اخترق وباء كورونا خلال فترة زمنية قصيرة تخوم العالم وسرى بسرعة كما تسري الإشاعة عبر وسائل التواصل الإلكتروني، متجاوزاً الخطوط الجغرافية والحواجز الإثنية والدينية والاجتماعية والطبقية، مؤكداً حقيقة أن العالم "قرية" واحدة بحسب المقولات التي حملتها إلينا ثقافة العولمة وفلسفة ما بعد الحداثة. وبدا هذا الوباء الرهيب الذي يهدد الآن أجزاء كبيرة من العالم (والذي قد يهدد أيضاً ما تبقى من أجزاء)، أشبه بـ "عولمة" أخرى، فيروسية ومرضية، قادرة على أن تجمع شمال العالم بجنوبه، أثرياءه بفقرائه، تقدمه التكنولوجي ببؤسه أو تخلفه، فردانيته بجماعيته أو شعوبيته. بدا وباء كورونا مثل كرة القدم التي توحد شعوب العالم الأول والثاني والثالث وما دونه، لكنه لم يقسم هذه الشعوب فرقاً وجماهير متحمسة، أنظارها إلى الملاعب واللاعبين، بل جعلها تصطف في فريق واحد، يعيش حالاً واحدة من الخوف بل الذعر والترقب والحذر...
معروف أن الأوبئة تحتل صفحات كثيرة من كتب التاريخ البشري، وتشكل وجهاً من وجوهه المظلمة التي تضاهي ظلمة الحروب وتتخطاها في أحيان. وذاكرة التاريخ حافلة بالمآسي التي "ارتكبتها" هذه الأوبئة والتي تشبه المجازر التي سقط فيها آلاف الضحايا. يذكر المؤرخون القدامى والمعاصرون فظاعات الطاعون في شتى أنواعه والكوليرا والإنفلونزا والسيدا والآيبولا... وكيف حصدت هذه الأوبئة على مر العصور ما لا يحصى من "قتلى" وما أحدثت من خراب هائل، في الجماعات والأوطان كما في البيئة والحياة اليومية.
إلا أن وباء كورونا بدا منذ أن كشف عن وجهه و"منهجه" في الانتشار والعدوى والفتك، على مقدار من الاختلاف عن سائر الأوبئة، على الرغم من انبثاقه من بيئة فيروسية معروفة علمياً وطبياً، وتحدره من أصول عائلة وبائية تلازم الحياة البشرية. لقد حل وباء كورونا الذي يوصف بـ "السحري" في مرحلة هي الأشد ازدهاراً بحسب ما يدّعي أرباب العالم الأول، بل الأشد حداثة وتقدماً تكنولوجياً، حتى غدت المختبرات على اختلاف أنواعها كأنها سيدة البشر، وأضحت الاختراعات المذهلة والمتتالية قدرهم الجديد. إنها مرحلة العولمة التي ألغت الحدود القديمة (افتراضياً طبعاً) بين قاطني الكرة الأرضية، ومحت الفروق بينهم وجعلتهم رعاعاً في مملكة متوهمة. كانت أنظار البشر، كل البشر، موجّهة دوماً - ولا تزال – إلى سباق التسلح النووي والأخطار التي تتهدد حياتهم وحياة الأرض، كل لحظة. وكانوا – ولايزالون- يلهثون خوفاً من أي خطأ يرتكبه حاكم "نووي" مجنون أو سلطة مجنونة، قد يؤول إلى خراب لم يكن خراب هيروشيما وناكازاي إلا مثلاً ضئيلاً، شديد الضآلة، عنه. حل وباء كورونا حاملاً في ثناياه خطراً محدقاً ورهيباً، لئيماً ومتعنتاً، يهدد البشرية، أفراداً وجماعات.
لقد جعل كورونا الإنسان أمام قدره، فرض عليه ثقافة "العزل"، وأكد له أن الإنسان يصير عدو الإنسان عندما يحل به الوباء، وأن الإنسان الذي وقع ضحية بريئة معرّضٌ لأن يصبح "كبش المحرقة" كما كان يقال غابراً، لكنه لن يُقدّم على مذبح ولن يُلقى في النار، بل سيُعزل قسراً، بعدما أضحى عدواً، عدو أهله والجماعة، العدو المسالم والضعيف والمهزوم، والذي لا يملك مواصفات العداء. وقدره هذا هو قدر أهله الذين سيعزلونه وينعزلون عنه رغماً عنهم. هو معزول وهم معزولون بعزلته. إنها حال الريبة التي يحدثها هذا المرض. حتى جسد الحبيب إذا أصيب بالوباء يصبح جسداً عدواً، جسد الطفل والأم والأب... لعلها واحدة من المآسي القاسية التي يمكن أـن يعيشها الإنسان أو يختبرها. وقد يكون مبرراً جداً أن يوقظ مثل هذا الوباء الشعور الديني الكامن في الداخل الإنساني، حتى لدى بعض العلمانيين والمشككين، وأن يؤجج الإيمان في القلب، فيمضي المرء في مناداة خالقه، مستعيناً به، ملقياً مصيره بين يديه. ولعل بعض الوقائع الدينية التي حصلت في لبنان وسواه، لا يمكن التصرف حيالها بخفة أو استهزاء، وإن كانت تخالف مبدأ العقل أو العلم، وحتى موقف المراجع الدينية نفسها. إنها وقائع متخيلة وحلمية وتعبر عن الخوف الذي يعتري المرء إزاء الوباء والموت ومواجهة هذا الخوف ماورائياً أو دينياً. وما يجب عدم نسيانه أن الإنسان عادة ضعيف وضعيف جداً أمام لحظة الفراق، وهذا من حقه. ليس كل امرئ "سوبرمان" بحسب مقولة نيتشه الذي رفض التوبة على يد الكاهن عندما كان يحتضر. وليس مستغرباً بتاتاً أن ترى بعض الجماعات الدينية في الوباء عقاب السماء للأرض أي للبشر الذين ارتكبوا الموبقات، وترد إلى الذاكرة هنا أسطورة سادوم وعمورة المدينتين اللتين عاقبهما الخالق بالنار والكبريت. إنها المخيلة الشعبية الميتولوجية التي عمل عليها علماء كبار وفي مقدمهم كلود ليفي سترس.
ولم يكن مستغرباً أيضاً أن تحتل أخبار كورونا وسائل التواصل الاجتماعي في العالم، فتشغل الناس وتساهم في نشر حال الذعر والريبة، لا سيما عندما تنحرف هذه الوسائل الإلكترونية الرهيبة والتي تعد من أهم مكتشفات العصر الراهن، عن أهدافها السليمة وتعتمد التضليل والتزوير، لغايات معروفة حيناً ومجهولة حيناً آخر. إننا نعيش في زمن يسميه بعضهم زمن "الفايك نيوز"، وهذه آفة من آفات عصر التكنولوجيا والمعلوماتية.
هل كان أحد يتصور أن وباء كورونا سيكون له مثل هذه العواقب الرهيبة وغير المتوقعة؟ عدوى سريعة الانتشار، ضحايا لا يحصى عددهم، مدن بل مقاطعات تعزل، مطارات تغلق، خطوط جوية وسكك حديد تقطع، مدارس وجامعات تقفل أبوابها، خسائر مالية بالمليارات، مستشفيات لا تتسع لأعداد المصابين، تضاؤل الأدوية والمستلزمات الوقائية من الصيدليات، لا مقاهي ولا مولات ولا مطاعم ولا مسارح ولا صالات سينمائية...
لعل الشعار العالمي المرفوع الآن يحمل دعوة صريحة إلى البقاء في المنازل، للانعزال في البيوت. ويمكن ترجمته: "خليك بالبيت". وهذه جملة من أغنية للمطربة الكبيرة فيروز، لكن نداء الحب هنا استحال نداء استغاثة، يطلقه أفراد وجماعات.