لم يبقَ في محلة "الدباغة" سوى محلات آحاد وفية لتسمية هذه الحرفة الطرابلسية العريقة. هنا تبقى صناعة فرشات الصوف صامدة بفعل مجهود قلة قليلة من الفنانين المهرة، الذين توارثوها كابر عن كابر، واعتادوا على التعب والعمل الشاق، ولم يعُد بإمكانهم الاستغناء عن جزء من تاريخ منطقتهم وماضيهم. هذا ما يؤكده الحرفي أبو شادي علوش الذي يعترف أن عدد العاملين في هذا المجال في طرابلس، لم يعد يتجاوز العشرة بعد أن كانوا بالمئات.
فرشة الحياة...
في المراعي الخضراء وعلى ضفاف السواقي، تبدأ حياة الفرشة مع جلد خروف يافع، يُجز صوفه قبل تنظيفه جيداً وتجفيفه تحت أشعة الشمس، تمهيداً لبيعه للتجار. وتشكل مزارع عكار والأطراف وسوريا المصدر الأساس للمواد الخام. في الأعوام القليلة الماضية، تراجعت أسعار الصوف بشكل لافت، إذ كان الرطل بحدود 25 ألفاً أما اليوم لا يتجاوز ثمنه 12 ألفاً بسبب عدم الطلب عليه، بعد أن كان يُشبه بالذهب. بينما يستمر القطن بلعب دور المنافس الشديد، لأنه المادة التي يرغبها الكثير من الزبائن.
وبعد وصولها إلى محلات الحرفي في طرابلس، يقوم بنفشها إما يدوياً بواسطة الشيش الحديدي، أو يستعين بآلة كهربائية. فهذه العملية تحتاج إلى الكثير من الجهد الجسدي والأمانة في العمل. كما أنها تفترض وجود مهارة كبيرة، فالكثير من الحرفيين الحاليين غير قادرين على استخدام القوس الذي كان يعتمد عليه شيوخ الكار القدماء.
وفي مرحلة تالية، يفترض على الحرفي القيام بحشوها داخل الفرشة أو أغطية اللحاف أو كيس مسند الرأس. ولصناعة هذه الأغطية التي يجري حشوها بالصوف قصة أخرى، فهي إما تكون من القماش الخام العادي، أو يُضاف إليها "الساتان" الناعم، وذلك بحسب قدرة الزبون المادية والمناسبة الاجتماعية. وتتفاوت دقة الرسوم والنقوش على القماش من حرفي إلى آخر، لتعكس مدى قدرته وموهبته الفنية. لذلك يقول أبو شادي "ليس بإمكان أي حرفي أن يستخدم الطارة لرسم القلوب أو طيور الحمام على القماش الخام، وكذلك ترصيعها ببعض الأحجار، فهذه بمثابة التوقيع الذي يضعه الصانع على قطعته الفنية الفريدة التي يمتاز بها عن بقية المبدعين". هذه القطعة كانت تتربع في الماضي على "السرير الرفاص المشبّك" الذي يسمح للصوف بالتنفس، أما الآن لم تعد تسمح لها ألواح الخشب بذلك لأنها لا تليق بها، وتحبس عن نسيجها الحي الهواء.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وصلت شهرة صناعة الفرش الصوف الطرابلسية إلى العالمية، ويؤكد أبو شادي أن صانعي أفلام فرنسيين جاؤوا لتصوير وثائقي عن هذه الصناعة عنده، كما قاموا بشراء بعض المصنوعات الحيّة لوضعها لديهم. وعلى الرغم من هذه الشهرة، لم تلق أي تشجيع داخلي، ويتوقف الأمر على بعض المجموعات السياحية التي تأتي إليه، وتطلب تصويره خلال نفش الصوف والتطريز على القماش، وتعبّر عن سعادتها بما ترى من حرفية وإبداع.
قطعة "عرائسية"
ولا يختلف اثنان على أن عصر الفرش الصوف حالياً في تراجع، إلا أن هذه القطعة لا تزال أساسية في تجهيز المنازل والبيوت في المناطق الجردية والجبلية. وبحسب أبو شادي يفضل أبناء المدن الفرشات الجاهزة، أما أبناء عكار والقرى العالية، لا يزالون يقصدونه لشراء اللحاف تحديداً، لأن الفرش المصنوع من مواد صناعية لا يمكنه مقاومة البرد في المناطق المرتفعة. ويتحدث الحرفي الطرابلسي عن تراجع للفرشات على حساب اللحاف، لأن غالبية العرسان باتت تشتري الفرش الجاهزة، وتقتصر على اللحاف لأنه يمنح الدفء والحرارة.
كما تُعد هذه القطعة أساسية لدى العائلات التي تلتزم بالتقاليد القديمة سواء بالنسبة للعرائس أو الكبار بالسن. هذا ما يؤكده الخياط أبو العبد الذي يأتي من بيروت إلى حرفي طرابلس من أجل شراء وإصلاح فرشات الصوف التي يمتلكها، لأنها "صحية" على حد تعبيره، ويكفي تعريضها للشمس لكي تتطهر وتتعقم على خلاف الفرشات المصنعة. كما يجزم بأنه يمتلك رفوفاً خشبية قديمة، يرصف عليها هذه الفرش التي ينام عليها أبناؤه وأحفاده عندما يأتون لزيارته.
ويُدافع "أنصار هذه الفرش" عنها لأنها صحية وتراثية، ولكنهم يضيفون سبباً إضافياً لذلك، مؤكدين أنها صديقة للبيئة ويمكن إعادة استعمالها، ولا تضر بالبيئة عند إتلافها أو تركها. لذلك لا يتأخر البعض في إعادة بيع الصوف المتبقي لديهم من الفرش القديمة لأنه يصلح لإعادة الاستخدام والتصنيع. كما أنها اقتصادية، فتراجع الطلب عليها جعل سعرها في حدود الـ 150 ألف ليرة لبنانية، وهو أقل من سعر الفرش المصنعة بأضعاف مضاعفة.
المهنة تُنازع
يُقر الحرفيون أن حرفة صناعة الفرش الصوف ليست في أحسن حالاتها، ويجزم أبو شادي أن الحرفة لم تمت وإنما تنازع. ففي المتجر الذي تعاقبت أجيال العائلة عليه، لم يعد يعمل فيه إلا هو وشقيقه فقط، بينما فضّل الأبناء عدم تعلم المصلحة والاكتفاء بالعلوم الأكاديمية. كما أن الشبان لم يعودوا يأتون إلى الحرفي لتعليمهم، لأن هذه الحرفة ليست لهذا الزمان. ففي محلهم كان يعمل معهم أربعة موظفين، أما الآن يقضي أكثرية أوقاته في تبادل أطراف الحديث مع زواره وجيرانه. وهو يستغني عن الهاتف الجوال لأنه يفضل التواصل مع المحيط، ومن يريده يقصده فهو معروف بمحله.
يعتقد أبو شادي أن هذه الحرفة قد تنتهي مع رحيل الحرفيين الكبار، ويلفت إلى أن الأكثرية ممن يعملون فيها اليوم تحولوا إلى تجار، فهم يشترون ويبيعون فيما الأقلية لا تزال تجيد العمل في الصوف وتحويله إلى فرش أنيقة ومرتّبة.