Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الإبداع الروائي وشغف الواقع في "المدن الثلاث" لزولا

أفكار صالحة لأيامنا الراهنة تؤكد أن الخراب مستحب شرط أن تتلوه إعادة بناء لا بد منها

كتب زولا روايات خالدة لعل أهمها سلسلة "روغون– ماكار" المؤلفة من عدد كبير من الروايات المتصلة– المنفصلة (غيتي)

ملخص

"المدن الثلاث" تتألف من ثلاثة نصوص روائية طويلة يحمل كل واحد منها اسم واحدة من المدن الثلاث التي تدور فيها أحداث متواصلة تتمحور جميعها حول شخصية الأب بيار فرومان: لورد في الجنوب الفرنسي، وروما وباريس.

لا شك أن إميل زولا يعتبر واحداً من كبار الروائيين الفرنسيين الذين أمنوا النقلة الأساسية بين أدب القرن الـ19 وأدب القرن الذي يليه، واضعاً نفسه وأدبه في مكان متقدم جداً في الخط الذي يضم كبار الروائيين الفرنسيين من ستندال إلى هوغو ومن فلوبير إلى بلزاك.

وعلى غرار هؤلاء ما كان من شأن زولا، في مجمل أعماله الروائية، أن يكتفي بكونه أديباً، بل كان يرى في نفسه أيضاً، وربما خصوصاً، مصلحاً اجتماعياً يسخر أعظم ما في أدبه لنشر أفكار راديكالية وإنسانية تعلن غضبه على الصغائر والأفكار الوضيعة.

ومن هنا لم يكن غريباً أن يتصدر في سنواته الأخيرة، تلك المعركة الصاخبة التي عاشتها فرنسا من حول قضية الضابط درايفوس، في وجه اليمين المتطرف الفرنسي. ونعرف أنه، ضمن ذلك الإطار كتب واحداً من أهم نصوصه غير الروائية والمعنون "إني أتهم"، النص الذي أحدث تبديلاً جذرياً في توجه قضية درايفوس الذي يعتبر حتى اليوم، معلماً أساسياً من معالم النضال الثقافي الفرنسي من حول القضايا العادلة، وتدخل المثقفين في الحياة العامة!

روايات لا تزال حية

مهما يكن من أمر، نعرف أن زولا كتب روايات خالصة وخالدة لعل أهمها سلسلة "روغون– ماكار" المؤلفة من عدد كبير من الروايات المتصلة– المنفصلة، كما كتب نصوصاً غير روائية إلى جانب "إني أتهم" ولعل أبرزها كتابه الجامع "الحقيقة تسير قدماً".

وإلى جانب هذا كتب تحقيقات صحافية لافتة، كان بعضها مجرد تحضيرات لصياغة رواياته. ولعل في إمكاننا على أية حال أن نقول أيضاً إن ثمة من بين أعمال زولا ما هو بين بين، أي هي نصوص روائية كتبت لغايات فكرية خالصة. أو نصوص فكرية أعطاها الكاتب، في صورة واضحة، سمات روائية.

 

ويمكننا أن نصنف في هذا السياق، تلك الثلاثية التي ستكون من آخر ما صاغ زولا في حياته بعنوان "المدن الثلاث"، وهي كما يدل العنوان، تتألف من ثلاثة نصوص روائية طويلة يحمل كل واحد منها اسم واحدة من المدن الثلاث التي تدور فيها أحداث متواصلة تتمحور جميعها من حول شخصية واحدة هي شخصية الأب بيار فرومان: لورد في الجنوب الفرنسي، وروما وباريس.

محصلة فكرية دينية

لقد كان إميل زولا واضحاً منذ البداية حين كتب أن "ثلاثيتي هذه، التي ستتضمن محصلة فكرية دينية وفلسفية واجتماعية للقرن الذي عشناه، ستكون أقل تشاؤماً من بقية كتاباتي، إذ سيحركها نفس مثالي عابق بالأمل".

والحقيقة أن الذين علقوا على كلام زولا هذا، قالوا يومها: ها هو ذا الكاتب الاشتراكي الراديكالي الذي "نفخنا بعلمانيته وبكلامه اليائس عن الشرط الإنساني"، يعود إلى حظيرة الإيمان كما يفعل كل المكتهلين، غير أن الذين قالوا هذا الكلام سيعلنون خيبة أملهم لاحقاً ما إن تصدر أجزاء الثلاثية تباعاً.

فالجزء الأول "لورد" صدر أولاً على شكل حلقات في مجلة "جيل بلا" قبل أن ينشر في كتاب مستقل. وهذا الجزء يعرفنا على بطل الثلاثية الأب بيار الذي يقدم إلينا مليئاً بالشكوك هو الذي قهر غرام شبابه تجاه الصبية ماري إذ أصيبت من دون توقع بمرض غريب جمد حركتها الجسدية والفكرية وحار في أمره الأطباء، حتى تقرر أخيراً الحج بها إلى مدينة لورد حيث تقع المغارة التي اشتهرت بعجائبها ومكرماتها.

صحيح أن الرواية ستنتهي بنجاح المسعى واستعادة ماري حركتها، لكن هذا النجاح لن يشفي الأب بيار من شكوكه، بل سيزيد من حدتها خصوصاً أنه سيتأمل عبر صفحات رائعة كتبها زولا، مشاهد الهلوسة الجماعية في المغارة وتكالب الفريسيين وشتى ضروب النصب والاحتيال والتجارة "الدينية" التي يمارسها كهنة يتنافسون في ما بينهم تماماً كما يفعل تجار الهيكل الذين طردهم السيد المسيح ذات يوم.

وإزاء هذا الوصف الذي كان من الواضح أنه كان هو في الأساس غاية زولا من كتابته هذه الرواية التي كانت فكرتها قد ولدت لديه عام 1892 لدى زيارة فضولية قام بها إلى المغارة، إزاء هذا الوصف اشتدت الحملة على الكاتب من لدن أوساط اليمين المتطرف، أما هو فقرر لحظتها أن يصدر الجزء الثاني الذي كان خطط له منذ البداية، إذ كان مشروعه أن يكون العمل في جزءين.

الأب الشكاك في روما

وهكذا، بعد أشهر، وبعد رحلة إلى روما استغرقت ستة أسابيع، ولد لديه الجزء المكمل تحت عنوان "روما" وفيه يكون الأب بيار فرومان قد سافر إلى بلد البابوية لكي يراجع في شأن اتخاذ الفاتيكان قراراً بحظر رواية كتبها ونشرها بعنوان "روما الجديدة" تتناول في موضوعها حكاية حب بطلاها الشابان داريو وبنيديتا اللذان ينتهي الأمر بهما إلى الموت سماً بفعل آل بورجيا.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولنذكر هنا أن إميل زولا نفسه كانت كتبه قد منعت من قبل الكنيسة بسبب السجال الذي أثارته رواية "لورد" وأنه بالفعل زار روما آملاً مقابلة البابا ليون الثالث وإقناعه بسلامة نواياه الدينية وأن غايته إصلاحية لا إلحادية، لكن البابا رفض استقباله.

ومن هنا يمكن القول إن أحداث رواية "روما" إنما هي صدى واضح لما عايشه زولا بالنسبة إلى علاقته بالفاتيكان. وهكذا، حتى وإن كانت رواية "روما" قد اعتبرت أضعف من "لورد" ومفتعلة في العديد من سماتها ومواقفها، فإنها من الناحية الفكرية، تبدت أكثر راديكالية منها بكثير، خصوصاً أن زولا صور بطله بيار هنا أكثر تشككاً وأقرب إلى الابتعاد عن سلك الكهنوت وقد بات ميالاً إلى نوع من "مسيحية جديدة" تتضمن، ولكن من خارج الكنيسة، كل التعاليم التي جاء بها السيد المسيح من بر وإحسان ومحبة للآخر وفعل للصواب.

من الواضح أن بطل إميل زولا هنا يقترب أكثر وأكثر من أفكار مشابهة كان يعبر عنها، في روسيا البعيدة في ذلك الحين، الكاتب الروسي الكبير ليو تولستوي وقد حول نفسه مصلحاً دينياً واجتماعياً.

الأصوات الغاضبة

وكان من الطبيعي أن تثير هذه الرواية الجديدة مزيداً من ثائرة اليمين الفرنسي والإيطالي المتطرف، خصوصاً أنها نشرت مسلسلة في صحيفة "الجورنال" الباريسية، وصحيفة "لاتريبونا" في روما خلال عام 1898 لتنشر بعد ذلك في كتاب.

وهنا إزاء رد الفعل الغاضب الذي كان لرواية "روما" والذي أسهم في رفع مبيعاتها إلى أرقام قياسية – حتى وإن لم تصل إلى الـ 120 ألف نسخة التي بيعت من "لورد"، قرر إميل زولا أن يوسع من الدائرة وأن يستكمل جزءاً ثالثاً، وأخيراً من "الثلاثية"، فكتب "باريس" التي كانت أصلاً فكرة مستقلة خامرته باكراً والغاية منها الإحاطة بالجو النضالي الفوضوي الذي كان سائداً في العاصمة الفرنسية خلال النصف الأول من تسعينيات القرن الـ19.

هكذا ربط زولا مشروعه القديم هذا بروايتي "لورد" و"روما" وجعل من بطله بيار فرومان هذه المرة مدنياً وقد انتهى به الأمر إلى خلع ملابس الكهنوت بعد أن وصلت أزمته الروحية إلى ذروتها، كما بات الرجل الآن زوجاً وأباً لأطفال. والأهم من هذا كله أنه عاد، وعلى غير توقع، للالتقاء بأخ له يكبره بـ20 عاماً. وكان هذا الأخ يعمل في شؤون الكيمياء على غرار ما كانت عليه حال والدهما الذي عرفنا في الجزء الأول أنه قضى خلال اختبار في مختبره، فاعتبرت الأم ذلك الموت حكماً من العناية الإلهية مما دفعها يومها إلى إجبار بيار على سلوك درب الكهنوت تكفيراً عن "خطيئة الأب".

 واليوم ها هو ذا بيار العلماني، إنما الخائض غمار مسيحيته الإنسانية العميقة في صدقها وبرها، يخوض على الضد من أخيه سجالات لا شك أنها تبدو - بالنسبة إلينا اليوم في بدايات القرن الـ21 - بالغة الأهمية والراهنية. فهي تتناول العنف والإرهاب والنزعة الفوضوية من خلال التعارض بين بيار المصر على نزعته السلمية على رغم كل ما عاناه وعايشه، وأخيه الذي لا يرى إمكانية لإصلاح العالم إلا في تدميره وإشاعة العنف والإرهاب فيه.

وفي النهاية نجدنا هنا أمام منطقين، في خاتمة "باريس" كما في خاتمة الثلاثية يكاد كل منهما يعبر بصدق عن تلك الدوامة التي كان يعيشها إميل زولا (1840 – 1902) في سنواته الأخيرة: منطق إصلاحي يرى الخلاص في إعادة تنظيم المجتمع لمقارعة الفقر الذي هو آفة الآفات، ومنطق "ثوري" يتأمل أحوال البلاد والعباد فلا يرى مفراً من الخراب كتمهيد لإعادة البناء على أسس جديدة.

المزيد من ثقافة