع بإيقاع تصاعدي حيوي. وبذلك، كان الفنان أول من شكّك بالوظيفة التقليدية للقاعدة كمجرّد ركيزة غايتها رفع المنحوتة وتمييزها عن محيطها، وذهب أحياناً إلى حد تحويلها إلى منحوتة مستقلة بذاتها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

"من الحياة الحقيقية لا نرى سوى انعكاسات"، كتب برانكوزي. وبصقله البرونز إلى أقصى حد، بلغ سطوحاً لامعة مثل مرآة، تمنح منحوتاته إمكان تجاوز نفسها والإفلات من نطاقها. هذا ما يظهر في الصور والأفلام التي تحضر في الصالة السابعة، وتعكس افتتانه بألق الضوء وقدرته على تحويل الأشكال، وبقدرة المنحوتة المعدنية المصقولة على امتصاص صورة ما يحيط بها ومَن يقترب منها، وعكسِها بعد تحريفها، وبالنتيجة، بسحر لعبة الانعكاسات هذه، المتحركة والمتغيّرة دوماً، التي تبثّ الحياة في المنحوتة وتحوّلها إلى "كائن متحرك"، بحسبه.

في الصالة الثامنة، تحضر نماذج من المنحوتات التي أنجزها برانكوزي في الثلاثينيات والأربعينيات حول موضوع الحيوان، وتعكس تطوّره نحو أشكال مائلة أو أفقية. وضمن الحيوانات المنحوتة، نميّز مجموعتين: تلك المجنّحة (ديوك، بجع، عصافير صغيرة...)، والحيوانات المائية (سمك، فقمات، سلاحف...). وسواء انبثقت من هذه المادة أو تلك، بهذا الشكل أو ذاك، تستجيب جميع هذه المنحوتات للمبدأ الطبيعي (naturaliste) لكل نوع حيواني مقارَب. ومن خلال تبسيطه أشكالها، هدف الفنان إلى بلوغ تصوير رمزي للحيوان، وإلى تجسيد حركته النموذجية.

ولا يهمل المعرض في خاتمته الرغبة التي لازمت برانكوزي طوال حياته في إنجاز أعمال شديدة الضخامة، فيتوقف عند استعادته مراراً وتكراراً موضوع القبلة، ومعالجته إياه في النهاية بأسلوب هندسي منمّق، في شكل "عمود لا نهاية له"، وهو عنوان المنحوتة التي تنبثق من قاعدة خشبية متواضعة، وترتفع بشكلٍ موقّع في الفضاء من خلال تكرار النموذج الهندسي نفسه، كما لو أنها حلقة وصل بين الأرض والسماء، بين حمّى الجسد ونشوة الروح.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة