الفنّانون والكتّاب العراقيّون المقيمون في الخارج، تحتاج وقفتهم الكبيرة في التفاعل والحشد لحراك الشباب العراقي في الساحات، إلى مقال تفصيلي يقيّم كلّ ما أسهموا به من مدن العالم المختلفة، تضامناً منهم مع محافظات بلدهم وما يدور فيها منذ أشهر.
ضياء العزاوي، الفنّان التشكيلي الرائد، واكب الحدث التشريني وحيّاه بعدد من الملصقات، آخرها ما خصّ به الناصرية (مركز محافظة ذي قار)، من ملصقين فنيّين، بوصفها "عاصمة الثورة" مثلما سمّاها العراقيون، لأنّها صاحبة الصوت الأعلى بين المحافظات الثائرة، لما سجّله أبناؤها من بطولة متواصلة ومثال كبير في التضحية سنظلّ نتذكره كثيراً. في الملصق الأوّل، يوثّق العزاوي كيف أنّ خارطة الناصرية تبقى مشعّة على الرغم من جراحها وما تقدّمه من شهداء، إذ إنّ بقع الدم لا تغطي مساحات من أرضها فقط، بل البلد بأكمله، لأنّ هذه المدينة الواقعة على نهر الفرات، تضحّي بالإنابة عن العراق كلّه وتستبسل بنحو مُفارق في تحدّي الأحزاب ورفض نماذجها جميعاً. الدم في هذا الملصق وإنْ كان يحيط بهذه المدينة الجنوبيّة ويطوّقها، إلاّ أنّه يتوّجها "عاصمة للثورة" تواجه مأساتها بالإصرار والثبات، مثلما وضع العزاوي ذلك في أعلى عمله الجديد.
ساحة الحبوبي
في الملصق الثاني، يحتفي العزاوي بساحة الحبوبي، باعتبارها من أبرز ساحات ثورة تشرين، إذ أعطت للناصرية السبق في مسار الأحداث الجارية، فتوجّهت إليها كلّ الأنظار، ليس لأنّها من بين ثلاث محافظات لديها أكبر عدد من قوافل شهداء تظاهرات الأشهر الماضية، إنّما لفعلها الاحتجاجي الذي صار أنموذجاً متقدّماً على بقية الساحات والمدن الثائرة، على مستوى الشعارات ورفض وجود مقرات الأحزاب، ليُعدَّ ذلك أوّل انتصار لمجتمع مدينة عراقيّة ما، على نخبة سياسيّة ادّعت تمثيله طيلة 17 عاماً.
من هنا، تصدّرت هذه العبارة الملصق الثاني: "الناصرية مهد الحضارات الأولى هي اليوم عاصمة الثورة"، حيث يشتغل العزاوي على إضاءة ساحة الحبوبي بوضعها في مدى يستغرق خريقة الناصرية بأكملها، وجعلها (أيّ الساحة) تجتاز مساحة مدينتها، في إشارة إلى أنّها ملهمة لبقية أنحاء العراق الثائر. وفي العمل ذاته، احتفاء بشعار هذه الساحة الذي كان لافتاً ومعبّراً عن طبيعة المواجهة الحالية من أجل مستقبل البلد، وهو: "الخائفون لا يصنعون الحريّة"، واحتفاء مماثل بأسماء بعض الشهداء مثل الصيدلي مهند كامل (اغتيل مطلع تشرين الأوّل 2019).
عرفنا العزاوي منذ تجارب عدّة ومتنوّعة، بأنّ له منجزاً خاضعاً لمنطق التجريب في الأشكال التعبيريّة والتوظيفات الفنيّة المختلفة، ودائماً ما نلمس في أعماله هذه الإطلالة على راهن العراق، بمعالجات على سطوح لوحاته ترقى لأن تكون رسائل سياسيّة يبعثها الفنّان من مكان إقامته البعيد في لندن، مؤكّداً فيها أنّه حاضر في الهم الوطني العام ومنخرط فيه، ليتوافق في هذه الأعمال الأفق التطويري الذي اشتغل عليه هناك لجهة الرؤية والأسلوب، ومقاربته الفنيّة لمشهد بلده وما مرّ به من انكسارات اجتماعيّة وسياسيّة.
لعلّ معرضه الاستعادي في الدوحة "أنا الصرخة، أيّ حنجرة تعزفني" 2016، كان موضحاً لصورة النتاج المتعدّد المنوّه عنه أعلاه، بين اللوحات والأعمال النحتيّة ودفاتر الشعر، وأيضاً الملصقات التي صمّمها لمسرحيات يوسف العاني وعوني كرومي وفرقة مسرح الفنّ الحديث، مع ملصقات أخرى لمعارض فنيّة وحتّى بعض معارض وأنشطة الاتحادات والنقابات في الستينيات.
فنّان الجموع
في شغله التصميمي، يركّز العزاوي على تسخير حدود الملصق ليحقق هذا التناسق بين النصّ المكتوب والشكل المقترح داخل العمل، ويمكن هنا أن نستعيد ما قاله في حوار سابق معه عن الكيفية التي يصنع فيها "دفاتر الشعر"، إنّه "ليس هناك ملامح قابلة لمسك الخيال، هناك نوع من الشطارة الشخصيّة في تحديد علاقة الشكل بمعناه العام بالتكوينات التي ستتماهى مع فعل قراءة النصّ".
ربّما الملصق الفنيّ أكثر مباشرة من الدفتر الشعري ومضمونه من الشحنات الاجتماعيّة والسياسيّة يقتضي المزيد من الوضوح، إلاّ أنّ الجامع في تكوينهما هو الخيال الذي يجسّد منطوق كلّ من النصّ الشعري والثيمة المكتوبة في التصميم، وكأنّ الفنّان- في الدفتر- يتمثّل صوت الشاعر في رسمه لقصيدته بقدر أعلى من الابتكار والاستحضار للرموز والمعاني، في مقابل ترجمة رغبته- في الملصق- بتوجيه رسالة يرى نفسه فيها ممثّلاً عن الجموع التي ينتمي إليها.
هكذا أتى الملصقان المخصّصان للناصرية، ليؤشّرا الكثير عن حضور الفنّ ليس في الساحات فحسب، بل في يوميات ومشاغل الفنّانين البعيدين الآن عن بلدهم والمهمومين بمصيره ليل نهار، وما رسموه ليس إلاّ تعبيراً عن مسعى للارتقاء بفكرتي الحريّة والمواطنة اللّتين يدافع عنهما شباب العراق منذ خمسة أشهر بأصواتهم وأجسادهم.