Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الحروب النفسية تهرق الدماء أيضا

لعبت دوراً خطراً في الصراعات عبر الأجيال وأضحت وسائل التواصل الاجتماعي وأدوات الذكاء الاصطناعي أسلحة تلك المعارك الصامتة

الحروب النفسية لا تستهدف الجنود فحسب بل تسعى في طريق الحكومات والمنظمات والجماعات والأفراد (غيتي)

ملخص

ليست الحروب النفسية قصة قديمة بقدر ما هي معارك متجددة، وما أحداث غزة والضربات الجوية المتبادلة بين إسرائيل وإيران ببعيدة، والذكاء الاصطناعي سيفتح لها عصراً جديداً

هل بدأت الدول والجماعات البشرية في العودة إلى عالم الحروب النفسية درءاً للوقوع في براثن الحروب النووية وإفناء البشرية؟

المؤكد أن حديث الحروب النفسية أمر ليس بالجديد، فقد جاء به الأقدمون من أمثال الباحث الصيني الشهير "صن تزو" في رائعته التاريخية "فن الحرب"، لا سيما حين تحدث عن القدرة على اكتساب المعارك من دون إطلاق النار ومن خلال وسائل أخرى.

عبر التاريخ الطويل عرفت البشرية أنواعاً مختلفة وأصنافاً متعددة من الحروب الذكية تلك التي لعبت فيها أدوات أخرى غير النار والدمار دوراً مهماً وحاسماً في الفوز بها.

يشير مصطلح الحرب النفسية أول الأمر إلى أي فعل يمارس وفق أساليب نفسية لاستثارة رد فعل نفسي مخطط في الآخرين.

ولعله في حكم المؤكد أن تلك الحروب لا تستهدف الجنود والقوات العسكرية فحسب، بل تسعى في طريق حكومات ومنظمات، جماعات وأفراداً. وكل من هو قابض على السلطة ويوجه المدنيين، ذلك أن التحكم في عقله ونفسه وطرائق تفكيره أمر يعني أنه بات رهناً لما يمكن أن يتعرض لها من ضغوط مختلفة، تدفعه في طريق تحقيق رغبات الخصم.

ماذا عن تاريخ هذه الحروب أول الأمر؟

مصطلح جديد لاستراتيجية قديمة

لعل استخدام مصطلح "الحروب النفسية" طفا على سطح الأحداث في الزمن القريب، وتحديداً قبل الحرب العالمية الثانية ببضعة أعوام، وخلال التجهيز لها، فقد كانت واحدة من أهم أدوات النازي في إخضاع دول العالم لسطوته.

في 1930 أخرج الكاتب الألماني بدرجة كولونيل "بلاو" كتابه الذي يحمل عنوان "ما معنى كل الدعاية؟"، وقد كان يشغل منصب رئيس الفرع النفسي في وزارة الدفاع الألمانية في حكومة الفوهور.

شاعت من بعد عبارة الحرب النفسية خلال الحرب العالمية الثانية من قبل الحلفاء ودول المحور على السواء، وكانت تعبر عن الدعاية المبنية على الاستفادة من دروس علم النفس، ومن بين أول التعريفات للحرب النفسية في الجيش الأميركي التعريف القائل إنها "استخدام أي وسيلة بقصد التأثير في الروح المعنوية وسلوك أي جماعة لغرض عسكري معين".

على أنه بالرجوع إلى الموسوعة البريطانية نجد أن قصة الحروب النفسية قائمة منذ أزمنة ما قبل الميلاد، حتى ولو لم يتم إطلاق هذا المصطلح عليها.

على سبيل المثال عرف الفرس فوائد اللعب على نفوس المصريين، ولهذا في دخولهم مصر من عند منطقة الفرمة (شمال سيناء حالياً)، استغلوا تقديس المصريين القدماء للقطط، واستخدموها في تكتيكات عسكرية يسرت دخولهم ومعرفة مسالك ودروب الصحراء، وقد كانوا على ثقة كبيرة من أن الفراعنة لن يقدموا على قتل هذه الحيوانات التي كانوا يقدسونها، بحسب معتقداتهم الدينية.

 

عرف التاريخ كذلك قصصاً عن تلك الحروب خلال غزوات وفتوحات الإسكندر الأكبر، الذي عرف طرق المداهنة خلال غزوه كثيراً من دول أوروبا والشرق الأوسط، وقد استطاع تجنيد النخب في البلاد التي كان يخطط لغزوها لتكون مثالاً لبقية مواطني تلك الدول فيأمن شرهم، ويخفض من منسوب الصراع العسكري المحتمل.

عطفاً على ذلك فقد خلف في كل مدينة تغلب عليها رجالا ينشرون الثقافة اليونانية، ويخمدون أقوال المعارضين، كما كان جنوده يكافأون على الزواج من المحليين ليتم بذلك استيعابهم ضمن صفوف القوات الغازية.

 من جنكيز خان إلى نابليون

من بين القصص التاريخية المثيرة عن فكرة الحروب النفسية يحجز التاريخ مكاناً واسعاً للمغول وحروبهم وغزواتهم المغرقة في دمويتها عبر التاريخ، وتحفظ أضابير التاريخ كذلك موقعاً مخصصاً لزعيمهم جنكيز خان في هذا الصدد، الذي درج في بدايات القرن الـ11 الميلادي على أن يرسل الجواسيس إلى أي دولة مزمع أن يقدم على محارباتها والاستيلاء عليها.

كانت مهمة الجواسيس الرئيسة بث الرعب في النفوس من خلال نشر وترويج القصص المخيفة عن وحشية خان وجنوده. وقد كان ذلك كفيلاً بأن يضعف النفوس وينتقص الهمم ويسحق الروح المعنوية عند الجنود، ما يقود مباشرة إلى انهزام داخلي قبل أن تدور رحى المعارك.

إضافة إلى ذلك، كانت خطط جنكيز خان الحربية تسعى كذلك إلى هزيمة أعدائه عبر التلاعب الذهني والنفسي في أرض المعارك من خلال إيهام العدو بأن عديد جيوشه لا تحصى ولا تعد، ما يجعل اليأس يدب في نفوسهم في حين أن حقيقة المشهد لا تتجاوز مجموعة من الفرسان المدربين جيداً، كانوا يتحركون بسرعة كبيرة من مكان إلى آخر.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولعل واحداً من أهم الأمثلة على الحرب النفسية ما أوهم به خالد بن الوليد خصومه الروم في "معركة مؤتة" بأن جيش المسلمين بات الليل يستقبل المدد. وفي اليوم التالي أوهمهم أنه يستدرجهم إلى مكمن أعده لهم وراء تل، فسحب جيشه وجنود العدو جاثمون ينظرون إليه ينسحب دون أن يطاردوه فيما هو مدبر عنهم.

هذه الحروب حاول الجنرال الفرنسي الأشهر نابليون بونابرت أن يغزل على أوتارها خلال غزه لمصر، فأظهر ذاته أول الأمر أنه قريب من المسلمين وعادل جداً على غير أوضاع المماليك الذين ظلموا المصريين.

والتاريخ المكتوب يحفظ رسائل بعينها قائمة على هذا الخداع النفسي، على رغم أن المصريين اكتشفوه منذ وقت مبكر ولم تنطل هذه الخدع عليهم.

ميدان واسع في الحرب العالمية الثانية

والثابت أن واحداً من أهم ميادين الحروب النفسية في التاريخ القريب كان ميدان الحرب الكونية الثانية بين معسكرين، دول المحور من جهة، وفيه ألمانيا وإيطاليا واليابان. ودول الحلفاء من أخرى وفيها أوروبا والاتحاد السوفياتي، ثم الولايات المتحدة التي دخلت الصراع تالياً.

كانت خطة دول المحور تقوم على إقناع أمم وشعوب بعينها بعدالة قضيتها، بمعنى حقها في مجابهة أمم الغرب عسكرياً، الأمر الذي يسر لها تفتيت دول كثيرة، ثم مواجهة كل منها على حدة، وتحقيق انتصارات سهلة في أول الأمر.

نجحت النازية بنوع خاص على صعيد ثلاثة محاور حققت لها كثيراً من الانتصارات في الأقل في بدايات الحرب:

المحور الأول سياسي، إذ روجت البروباغندا النازية لفكرة أن مستقبل العالم يتوقف على الاختيار بين الرضوخ للشيوعية أو الفكاك منها عبر مسارب أمل نازية وفاشية محدثة.

المحور الثاني استراتيجي، وفيه كانت ألمانيا تحاول إقناع دول الحرب أن كل دولة تسقط هي الأخيرة، وأنه ما من توسع عسكري بعدها. وهنا يلاحظ القارئ أن الخطة نفسها اتبعها "الناتو" بعد سقوط الاتحاد السوفياتي.

المحور الثالث سيكولوجي، وكان موجهاً في بادئ الأمر للداخل الألماني، من خلال تخويف الألمان أنفسهم من خطر الشيوعية، كما استخدم وزير الدعاية النازي الأشهر والأخطر جوزيف غوبلز أفلام عمليات الحرب الخاطفة الألمانية لإخافة الجماعات الحاكمة في دول أخرى ولتحطيم المعنويات. وأسفر ذلك عما يسمى "الانهيار العصبي للأمم"، وذلك بإبقائها دائماً في حالة شك وعدم تيقن مما يمكن أن يحدث لها غداً.

 

لم تكن الحرب النفسية خلال الصراع العالمي الثاني قسراً على ألمانيا، بل كان للحلفاء دور واضح كذلك، فعلى رغم أن إنجلترا أصرت على أن تظهر بوصفها دولة صادقة قدر الإمكان، بخاصة بعد إقالة وزارة الإعلام عقب الحرب العالمية الأولى، لأن الدعاية التي أطلقت وقت تولي تلك الوزارة كان من السهل كشف الأكاذيب والتضليل التي روجت بها، وهو ما صرح به المؤرخ الأميركي ديفيد ويلش، لشبكة "سي بي سي" الأميركية، ولذلك كانت الخطة الدعائية أثناء الحرب هي "قول الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة، بل والحقيقة الكاملة إن أمكن".

لكن، وعلى رغم كل ذلك، لم يمنع الأمر من قيام وزارة الداخلية البريطانية ببعض الدعايات والتلاعب بالرأي العام أثناء الحرب العالمية الثانية، ولأن قرار وزير الداخلية البريطانية هو شحن حرب نفسية من خلال الدعاية الجماهيرية تجاه العدو النازي، ومن خلال الحقيقة أيضاً، بدأت وزارة الإعلام بشن حرب نفسية من خلال الدعاية والشعارات التي تشير إلى وحشية النازية بصورة مباشرة وواضح، تلك الحملة من حملات الحروب النفسية أطلق عليها مصطلح "حملة الغضب".

حروب أميركا النفسية بين القديم والحديث

يحتاج الحديث عن علاقة الولايات المتحدة الأميركية بالحروب النفسية إلى دراسات قائمة بذاتها، لا سيما أن الأمر يحتاج إلى تقسيم لثلاث مراحل: خلال الحرب العالمية الثانية، وعبر زمان الحرب الباردة وصولاً إلى زمن القطب الواحد المنفرد بمقدرات العالم. على أنه ومن دون تطويل ممل أو اختصار مخل، يمكننا مشاغبة المراحل الثلاث في عجالة كالتالي.

المرحلة الأولى، وهي زمن الحرب الكونية الثانية، وفيها لم يكن لدى واشنطن أي أقسام عسكرية أو مدنية تتوافر لها وسائل الدعاية.

 غير أن الولايات المتحدة التي كانت قادمة بقوة صاروخية بحسب قدراتها المالية والعسكرية، لم تكن لتعدم علاقات ولو غير مباشرة مع معظم صحف العالم الكبرى والمؤثرة.

كان أول ما قام به الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت وقتها هو استحداث منصب يطلق عليه "منسق للمعلومات"، وقد امتلأت إدارته بالمتخصصين، لا سيما في القسمين الخاصين بالبحوث والتحليلات.

جمعت أكوام من المعلومات السياسية والجغرافية والاقتصادية، ونسقت عمليات الإذاعة من جهة ومع السياسة الخارجية من أخرى، وكانت الظاهرة العالمية التي واجهها الأميركيون في الحرب النفسية التي تولوها تكمن في الناحية الإدارية.

خلال عام تقريباً، وبالتحديد في الـ13 من يونيو (حزيران) 1942، تبلورت إدارة معلومات الحرب في الداخل الأميركي، وقد كان هدفها الرئيس السيطرة المباشرة وغير المباشرة على كل الدعاية المحلية والدعاية الخارجية في نصف الكرة الغربي الذي بقي تحت إدارة لجنة روكفلر في وزارة الخارجية، وأخذت إدارة معلومات الحرب قسم الإذاعة من إدارة التنسيق التي تغير اسمها إلى إدارة الخدمات الاستراتيجية، وحددت أغراضها بالآتي: استمرار جمع المعلومات والقيام بالدعاية السوداء، والقيام بأعمال المؤامرات والتقويض مع السلطات العسكرية.

 

- المرحلة الثانية، وامتدت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، وحتى سقوط الاتحاد السوفياتي وتفكيكه بعد تفخيخه في نهاية ثمانينيات القرن الماضي.

تحتاج هذه الجزئية إلى أحاديث مطولة، فقد كان لـ"الناتو" عامة ولواشنطن بخاصة، أجهزة هائلة لملاقاة مخططات حلف وارسو في أنحاء الكرة الأرضية، وليس في منطقة أوروبا الشرقية فحسب.

كان الصراع يجري في قلب أفريقيا، ودول أميركا اللاتينية، عطفاً على محاولات حثيثة للهيمنة على مقدرات القيادة في آسيا. ولولا وجود عداءات تاريخية وخلافات أيديولوجية مع الصين لسيطرت موسكو بالفعل على أراضي القارة الأكبر جغرافيا شرق البسيطة.

في هذه الفترة الزمنية لعبت وسائل الإعلام التقليدية من عند الصحف والمجلات، مروراً بالإذاعات، لا سيما إذاعة صوت أوروبا الحرة، وصولاً إلى قنوات التلفزة الحديثة دوراً مهماً ورائداً في إحداث هجمات على الدول التي تدور في فلك الاتحاد السوفياتي وزعزعة الثقة في النموذج السياسي والإنساني الذي يقدمه.

- المرحلة الثالثة، ويمكن النظر إليها من عند بدايات التسعينيات، ومرحلة النظام العالمي الجديد الذي أعلن عنه جورج بوش الأب أوائل تسعينيات القرن الماضي، وفيه بدت تجليات فكرة "القرن الأميركي" للمحافظين الجدد، أي الهيمنة على مقدرات العالم عبر قطع الطريق على عودة روسيا لقطبيتها السابقة، وبالمثل عدم إتاحة المجال لصحة صينية مماثلة.

 هنا كانت هناك أدوات مغايرة يسرت ولا تزال من مهمة واشنطن وحلفائها في الناتو، ولا تزال هذه المرحلة مستمرة، ويمكن القطع أن العالم يعيش إرهاصات هذه الحرب النفسية. فماذا عن تلك الأدوات؟

وسائل التواصل وحرب نفسية جديدة

تبدو اليوم وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، تلك التي تجاوزت وبمراحل عديدة مقدرات أدوات الإعلام التقليدية، فاعل مؤثر، بل وخطر في رسم سياسات تلك الحروب أولاً، وتنفيذها تالياً، ونسج مخططات ما ورائية لها أهداف استراتيجية تالياً.

لم يعد سراً أن الإعلام التقليدي وفي أفضل أحواله، كان يشاغب بضعة ملايين شرقاً وغرباً، فيما بدت شعوب نامية بأكملها منبتة الصلة بتلك الحروب جراء انعدام ملكيتها لتك الوسائط التي لم تكن تتجاوز الإذاعة والتلفزة.

لم يعد اليوم العالم قرية صغيرة، بل "صندوق للدنيا" عبر الهواتف الذكية المحمولة بسهولة، التي تتوافر بكثرة يوماً تلو الآخر، وتتراجع أسعارها مما يسهل حملها واستخدامها.

هنا يمكن القطع أن أدوات عدة من تلك الوسائل المستحدثة من عينة "فيسبوك" و"إنستغرام" و"إكس" (تويتر سابقاً) باتت تمثل سحابة من الضباب القاتم السواد في سماء الحقائق، إذ لم يعد من اليسير تقدير الصواب من الخطأ.

عبر بضع نقرات على لوحة المفاتيح، ولايكات قليلة يمكن لأي دولة أن تشن حرباً اقتصادية أو فكرية على غيرها من الدول، ولهذا يمكن القطع بأن الإشاعات باتت تشكل بأنماطها أحد أسلحة الحروب النفسية التي تؤسس على خطط واستراتيجيات مدروسة غالباً ما تتبناها دول خارجية أو جماعات ممولة لها أجندات خاصة، إذ تستهدف بصورة صريحة معنويات الشعوب كي تخرج على أنظمتها وتهدم مؤسساتها الوطنية نتيجة للاحتقان الذي تسببت فيه تلك الإشاعات على المدى البعيد، بخاصة أنه من آليات الحرب النفسية تأثيرها في الرأي العام الذي بدوره يضغط على الحكومات بمزيد من المطالب التي تضعف المسار التنموي في الدول وقد توقفه تماماً.

 

هل اختبر الشرق الأوسط بنوع خاص بمثل هذه الحروب خلال العقد الماضي؟

المقطوع به أن ثورات ما عرف باسم "الربيع العربي" كانت المثال الواضح لما يمكن أن تلعبه تلك الأدوات المعلوماتية في دائرة تثوير الجماهير، وتأليبها على حكامها وأنظمتها، مما دفع إلى دائرة من الفوضى، لم تنجُ منها إلا الدول ذات المؤسسات الحكومية العريقة، عطفاً على ما لعبته بقية النخب الوطنية من أدوار كحائط صد في مواجهة أزمنة الزيف.

قبل ذلك وفي الفترة الممتدة من الـ17 من نوفمبر (تشرين الثاني) إلى الـ29 من ديسمبر (كانون الأول) من عام 1989، أي خلال ما عرف باسم "الثورة المخملية"، في تشيكوسلوفاكيا، وزع الطلاب التشيكيون الأجهزة الجديدة فيما بينهم، واستخدموها في نشر البيانات الرسمية وتحديثات الأخبار اليومية.

من خلال هذه الأجهزة استطاعوا توسيع نطاق دوائرهم الثورية بطريقة لم تكن ممكنة من قبل ومن دون أن تتمكن الأساليب القديمة في المراقبة أو الرقابة من كشف أمرهم.

ومع استمرار شبكة الإنترنت في النمو تعززت قوة المعارضين الديمقراطيين وهزت أول ثورة على شبكة الإنترنت صربيا عام 1996. حين قطعت عن الشباب وسائل الإعلام الحكومية، استخدموا وسائل البريد الإلكتروني الجماعية للتخطيط للاحتجاج على نظام سلوبودان ميلوسوفيتش. وعلى رغم فشل الاحتجاجات الأولى عادت الثورة أقوى من أي وقت مضى في عام 2000، إذ أصبحت أكثر تنظيماً على شبكة الإنترنت.

انتصر شباب صربيا وأطلقوا سلسلة من الثورات الملونة، التي انتشرت بسرعة في أنحاء دول الكتلة السوفياتية السابقة، وأسقطت حكاماً في جورجيا وأوكرانيا وقيرغيزستان.

ولعل القارئ يتساءل لماذا الحديث من جديد عن قصة تبدو عتيقة، قصة الحروب النفسية؟

الجواب يأخذنا إلى حقيقة واضحة، هي أنها ليست قصة عتيقة، بل متجددة على الدوام، والمثال الواضح الأخير لها يتبدى في ساحتين من ساحات القتال، ما بين "حماس" وإسرائيل، وبين إسرائيل وإيران. ماذا عن ذلك؟

الدعاية النفسية والحروب غير الدموية

لعل المعارك الأخيرة في منطقة الشرق الأوسط أظهرت أن هناك تأثيراً خطراً لمثل هذا النوع من أنواع الحروب التي لا تسيل جراءها الدماء بصورة مباشرة، وإن كانت تدفع حكماً في طريق الصراعات الدموية وإن بصورة ملتوية أو ما ورائية.

في الصراع الدائر بين "حماس" وإسرائيل ظهر عديد من ملامح ومعالم تلك الحرب، فعبر المنشورات التي تلقيها إسرائيل على أهل غزة التي تستهدف بها إضعاف القدرات النفسية والعقلية، ما يجعل الانكسار الذاتي حال حدوثه في نفوس الفلسطينيين مقدمة غير مشكوك فيها لتسليمهم بالأمر الواقع.

لكن على الجانب المقابل، عرفت "حماس" بدورها كيف ترد الصاع صاعين لتل أبيب.

على سبيل المثال اعتبر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مقطع الفيديو الذي نشرته حركة "حماس"، وتظهر فيه ثلاث نساء من الرهائن بأنه "دعاية نفسية قاسية" من قبل الحركة الفلسطينية.

يظهر المقطع ومدته 76 ثانية، السيدات الثلاث يجلسن على كراسي بلاستيكية وخلفهن بلاط أبيض اللون. لم تتحدث سوى واحدة منهم، وبدا عليها الغضب، وصرخت مطالبة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بـ"العمل على تحرير المختطفين" لدى "حماس".

ما قالته هذه السيدة يمكن اعتباره عبارة قاسية ضمن سياق تلك الحرب النفسية، إذ صرحت بالقول، "نحن في خضم إخفاقكم السياسي والأمني والعسكري في السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، لم يكن هناك جيش ولم يصل أحد".

هل كان نتنياهو على حق حين اعتبر هذا التسجيل المصور بمثابة نوع من أشد وأخطر أنواع الحروب النفسية التي تعرضت لها إسرائيل في أزمنة الحروب التي خاضتها عبر نحو ثمانية عقود؟

مؤكد أن الأمر كذلك، إذ لم يسبق أن تعرض مواطنو الدولة العبرية لمثل هذا النوع من المهانة من قبل، فقد خاضت إسرائيل حروباً عدة على جبهات متنوعة، لكن لم يحدث في تاريخها أن تعرض مواطنوها، وبالتحديد نساؤها، لمذلة الأسر والظهور على وسائل التواصل الاجتماعي بهذه الصورة، الأمر الذي وجه طعنة قاسية لصدر المؤسستين العسكرية والسياسية في الداخل.

مشهد آخر من مشاهد الحرب النفسية الخطرة خلال الأيام الأخيرة تمثل في الهجمات التي شنتها إيران على بعض مدن ومنشآت إسرائيل العسكرية.

 

تندر كثر بأن ما تم إسقاطه داخل الدولة العبرية، لم يكن سوى صواريخ مفرغة من أي شحنات متفجرة، وعليه فإن المشهد كان هوليوودياً، بأكثر من كونه مواجهة حقيقية بين طهران وتل أبيب.

لكن الحقيقة مغايرة لهذا التفسير الذي لا يستقيم، ذلك أن المؤسسة العسكرية الإيرانية، قصفت بصواريخها أهدافاً عسكرية في غاية الأهمية، استطاعت تحديدها وتهديدها، وفي هذا رسالة مؤكدة أن المرة المقبلة يمكن أن تكون القصفات حقيقية وواقعية، وأن تطاول برؤوس تبدأ من عند المتفجرات التقليدية ويمكنها أن تصل إلى الكيماوية أو البيولوجية حال القارعة.

هنا يبدو الأمر مقارعة نفسية بأكثر ما يكون المشهد حرباً واقعية بأدوات الموت والدمار، ولهذا جاء الرد المقابل في أصفهان بالصورة نفسها، حتى ولو لم تعلن تل أبيب عن مسؤوليتها، فالعين تغنيك عن أن تطلب الأثر.

في الخلاصة، يبدو عالمنا المعاصر إزاء طبعة جديدة من الحروب النفسية، التي تعد اليوم أحدث الأسلحة ضد الفكر والعقيدة واللغة، وكذلك ضد الثقة والمشاعر والشجاعة، وتتوسع يوماً تلو الآخر من خلال التقنيات الحديثة والأجهزة الإلكترونية والأقمار الاصطناعية والطائرات المسيرة.

لكن، وقبل الانصراف يبقى التساؤل الأخطر: "هل هناك فصول أشد وطأة وأشرس وقعاً يمكن للعالم أن ينتظرها في سياق المواجهات الإنسانية؟

 قطعاً الجواب يأخذنا في مسار الحديث عن أدوات الذكاء الاصطناعي التي يمكنها أن تفتتح عصراً جديداً ضمن عصور الحروب النفسية، إذ يمكن تزييف الحقائق وإلباسها لباس الزيف أو العكس.

إلى أين يمضي عالمنا المعاصر؟ تبدو المخاوف محلقة في سماوات غائمة وغامضة وبصورة مفزعة من جراء شيوع وذيوع حالة اللايقين في مقبل الأيام.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات