سبحان مغيّر الأحوال، فبين ليلة وضحاها يتحوّل الاهتمام المصري بالمنظفات والمطهرات من مطاردة مصانع "تحت بئر السلم" غير المرخصة والمصنّعة على أيادي من لم يمر أمام باب كلية العلوم أو لم تطأ قدماه حصة الكيمياء، إلى البحث والتنقيب عن كل من لديه عروض أو خصومات على المنظفات والمطهرات، بغض النظر عن شيوع الاسم أو هُوية المُصنّع أو ماهية التركيب.
وبين انتشار محدود لفيروس وتكاثر غير قابل للفهم أو التفنيد، تتغير دفة الميل المصري الحصري للسخرية من العطس، والتقليل من شأن السّعال صوب السخرية من المنظفات مع تعظيم شأن المطهرات والإبداع والابتكار في مجال سرد مكونات الليمون مع الخل وقليل من الثوم، أو كثير من الثوم مع الملح، وبعض من عسل النحل مع حبة البركة، باعتبارها قادرة على مجابهة الفيروس ووأده في المهد.
غزوة المنظفات
مهّد الصبيُّ ابن الـ12 عاماً الطريق لوالدته وخالته وجدته لغزو الممر المرجو عبر تخصيص عربة تبضّع لكل منهن، وسدّ الطريق أمام حركة المتبضعين إلى أن تفرغ السيدات الثلاث من أداء مهمتهن.
وفي أقل من دقيقتين، كانت العربات الثلاث ممتلئة تماماً بكل أنواع المنظفات والمطهرات السائل منها والجامد، وبالطبع "الجل" المفضّل لدى الصغار والشباب.
منظفات برائحة معهودة، وأخرى بروائح الفل والياسمين، وثالثة بالعنبر والعود، ومطهرات برائحة الكحول النفّاذة، وثانية برائحة الفينيك الشعبية، وثالثة عليها بصمة "ديتول" الغربية. أمّا "الجل" فألوان وأشكال، لدرجة أن جل الشعر والغسالات الأوتوماتيك انضمّ إلى الهرم المرصوص على العربات في غزوة المنظفات.
المتجوّل في شوارع القاهرة والمدن الكبرى هذه الأيام يلحظ رائحة إضافية تنضم إلى خلطة الروائح المعروفة للمقيمين والعابرين، أتربة "أمشير" مع عوادم السيارات مضاف إليها عبق الخماسين مع هبات جغرافية تنجم عن عربات الفول والفلافل، أو محلات الكباب والكفتة، وربما أكشاك السجق والكبدة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن، كل ذلك تنحّى جانباً وتقوقع غالباً أمام فورة صحية توعوية مفاجئة قوامها "جاز أو كلور خيرٌ من الحَجر والقيل والقال".
وبعد كل ما يقال في وسائل الإعلام التقليدية والجديدة والشفهية، تبقى بائعة الخضراوات في شارع روض الفرج بحي شبرا بالقاهرة أيقونة من أيقونات التطهير في عصر الكورونا.
زجاجة صغيرة تفتحها العجوز بين الحين والآخر، وتبلل قطعة قماش صغيرة بالسائل الكامن بداخلها، ثم تمسح سطح الطاولة الصغيرة التي تضع عليها الخضراوات، الرائحة نافذة ومعروفة. إنه "كيروسين" أو "جاز".
الأكبر سناً يتذكّرون عربة "الجاز" الشهيرة التي كانت تمر في الشوارع والحارات ينادي سائقها بعلو الصوت "جااااااز"، إذ يستخدم في تنظيف البيوت وتلميع الأخشاب، والقضاء على القمل والصئبان في رؤوس البنات وأحياناً الصبيان.
اليوم، تقلّص بائعو "الجاز"، وقلّت استخداماته أمام طوفان الحداثة، حيث زجاجات أنيقة وعبوات ملوّنة تعد بالقضاء على الجراثيم والفيروسات في مرة واحدة. لكن تبقى فئة من البسطاء تعتمده مكوناً رئيساً في حياتها اليومية، ومنهم بائعة الخضراوات التي قالت بفخر شديد: "موضوع الكورونا لا يحتاج إلى أي استعدادات خارقة أو تجهيزات سابقة، فقط شوية جاز من بتوع البت (البنت) أفضل من مئة مطهر".
رواج المطهرات
من جهة أخرى، شهدت صناعة المنظفات والمطهرات في مصر انتعاشاً كبيراً في السنوات القليلة الماضية، لأسباب عدّة أبرزها تعويم العملة المحلية (الجنيه المصري)، وهو ما أدّى إلى ارتفاع سعر المنظفات بشكل كبير، ووجود الحاجة الماسة إلى سد العجز عبر الإنتاج المحلي.
السبب الثاني الأبرز وهو إقبال كثيرين على هذه الصناعة والتجارة الرابحة، لا سيما أنّ عرض المنتجات الرخيصة غير المرخصة في الأسواق الشعبية وعلى الأرصفة يلقى رواجاً كبيراً.
في سوق "سعد زغلول" المتاخمة لعددٍ لا بأس به من الوزارات المصرية يفترش الباعة الأرصفة والشوارع، والسلعة الأكثر رواجاً هذه الآونة التي تلقى إقبالاً منقطع النظير من جحافل الموظفات بعد انتهاء مواعيد العمل الرسمية هي زجاجات المنظفات والمطهرات الرخيصة وغير المعروفة المصدر.
تجدهن يفتحن الزجاجات، يستنشقن الروائح، ويخترن الأحلى: عود، ومسك، ولافندر، وياسمين، وتفاح، وليمون، وتشتري كل منهن زجاجتين أو ثلاثاً لنفسها وحماتها وسلفتها وهلم جرا. تسأل إحداهن: لكن محتوى الزجاجة غير معلوم المصدر أو المصنع؟ ويأتي الردّ الجماعي: "لن نأكله أو نشربه. هو فقط مطهر ومنظف".
وبعيداً عن الأثر الصحي السلبي والخطير للمنظفات والمطهرات غير المرخصة، فإنّ الإقبال الشديد على شراء هذه المنتجات يعكس وعياً "منقوصاً" بأهمية النظافة في زمن الكورونا.
خصوصية "كورونا"
لكن، لزمن الكورونا في مصر خصوصية. قوائم المنظفات والمطهرات المحلية تتصارع وتتسارع من أجل نيل "التريند"، أو الانتشار في الأسواق وبين الأصدقاء والصديقات، كلّ حسب فئته وقاعدته وأولوياته.
راكبة في مترو الأنفاق بعربة السيدات نجحت في جذب كوكبة من الراكبات حولها، لأنها ظلّت تشرح تركيبة البصل بالليمون بالخل مع بكربونات الصوديوم.
جروبات الماميز (مجموعات أمهات الأطفال في المدارس على واتساب) تحوي هي الأخرى كماً مذهلاً من الوصفات، بعضها بالغ التكلفة، مثل خلط الديتول بـ"جل" التعقيم، وعليه قليلٌ من الكحول الطبي مخصص للمدارس الدولية.
والبعض الآخر في متناول أيادي أمهات الصغار في المدارس الحكومية، حيث أكل كثيرٍ من البصل لتقوية المناعة، ونثر رذاذ الفينيك المخفف بالماء لضمان نظافة الحمام.
وصفات العطارة
"دخول الحمام ليس كالخروج منه"، هكذا يقول المثل الشعبي الشائع، ودخول زمن الكورونا لا يصح الخروج منه من دون أن ينتفع كل من يستطيع الاستفادة، وتأتي ضمن القائمة محلات العطارة التي لم تدع الموسم يمر من دون أن تنتفع، وعلى حد قولهم تنفّع.
يانسون النجمة، والزنجبيل بالقرفة، والكركم، وجذور عرق السوس، والريحان، ومعه الحبهان، وقليل من البردقوش، وحبذا بعض من الطرخشقون وغيرها المئات من الأعشاب التي تُباع منفردة أو في خلطات يسميها العطارون أسماءً جاذبة واعدة بالبيع الكثير والربح الوفير.
وعلى الرغم من توافر المعلومات الصحية والطبية أولاً بأول من منظمة الصحة العالمية ووزارة الصحة المصرية حول الفيروس وسُبل الوقاية المثلى، فإنّ "اللمسة المصرية" لا غنى عنها.
سماح تحوّل الملابس الداخلية القطنية القديمة والمغسولة جيداً بـ"البوتاس" الكاوي أو هيدروكسيد البوتاسيوم، وهو أحد المركبات الكيماوية الشديد الخطورة، وأحد الركائز الكيماوية في البيوت المصرية القديمة على مدى عقود طويلة بغرض تنظيف الملابس رغم حوادثه القاتلة الصغار الذين يشربونه في غفلة من الأهل، إلى كمامات تظنّ أنها واقية.
ورغم أنّ الوقاية لا تتحقق بكمامات سماح المنزلية، إذ إنّ الأقمشة لا تحول من دون اختراق الرذاذ التنفسي، فإنّ كماماتها انتشرت في محيط الجارات وأمهات الأولاد بالمدرسة، لدرجة أنها تصنع كمامات أكبر نسبياً للمدرسين الخصوصيين إمعاناً في الوقاية الافتراضية.
على القلب السلام
افتراضياً، يلتزم الجميع التعليمات الصحية، لأنها الوحيدة الموثوق بها. وفعلياً، تقبل الملايين على متابعة ومشاهدة كل ما يصل إليها من تدوينات وتغريدات وأحاديث شفهية وفيديوهات تشاركية خاصة بالفيروس.
عاملة الحمامات في النادي الرياضي الشهير، جلست أمام باب الحمام من الخارج رغم العاصفة الترابية، حتى تقلل احتمالات الإصابة في داخل الحمام لأنه مغلق، واستغرقت في مشاهدة فيديو أرسله إليها ابنها، وهو مقطع عن الفيروس وسُبل الوقاية منه، والفئات الأكثر عرضة للإصابة.
فجأة، شهقت شهقة مدوية، معربةً عن خوفها، وبسؤالها عن السبب قالت إنها مريضة بالقلب، و"مقطع الفيديو ذكر أن مرضى القلب من الفئات المعرضة لقدر أكبر من الخطورة".
وبعد ما تمتمت لها النساء بأدعية من شأنها أن تحفظ العباد، داعيات إياها أنّ ربنا هو الحافظ، وقل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، وصلت زميلتها حاملة طعام الإفطار: فطيرة بالسمن والعسل، وأخرى بالقشدة والمربى، وبرطمان "مش" (جبن شديد الملوحة)، فهمست إحداهن ضاحكة: "قل على القلب السلام".