يخطئ من يظنّ أنّ رواية الكاتب والناقد المغربيّ محمّد برّادة "رسائل من امرأة مختفية" ( دار المتوسّط ) تنتمي فقط إلى أدب التراسل نظراً إلى عنوانها، فصحيح أنّها تحتوي على عدد من الرسائل المتبادلة بين عالِم الاقتصاد هيمان السبتي والصحافيّة المثقّفة جاذبيّة عبد العزيز، لكنّ تعدّد مستويات اللغة وتعدّد الأصوات، بما معناه تعدّد الرواة، أخرج الرواية من حيّز أدب المراسلة إلى أفق رواية تجريبيّة اختار كاتبها أن يجعلها أحجية متعدّدة الأساليب الروائيّة لا تمنح مفاتيحها للقارئ الذي يَعد نفسه بقراءة مستقرّة هادئة.
ويبدأ برّادة بإطلاع قارئه على مخطّطه الروائيّ متحدّثاً بضمير المتكلّم العائد لِـ"هيمان" ومتوجّهًا إلى الحبيبة "جاذبيّة" فيقول: "بعد مضيّ هذه السنوات كلّها، وبعد اختفائكِ الملغز، من الطبيعيّ أن أستعيد مسار علاقتنا، محاولاً أن أحدّد بداياتها. إذا صدقت الذاكرة، كان ذلك في ستّينيّات القرن الماضي، عندما قادتني الصدفة إلى شراء مجلّة "هنا كلّ شيء" لأستجلب بها النوم." (ص: 11)، فيأمن القارئ للراوي ولأسلوبه ولضمير المتكلّم العائد لهيمان ولضمير المخاطبة العائد للصحافيّة جاذبيّة عبد العزيز، لكنّ الأوراق ما تلبث أن تُخلط ليتغيّر الراوي وتتغيّر الضمائر وتمتزج الأصوات فيشعر القارئ أنّه مضطرّ إلى اكتشاف اللعبة الروائيّة المعتمدة مجدّدًا ومع كلّ فصل جديد.
ولا تكتفي هذه الرواية بالانطواء تحت راية الرواية القائمة على علاقة ورسائل بين رجل وامرأة، بل هي تتعدّى ذلك لتتطرّق إلى قضايا أعمق وبشكل رزين وسلس ومبطّن. فيتوقّف برّادة عند مسائل صراع الطبقات الاجتماعيّة، وهموم مرحلة ما بعد الاستقلال في المغرب وهي مرحلة حاسمة في تاريخ المغرب، وقضيّة تحرّر المرأة، وسعي الفرد الأبديّ للفكاك من استبداد السلطات والمجتمع، كما يتوقّف عند الكتابة ودورها وهمومها. فيطلق برّادة العنان لشخصيّاته لتفضح مجتمعًا خاضعًا للعبثيّة والفوضى ومكبّلاً بذكوريّة وعادات وتقاليد يعجز الفرد عن العيش في ظلّها، لتبقى الكتابة وحدها الملاذ والمتنفّس.
مجتمع وأفراد
يمكن تصنيف هذه الرواية بأنّها رواية انتصار المجتمع بمؤسّساته المكبِّلة، فالإحساس الأقوى المسيطر على طرفَي قصّة الحبّ هو إحساس اليأس وعبثيّة التحدّي، فالطرفان يتنازلان عن مزايا متعدّدة من شخصيّتيهما الحالمة المتمرّدة المفعمة بالطاقة انصياعًا للمجتمع، فمن ناحية يتزوّج هيمان بامرأة تنتمي إلى الطبقة المخمليّة من المجتمع هو المتمرّد المتحرّر وهذه هزيمة أولى تجرّ غيرها، بينما تضطرّ جاذبيّة إلى الاختباء خلف أقنعة الزواج والكتابة باسم مستعار لتتمكّن من المحافظة على شيء من ذاتها، ويعترف الاثنان بصعوب مواجهة المجتمع وتحدّيه علنًا فيبجّلان النفاق، وهو هذه المرّة ليس مثلبة أو سيّئة إنّما هو سلاح الضعيف في مواجهة الموروث والمتعارف عليه: "النفاق ضروريّ لكلّ مجتمع يريد أن يستمرّ، لأنّ النفاق هو بمثابة المخمِّد الذي يخفّف صدمة الحقائق الكامنة وراء الوجوه، وفي ما تخفيه الصدور." (ص: 79).
وفي ظل الخيبات والهزائم الاجتماعيّة والسياسيّة واندثار الأحلام التي خلقت ذات يوم طاقة عند شباب المرحلة الانتقاليّة التي عاشها المغرب أي في سبعينيّات القرن العشرين، يعود هيمان إلى مرحلة الشباب الذهبيّة والزاخرة بالآمال والطموحات، يعود إلى مرحلة ما قبل الاستسلام بحسرة وحزن ويأس ويقول: "أجدني غائصًا في تلك اللحظات الحلميّة التي عشناها معًا أيّام كنّا نظنّ أنّ بوسعنا أن نقطف النجوم رغم بعدها..." (ص: 18)، ليكون هذا الاعتراف إعلاءً لراية الهزيمة والاستسلام.
نافذة الحرّيّة
تعتمد الصحافيّة الشابّة والمثقّفة جاذبيّة عبد العزيز على الزواج غطاءً اجتماعيّاً لها يحرّر سلوكها وينقذها من نير قيم المجتمع الحازمة والقاسية على الرغم من أنّها امرأة مستقلة ومتعلّمة. فتتزوّج ثلاث مرّات من ثلاثة رجال تخسرهم بحكم القدر لكنّها تأمن عبرهم من بطش المجتمع وسخطه، فتقول بثقة ومن دون خجل لهيمان مبرّرة رغبتها في الزواج بعد خسارتها زوجها الأوّل ومن ثمّ الثاني: "أنا لا أستطيع أن أبقى من دون زواج، لأنّه ما يضمن لي حرّيّتي في الخروج من البيت والتنقّل، ويكفّ عنّي ألسنة هواة التشنيع والإشاعة... الزواج هو واجهة أمارس من خلالها حرّيّتي... لم أجد وسيلة لسرقة أقساط من حرّيّتي المصادرة سوى الاحتماء بواجهة الزواج." (ص: 81).
وكأنّ النفاق والزواج الصوريّ هما الحلّ الوحيد أمام المرأة المثقّفة لتنجو من سياط المجتمع، فتلعب جاذبيّة اللعبة لسنوات إلى أن تقرّر الرحيل، فتختفي. فهل هذا الخيار الذي قامت به جاذبيّة هو حُكمُ برّادة على المرأة المناضلة بالاختفاء والهرب؟ هل هو توقّعه للمستقبل؟ هل هو لعنة المرأة المتحرّرة أن تختفي؟ عانت جاذبيّة طويلاً من أحكام المجتمع وأهله وتابوهاته هي التي أرادت أن تمارس حقوقها في مجتمع يحترم فكرها وجسمها وطموحها، هي التي تقول بمرارة لا تخلو من يأس واستسلام: "كانت الرغبة التي تسيطر عليّ لحدّ الهوس، هي أن يعترف بي الجميع كإنسانة لها مشاعر ورغبات ونزوات، قبل أن أُصنَّف امرأة داخل فضاء أشبه ما يكون بالقفص." (ص:37)، أهل من العدل أن ينتهي الأمر بها بالهرب والرحيل؟ هل هذا توقّع لقتامة المستقبل الذي ينتظر المثقّفة المغربيّة؟ لماذا شاء برّادة إخفاء المثقّفة؟ وهل هو اختفاء قسريّ أو إراديّ؟
الكتابة ملجأً
في ظلّ تشظّي شخصيّات برّادة وعدم استقرارها وانهزامها، تظهر الكتابة المخرج والمنفذ، فتقول جاذبيّة: "قادتني حيرتي، نهاية الأمر، إلى أن أتّخذ من الكتابة وسيلة لممارسة حرّيّتي ولو في حيّز ضيّق، ضمن المتاح. أقول دائمًا مع نفسي، إنّ المبرّر الوحيد للكتابة هو أن أستجلي تلك العناصر المتخفّية التي تشدّ وثاقنا إلى الحياة على الرغم من امتلائها بالمنغّصات والمآسي والأحقاد." (ص: 39). تصبح الكتابة سلاح المرأة والطريق الوحيد أمامها لتتمكّن من إثبات نفسها وفكرها ووعيها. ولا تنحصر وظيفة الكتابة المحرِّرة هذه بالمرأة، فأيّ امرء يعيش في مجتمع كمجتمع برّادة وفي المرحلة الانتقاليّة المصيريّة تلك يحتاج إلى الكتابة فسحة حرّيّة ومتنفّساً: "من حسن حظّ المرتبطين بالكتابة أنّهم قادرون على تعويض تفتّت العالم ورخاوته بنسج عالم متماسك من الكلمات، تبدو الأشياء داخله على غير ما هي عليه في الواقع من سيولة وتبدّد ولامعقوليّة... وأمام هذا المنطق، كنتُ أقتنع بأنّ الكلمات هي ملجئي الوحيد." (ص: 126). من هنا تصبح العلاقة المتوهّجة القويّة القائمة بين هيمان القارئ وجاذبيّة الصحافيّة علاقة منطقيّة متماسكة متينة تشكّل ربّما الحبل الروائيّ الوحيد الثابت في فضاء اجتماعيّ ثقافيّ مهزوم ومستسلم.
لا يمكن لقارئ برّادة ألاّ يتوقّف عند اللبس الحاصل في التواريخ داخل الرواية، وقد يكون لبساً متعمّداً فيورد برّادة أنّ هيمان تزوّج "مطلع تسعينيّات القرن الماضي" (ص:95) وظلّ متزوّجاً لثلاث سنوات فقط، ثمّ يورد أنّ جاذبيّة عندما لم تستطع التواصل معه في هذه الفترة قرّرت الاختفاء ورحلت، وعندما حاول هيمان التواصل معها بعد طلاقه أي بعد ثلاث سنوات من تسعينيّات القرن العشرين أتاه الخبر الغريب: "نجاة أخبرته أنّ سنتين مرّتا على اختفاء أختها جاذبيّة، وأنّ تحرّيات الشرطة لم تُسفر عن أيّ شيء يُسعف على معرفة مصيرها." أي أنّ جاذبيّة بالمبدأ اختفت بين العامين 1990 و1993 على أقصى تقدير، فكيف إذاً تورد صديقتها رسالة مُلفّقة ومكتوبة باسمها بتاريخ 1987 وتورد فيها أنّها في باريس منذ سنتين أي منذ 1985؟ كيف يمكن لجاذبيّة أن تختفي مطلع تسعينيّات القرن العشرين وأن تكون هناك رسالة وضعتها صديقتها بالنيابة عنها قبل ذلك بثلاث سنوات على الأقلّ؟ هل قصد برّادة هذا كي يلمح إلى أنّ جاذبيّة قد تمّ اعتقالها وأنّ الحجج الملفّقة لإخفاء هذا الاعتقال واهية وهشّة ؟... وماذا أراد برّادة من هذا الاختفاء الغامض؟ لماذا أخفى برّادة بطلته المرأة المثقّفة هي التي جعل قارئه يؤمن بأنّها تتمتّع بحنكة وقوّة وثقافة قد ينقذانها؟ لماذا أخفى برّادة أقوى نسائه ولملم المسألة في رسالة ملفّقة؟
في نهاية المطاف، يبقى اختفاء الصحافيّة المثقّفة أساس الحبكة الروائيّة والأحجية الكبرى التي يقف أمامها كلّ من هيمان والقارئ عاجزين. فهل هو اختفاء إراديّ أم قسريّ؟ هل هربت المرأة المتحرّرة رغبةً منها في ذلك أم إكراهاً؟ وهذه الرسائل التي من شأنها أن توضح هذا اللغز لماذا تُراها تزيد من تعقيده؟