كثيرةٌ هي المزارات السياحيّة والأثريّة بمدينة الأقصر المصريَّة (جنوب)، لكن يبقى لمسجد العارف بالله أبي الحجاج الأقصري بمحاريبه وأعمدته الفرعونية سحرٌ خاصٌ، ما يجعله مقصداً مهمّاً للسيّاح.
يقول وائل إبراهيم، مرشد سياحي، "تأسس المسجد في عهد الدولة الأيوبية عام 658 هـ - 1286 م، لأحد أشهر أقطاب التصوّف الإسلامي السُّني القادمين من العراق أبو الحجاج الأقصري، الذي ينتهي نسبه إلى الحُسين بن علي رضي الله عنه".
الأقصري والدولة الأيوبيّة
وأضاف إبراهيم، "ابن بطوطة أُعجب بالجامع ذي المحاريب والأعمدة الفرعونية، وذكره في كتابه (تحفة النُّظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار)، إذ قال: (ثمّ سافرتُ إلى مدينة الأقصر، وهي صغيرة حَسنة، بها قبر الصالح العابد أبي الحجاج الأقصري وعليه زاوية)".
وذكر حجاج محمد، إمام المسجد، أنّ "القطب السُّني الصوفيّ أبو الحجاج الأقصري وُلِدَ في بغداد بعهد الدولة العباسيّة والخليفة المقتفي لأمر الله، وكان من علماء الشريعة على نهج أهل السُّنة، ولهذا السبب قرر القدوم إلى مصر من أجل الدعوة إلى صحيح الدين، ومواجهة الرواسب الفكريَّة للدولة الفاطميّة الرافضيّة بعد سقوطها".
وتابع، "سرعان ما نال الأقصري ثقة الدولة الأيوبيّة، كما شغل عدداً من المناصب الرسميّة بها، إلى أن تفرّغ للدعوة والتدريس في مدينة الأقصر حتى وفاته، وكان له جمعٌ غفيرٌ من طلاب العلم الشرعي من كل المدن المصريّة".
وأشار حجاج إلى أنَّ المسجد "يحظى بمكانةٍ كبيرةٍ في نفوس الأهالي بصعيد مصر، ويُقدّر عدد زائريه سنوياً بأكثر من 6 ملايين شخص، خصوصاً خلال النصف الأول من شهر شعبان الذي يواكب مولد أبي الحجاج الأقصري".
مسجدٌ فرعونيٌّ
يقول الطيب عبد الله، متخصص في الآثار والإرشاد، "إذا دخلت الجامع ستنتابك الحَيرة: هل أنت في مسجدٍ أم معبدٍ؟!"، موضحاً "النقوش الفرعونية تملأ كل مكان، حتى إنّ المحراب تنتشر حوله الجداريات الفرعونية، والسبب يعود إلى أن المسجد أقيم أعلى أطلال معبد الأقصر من الناحية الشمالية بداخل الجزء العلوي، والمعبد ظلّ فترة طويلة مُغطى بجبالٍ من الرمال، ولا تظهر منه سوى الأعمدة العلويّة فقط، فاختار أبو الحجاج الأقصري الجزء البارز من أعمدة المعبد لإقامة مسجده، وبه دُفِنَ بعد وفاته هو وعددٌ من أقاربه".
تحفة معماريّة
وأشار المتخصص الأثري طلعت الإسناوي، إلى أنّ الجامع "أنشئ على نسق المساجد الفاطمية، رغم كونه مسجداً سُنيّاً أيوبيّاً، شُيِّد خصيصاً لمواجهة الفكر الشيعي في صعيد مصر".
وأضاف، "مساحته صغيرة مربعة مغطاة بسقف خشبي، ويبلغ ارتفاع مدخله 12 متراً، كما تعلو المسجد مئذنة مبنية بالطوب اللبن، وهي من أجمل المآذن الموجودة بصعيد مصر في الوقت الحالي، وأقيمت المئذنة في عهد أبي الحجاج الأقصري نفسه، وتتكوّن من ثلاثة طوابق، وفي أعلاها مجموعة من النوافذ والفتحات، والجزء السفلي المربع مقوّى بأعمدة خشبية، كما أضيفت إلى المسجد مئذنة أخرى في فترة لاحقة، رُوعي فيها النَّسق الجمالي للجامع".
وتابع الإسناوي، "المسجد شهد عمليات ترميم واسعة، كان آخرها في العام 2018، لكنْ ستبقى عمليات الترميم والتطوير الأوسع في تاريخ الجامع خلال العام 2009 بعد أن تعرّض لحريق هائل، إذ استمرّ الترميم عامين مُتصلَين، وشمل التطوير: توسعة ساحة الصلاة، وتدعيم القبة، وتغيير الأسقف".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ملتقى الحضارات
أحمد البدري الباحث في شؤون التراث، قال في حديثه إلى "اندبندنت عربية"، إنَّ المسجد "يعدُّ ملتقى لحضارات ثلاث: إسلاميّة وفرعونيّة وقبطيّة"، موضحاً "من أسفله أقيمت كنيسة قبطية من الناحية الغربية، علاوة على كونه مقاماً بين أعمدة وجدران الجزء العلوي لمدخل معبد الأقصر الأثري، الذي شيّده الملك الفرعوني رمسيس الثاني".
الراهبة تريزا والمتصوّف الأقصري
ويوجد ضريحٌ لراهبة قبطية بجوار ضريح العارف بالله أبي الحجاج الأقصري، يحرص الأهالي على زيارته.
يقول عبد الرحمن الأسيوطي أستاذ التاريخ الإسلامي بإحدى الجامعات المصرية، "تكثرُ الأساطير والروايات حول قصة الراهبة تريزا والعارف بالله أبي الحجاج الأقصري. الرواية الأولى تقول إنها كانت أميرة قبطية على مدينة الأقصر، ورفضت إقامة الأقصري في بادئ الأمر بالمدينة، وتعنتت معه بشكلٍ شديدٍ، لكن سرعان ما أُعجبت به وبزهده، فطلبت الزواج منه، واعتنقت الإسلام، وهذه رواية ضعيفة".
وأضاف الأسيوطي، "أمّا الرواية الأرجح أن تريزا راهبة قبطيّة في كنيسة بجوار المسجد، كانت تساعد أبي الحجاج في الإنفاق على طلاّب العلم ورعايتهم والتكفّل بطلباتهم، فأمر الأقصري أن تدفن بجواره بعد وفاتها إكراماً لها ولجهدها".