ملخص
هذه الشفشفة ممارسة في هذه الحرب لم تستقل بتحرٍّ خاص فيها لمعرفة أوثق بنظام "الإنقاذ" الذي هو ليس أطول عهود الحكم في دولة 1956 إذا شئت فحسب، بل مكّن بنيات في الدولة والسياسة والثقافة ستبقى معنا لزمن طويل.
تكرر على فيديوهات مذاعة وقفة مجند في "الدعم السريع" أمام مشهد لجماعة من المدنيين ممن يسمونهم "المتفلتين" اعتقلها وفي حوزتها مسروقات من أسواق أو أحياء. ومع أن أخذ حق الناس مما لم يسلم منه منسوبو "الدعم السريع" أنفسهم إلا أن عبارة المجندين الذين ظهروا على تلك الفيديوهات ترن صادقة. وفي بعضها اشمئزاز يمثل الخلق الديني مما يرون يجري من نهب أمامهم وباسمهم. وهذا بغض النظر عن توظيف مثل هذه الفيديوهات بواسطة قيادة "الدعم السريع" لتبرئة ساحتها مما تسميه "الظواهر السلبية" التي التبست بهم جراء خسائس هؤلاء المتفلتين وخفة يدهم. بل أنشأت هذه القيادة إدارة باسم "محاربة الظواهر السلبية" لتطهر اسمها من فسوق هؤلاء المتفلتين.
فيديوهات وظواهر
وقف في فيديو أخير مجند دعامي على مشهد في سوق مدينة ود مدني التي احتلتها "الدعم السريع"، يقرع جمعاً من فقيرات النساء وأطفالهن وغيرهن على كسرهن لدكاكين السوق ونهبها. فقال وهو يمر عليهن وعلى منهوبهن بعدسة موبايله إن هؤلاء مواطنين استباحوا السوق وسيخرج من يقول إنه من عمل "الجاهزية"، وهو اسم آخر لـ"الدعم السريع".
جاء مجند "الدعم السريع" بعبارة من شأنها أن نطالع منها صورة للحرب غير تلك التي اقتصرت على انتهاكات "الدعم السريع". فقال المجند، وهو يطوف بجماعات المدنيين الناهبة، إن المواطنين هم أنفسهم "ظواهر سلبية" لا تتورع عن أخذ ما ليس حقها متى ما سنحت السانحة وأين.
جاء ذكر مثل هذه الظواهر السلبية في الأدب التاريخي الإسلامي. فعرفوا بـ"العياريين" ومفردها "عيار" وهو في اللغة الرجل كثير الحركة. وتمدح العرب به وتذم. فيقال رجل عيار في المعاصي كما يقال إنه عيار في طاعة الله. وجاء ذكرهم عند المقريزي "الزعار". كما يسمونهم "الرعاع والأوباش والطرارين". كما يسمونهم "الفتيان". فظهر العيارون في بغداد بعد فتنة الأمين والمأمون (809) في شبه تنظيم عسكري ليتحولوا إلى عصابات. وسموهم "الشطار" أيضاً. ولأخذهم أموال الناس قيل عن شطارتهم إنها "شطارة فسق". أما "الزعار" فظهروا بعد فتن أعقبت وفاة السلطان الظاهر برقوق (1399) في مصر ثار فيها أهل الريف تحت وطأة الضرائب وانتشرت عصابات النهب من "الزعار وقطاع الطرق".
والأقرب إلى ظاهرة "زعار" السودان وعيارييه في يومنا الحداثي هذا هو مفهوم "فائض البشر" عن أهل المدينة الذين هم عند الاقتصاديين الكلاسيكيين منتج، أو بثور، بداية النظام الرأسمالي في بلد ما مرزؤ بالفقر والعطالة. وهم من جاء مالتس (1766-1834) بنظريته عن سبل الطبيعة في التخلص كفائض عن الحاجة. أما ماركس فكان سيئ الظن بهم فسماهم الـ"بروليتاريا الرثة" ليميزهم عن طليعته الـ"بروليتاريا"، أو القاع الطبقي في معنى الرعاع، وجعلهم من أدوات الرجعية. وأعاد كلايد دبليو بارو المفهوم إلى دائرة البحث بكتابه "الطبقة الخطرة: البروليتاريا الرثة" (2020).
وهكذا فنحن حين نتكلم عن "المواطنين الظاهرة السلبية"، فإنما نتطرق إلى فئة اجتماعية حضرية ادخرت تظلمات من دولة استدبرتها لتنتهز سانحة سقوطها كما حدث لحكومة السودان على يد "الدعم السريع"، فأفرغت غبنها بيدها.
من أين جاء هؤلاء المواطنون ذوو السمعة السيئة؟
جاؤوا جسداً كنازحين من حروب السودان الأهلية في جنوب السودان وجبال النوبة ودارفور التي تفاقمت خلال فترة دولة الإنقاذ بمعدلات هندسية. وسكنوا عشوائياً حول المدن في الشمال بما عرف بـ"الحزام الأسود" الذي لم تتورع بعض الدوائر عن إرعاب الناس منه بما قد يتولد من عنف عنه. وكان ذلك دافع الحركة الإسلامية للتعاقد مع الأكاديمي عالم الاجتماع المسلم عبده ملقم سيمون لينصحها حتى في الثمانينيات حول تصميم استراتيجيتها للتعامل مع هذا الحزام. وقال سيمون إنهم لم يحسنوا الإصغاء إليه وأهملوه ثم تركوه، في كتاب مميز عن تجربته تلك بعنوان "في أي صورة؟ الإسلام السياسي والأنشطة الحضرية" (1994).
"باسم توبة الدولة إلى الدين"
وجاؤوا في رزقهم المقتر من دولة الإنقاذ التي أسقطت عنها كل تكليف من تكاليف الولاية على الناس. فحكمت باسم توبة الدولة إلى الدين، حكماً مطلقاً أساء إلى حس الناس بمواطنتهم. وألقت بهم في فيافي الاقتصاد الهامشي لينصرف طاقمها إلى أكل أموالهم بينهم بالباطل. وجرى وصف دولة الإنقاذيين بالفساد. وهو تهوين كثير من إفراطها فيه حتى انقلب إلى شيء آخر. فالفساد يقع كجريمة في بلد ماله العام في حفظ ولاية الدولة وصونها. فيطاول القانون من خرق القانون واستولى على مال بالحرام. ولم تكن "الإنقاذ" دولة لها ولاية على المال العام. فمكّنت منه الحاكم وبطانته بالتجنيب والشركات الحكومية وسبل أخرى مما سنرى. وربما لم يصح عليها حتى وصفها بمصطلح حديث هو "الفساد المتوحش". فاستباحة المال العام على ذلك النحو شديد الإفراط جعل من الإنقاذ "دولة لصوص" kleptocracy في مصطلح علم السياسة الأفريقي. فهي ليست دولة فاسدة وكفى لأن الفساد فيها صار عاملاً من عوامل الإنتاج عن فكرة أذاعها الأكاديميان الواثق كمير وإبراهيم الكرسني في الثمانينيات سميا فيها الفساد في الدولة بـ"العامل الخامس للإنتاج" (الأرض والعمل ورأس المال وودبارة الاستثمار). وأرادا بذلك أن الفساد ليس مجرد اختلاس مال عام، بل عاملاً ينتج الثروة لطائفة من ولاة الأمر بقوة السلطة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
رفعت دولة الإنقاذ يدها عن ولاية المال العام بوجوه كان بعض منسوبيها من أزاح عنها الستار بقوة
كان رئيس تحرير جريدة "الأحداث" عادل الباز قلماً سنيناً في الكشف عن لصوصية نظام هو منه. ففي مقالته "... شرعنة الفساد"، عدّد أهوال الفساد في بنك السودان الذي غَفل عن شركات الدواء بلا رقيب تنهب المليارات باسم استيراد الدواء ولا دواء. فتتسرب ملايين الدولارات إلى الخارج لأن البنك لم يراجع حصائل الصادرات. كما أذن للناهبين الاستيلاء على تريليونات الجنيهات من البنوك التجارية في مرابحات صورية وخداع. فانتفعت من ذلك التفريط شركات بأسماء وهمية ومزيفة. وفي مقالة أخرى كشف عن انفلات الشركات الحكومية التي قام عليها من سماهم "ثلة من خلصاء الحزب الحاكم"، وهم وزراء أقوى من وزير المالية حتى إن وزارته لم تعُد لها الولاية على شركاتهم. فإيراداتها تخص الوزارة، أو على الأدق، تخص الوزير وتحت تصرفه المباشر، مما عرف بـ"التجنيب"، أي إن إيرادات الوزارة وشركاتها تؤول إلى الوزارة نفسها لا تلقى منها وزارة المالية قرشاً أحمر. ومدح البشير نهج التجنيب ذلك في كلمة شهيرة، فزار يوماً وزارة ما ووجدها حسنة السمت والأثاث، فقال لتجنبوا جميعاً حين علم أن ذلك البهاء كان بمال مجنب.
ومن خصائص "دولة اللصوص"، تحول السلطة فيها إلى ثروة، وسبق لمثل من دارفور أن أصاب هذا المعنى بقوله "حكم في ساق ولا مال في خناق"، أي إنه إذا خُيّر المرء بين أن يكون ذا سلطة "حكم" ولو قل مقدارها "للساق"، أو أن يكون غنياً يبلغ ماله حد عنقه طولاً فأولى به أن يختار الأولى السلطة. فالسلطة، في خاتمة المطاف، هي مورد المال الذي لا ينقطع. وسلطان القلم هذا ما كاشف به الإسلامي ووزير الصناعة في دولة الإنقاذ موسى كرامة، زملاءه في جلسة من مجالس شوراهم، فقال إن القلم في "الإنقاذ" هو مصدر غنى جماعات منهم. فبالقلم تسجل شركات وتوقع عطاءات وتمنح فيزات وما شاء. فالقلم، عليه، ثروة ومصدر ثروة، وعرج على الشركات وانفلاتها عن لجام الدولة، فقال إن الوزير (واستخدم هنا اسمه) يسجل شركة حكومية مملوكة لوزارة الصناعة، ثم تسجل هذه الشركة شركة أخرى ملاكها أولاد الوزير وبناته. فيقوم الوزير بتحويل عطاءات شركة وزارته إلى شركة ابنه أو ابنته أو هما معاً. وتكسب مالاً من عملة صعبة يتراكم في الخارج. فيقول الوزير بعد ذلك لأبنائه عودوا بذلك المال للسودان بعد تسجيل شركة أجنبية. وما جاءت تلك الشركة إلى السودان حتى حصلت على ميزات المستثمر الأجنبي. فإذا عرضت الحكومة بعض أملاكها للبيع اشترتها هذه الشركة الأجنبية. وهكذا أخذ المال المسروق من الدولة دورته، بدأ بشركة حكومية ثم شركة خاصة بالوزير، ثم شركة أجنبية تشتري ممتلكات الحكومة. وقال إن الشركات الحكومية التي تستبيح المال العام هكذا بلغت 413 شركة ما بين عامي 2013 و2014.
مصطلح الشفشفة
تعارف السودانيون على تسمية ما يقوم به المواطن من نهب ما تقع عليه يده في أيامنا هذه بـ"الشفشفة"، وهي في الغالب من "شف" التي هي "بص" أو "غش" عند غيرنا، أي أن يختلس الطالب النظر إلى ورقة إجابة زميله وينقلها غير مجتهد إلى ورقة إجابته. وفي لغة السودانيين مع ذلك لفظ أدل على مثل ذلك النهب وهو "شلع"، أي أن تنزع الشيء رأساً على عقب لا يبقى منه ولا النذر. وظهر قبل أيام فيديو لبعض مواطني الظواهر السلبية وقد نزعوا سقف أحد البيوت عن آخره وجعلوا مادته أكواماً لترحيلها إلى الأسواق التي انفتحت لهذه التجارة.
ولا نعرف عبارة سودانية انطبقت على مثل هذا التشليع في مثل قولنا "إذا خربت دار أبوك شيل منها شلية"، وهذا درك في محاق البلد لم تتداركه محاولات سبقت لتنزيه المال العام من لصوصه. فجرجرت دولة الإنقاذ رجليها طويلاً من دون أخذ فاسديها بقوة. ومع شيوع الفساد الفادح اضطرت في أصيلها عام 2018 إلى إعلان حملة باسم حرب "القطط السمان" بافتتاح مقر للجنة للتحقيق في ثرائهم تابعة لـ"جهاز الأمن والمخابرات". وقال الرئيس عمر حسن البشير آنذاك الذي كان يلزم كل متهم لرجال دولته ونسائها بالفساد أن يبرز الأدلة على صدقه، مخاطباً حفل الافتتاح أنه مهموم بمكافحة الفساد باعتباره "سوساً ينخر في عضد الدولة والمجتمع ويخلق طبقات طفيلية" ومؤكداً أن تلك الحرب عليهم لن تتوقف حتى تحقق أهدافها. وسقطت حكومته من دون تحقيق أي شيء مما وعدت.
وأقرب ما يكون التشليع، كعمل معارض، إلى التفكيك الذي جاءت به ثورة عام 2018 أي تفكيك دولة الإنقاذ بقانون هو قانون تفكيك نظام الإنقاذ (2019) الذي أراد رد الاعتبار للمال العام بالكشف عن بؤر الفساد في ذلك النظام ومحاسبتها، وأجهضت القوى المضادة للثورة تلك الخطة بقدر ما أصابها من سوء أدائها هي نفسها الذي غلبت عليه شعواء المعارضة بدلاً من رصانة الحكم، فنفرت كثيرين ممن أحسنوا الظن بها في أول الأمر، ثم وقع انقلاب أكتوبر (تشرين الأول) عام 2021 على الحكومة الانقلابية الذي لم يكتفِ بتعطيل عمل لجنة التفكيك فحسب، بل سلط القضائية فألغت كل مقررات اللجنة بجرة قلم. وقامت الحرب وتهافتت الدولة، وخرج "المواطن السلبي" بالشفشفة يأخذ "شلية" من دار أبيه الخربة.
وهذه الشفشفة ممارسة في هذه الحرب لم تستقل بتحرٍّ خاص فيها لمعرفة أوثق بنظام "الإنقاذ" الذي هو ليس أطول عهود الحكم في دولة 1956 إذا شئت فحسب، بل مكّن بنيات في الدولة والسياسة والثقافة ستبقى معنا لزمن طويل. وليست الشفشفة القائمة في يومنا سوى "تفكيك" عاقب له وللبلد "صامولة صامولة"، وهي العبارة التي اشتهرت من على لسان وجدي صالح عضو لجنة التفكيك المنحلة.