تتّسع رقعة كسر "ثقافة الصمت" عن جرائم الاغتصاب والتحرش الجنسي لتطاول المخرج الأميركي وودي آلن. فقد عادت مجدداً إلى الواجهة الاتهامات التي وجّهتها له ابنته بالتبني ديلان فارو من زوجته الممثلة ميا فارو بالتحرش الجنسي بها في "علية" منزلهما الريفي وهي في عمر السابعة، والتي نفاها سابقاً في 1992 وما زال ينفيها حتى الآن. وعلى الرغم من التحقيق معه من قبل محكمَتَيْ نيويورك وكونيتيكيت آنذاك، تمت تبرئته بـ"عدم كفاية الأدلة".
كلنا نعلم أن هذه القضايا يصعب إثباتها من قبل الضحايا، لا سيما حين يتم السكوت عنها من قبل الضحية وقت وقوعها بسبب إحساسها العميق بالخزي والعار وشعور بالذنب الذي يتلبس الضحية ويمنعها من الشكوى لحظة وقوع حادثة التحرش الجنسي الذي قد يصل في بعض الأحيان إلى الإيذاء الجسدي أو درجة الاغتصاب، لا سيما حين تكون الضحية في عمر الطفولة سواء كانت أنثى أو ذكراً. أما في حالات التحرش ممن هن/م في سن البلوغ أو "القصّر"، فيكون السكوت - فضلاً عمّا سبق - لعدم قدرة الضحية على إثبات تعرضها للتحرش "سوى كلمتها"، مقابل "كلمة المتحرش" والخوف من خسارة السمعة في حال عدم القدرة على إثبات واقعة التحرش حتى لو وصلت إلى درجة الاغتصاب، بخاصة عند النساء والأطفال.
هذا ما يضع الضحايا في عجز ويُتركنَ/ون فريسة للوحدة والعزلة الداخلية والنفسية التي يسبّبها الصمت والشعور بالخزي والذنب الذي يلازمهنّ/م طوال حياتهنّ/م ويؤدي أقله إلى اكتئاب مزمن أو أمراض نفسية نتيجة الصدمة تعكّر حياتهنّ/م وتنعكس على علاقاتهن/م الجنسية مستقبلاً وقد تتسبب بانحرافات سلوكية أو بعلاقات زوجية مريضة ومتوترة تعيد إنتاج مشاعر الخزي والذنب مراراً وتكراراً وتطبع سلوكياتهنّ/م عند كل مواجهة مع الجنس الآخر سواء كانت في العلاقات الحميمية أو حتى في الخيارات والقدرة على مواجهة التحديات.
نون النسوة
ونون النسوة تتصدر قائمة ضحايا أطفال التحرش الجنسي بسبب الخضوع الذي تتربّى عليه البنات منذ نعومة أظفارهن في ظل ثقافة ذكورية سائدة تميّز بين الصبي والبنت لغير صالح البنات، وإن تتعدّى أضرارها مستقبل الصبيان منذ الصغر وتنتج لديهم السعي للسيطرة والتمتع بالامتيازات التي تتيحها هذه الثقافة لهم، وتتسبب لهم أيضاً بانحرافات جنسية خانعة أو مستبدة عدائية، تبعاً لتجارب الطفولة في التعرض للتحرش من عدمه.
لذلك، تنتمي قضية التحرش الجنسي الى قضايا المرأة بالدرجة الأولى كنتيجة طبيعية لأسطورة التفوق الذكري عليها وتنسحب على جوانب عدّة من حياة البشرية تشمل الرجال والنساء - بأضرارها- على حد سواء لما يتكبّده الجنسان من معاناة تطغى على العلاقات الجنسية والزوجية وتتسبب في فشلها وتشوّهها تحت سياط "استعباد النساء" الذي تروّج له الثقافة الذكورية في الوعي البشري والذي لا ينجو منه أي من الجنسين ويتغلغل في "لا وعي" المجتمعات بنسب مختلفة تتعلّق بمدى كسر منظومة العادات والتقاليد والقيم التي تحمي وتعزّز هذه الثقافة، وتبعاً لتطور القوانين التي تحمي حقوق النساء أو تطور الوعي الفردي والنضال الذي بدأته النساء منذ عشرات السنين على يد رواد، غالبيتهم من النساء.
لكنّ مسألة التغاضي عن قضية التحرش الجنسي أو الاعتداءات الجنسية، وصولاً إلى الاغتصاب تنحسر شيئاً فشيئاً مع كسر الصمت الذي تلجأ إليه بعض الضحايا ولو متأخرة، كما فعل عدد كبير من نجمات هوليوود بعدما صمتن طويلاً حين تعرّض المنتج الأميركي هارفي واينستين لفضيحة التحرش الجنسي عام 2017 انتهت بتجريمه وصدور قرار بالسجن لمدة 23 عاماً، سيما بعدما توالت عليه اتهامات التحرش، فكسرت أكثر من 30 ممثلة في هوليوود "الصمت " وانضممن إلى قائمة من تم التحرش بهن من قبل واينستين، منهن على سبيل المثال الممثلة الأميركية الأكثر شهرة أنجيلينا جولي التي تُعرف بالأكثر جرأة على مواجهة الظلم في معرض سعيها الدائم للدفاع عن "حقوق اللاجئين والفقراء والمظلومين والأطفال والنساء" على مستوى العالم وكسفيرة للأمم المتحدة.
فلماذا تسكت إذاً واحدة من مثل أنجيلينا جولي كل هذا الوقت وهي التي تعرّضت للتحرش وهي بالغة وتملك من القوة والتأثير ما لا تملكه ضحايا عدّة؟ وفي باريس صدر أخيراً كتاب للصحافية والكاتبة الفرنسية غيليا فوييس بعنوان "إنني واحدة من ثلاثة" (دارفلاماريون) أحدث سجالاً نظراً لجرأة صاحبته في عرض قضية الإغتصاب الذي تعرضت له مرتين تحت التهديد بالسلاح، وفي تحليل هذه القضية في نسيج سردي مشوّق. وهي تعتبر الإغتصاب جريمة ولكن بلا جثة.
الشعور بالخزي
إنه مجدداً الشعور بالخزي الذي يثيره التحرش الجنسي بالضحية، سيما أنّ إحساسها بما قد يسبّبه الكلام عن تعرضها للتحرش من نيل لسمعتها وحياتها الخاصة واستجواب لسلوكياتها، وربّما إيجاد ثغرات في حياتها قد تعكّر صفوها، وأيضا كونها قد لا تستطيع أن تثبت دليل التحرش بها سوى كلمتها مقابل كلمة "المتحرش" الذي قد ينجح أحياناً كثيرة بالتحرش الجنسي والاعتداء وصولاً إلى اغتصاب بعض الضحايا لأنه لم يوقَف عند حدّه ويُعاقّب منذ الحادثة الأولى أو العاشرة... أو...
فإذا كانت واحدة من أمثال أنجيلينا جولي سكتت طويلاً عن تعرضها للتحرش وكذا النجمات الأخريات ممّن يتوفرن على "القوة والقدرة على المواجهة" من طفلة صغيرة أو امرأة عادية فقيرة ومكسورة الجناح، فكيف والحال يمكن القضاء على "ظاهرة التحرش الجنسي" عبر العالم؟ ظاهرة تصيب الملايين من الضحايا بأضرارها وتطال بالفضائح رجالات سياسة ورجال أعمال نافذين ورجال دين حتى في الفاتيكان ومثقفين وفنانين وأساتذة جامعات ومعلمين وقضاة وأقرباء وأصدقاء ورجالاً عاديين ومديرين نافذين في مؤسسات العمل وشركات يهددون أرزاق موظفات، وقصّراً في المدارس يتحرشون بمن هنّ/م أصغر سناً... ظاهرة تتخفّى بفعل القوة الجسدية أو الاجتماعية أو المعنوية وتتغلغل في حياتنا مثل فطر سام ينمو ويتناسل على أرض ثقافة ذكورية فاسدة تسمّم حياتنا وتتسبّب للجميع بالأذى.
إنّ ما يُسكت عنه هو أشبه بالوباء وربما أخطر. وحده الوعي البشري بخطورته وضرورة مجابهته، قد يسمح لنا باحتواء هذا الوباء والقضاء عليه وكسر "فضيلة الصمت" الذي لا فضيلة فيه. وفي باريس صدر أخيراً كتاب للصحافية والكاتبة الفرنسية غيليا فوييس بعنوان "إنني واحدة من ثلاثة" (دار فلاماريون) أحدث سجالاً نظراً لجرأة صاحبته في عرض قضية الإغتصاب الذي تعرضت له مرتين تحت التهديد بالسلاح، وفي تحليل هذه القضية في نسيج سردي مشوّق. وهي تعتبر الإتصاب جريمة ولكن بلا جثة. كسرت الإعلامية الفرنسية المعروفة صمتها بعد ثلاثين عاماً على حادثة الاغتصاب ، وتزامن صدور كتابها مع الاتهامات الموجهة - منذ بضعة أيام- إلى المخرج الأميركي وودي آلن الذي يواجه صعوبات حالية في نشر مذكراته التي رفضت دور نشر عدّة حتى قراءة مسودتها تحت وطأة هذه الاتهامات، وتظاهر موظفون في دار هاشيت – القسم الأميركي ضد نشر الكتاب، وأعلن عددٌ كبيرٌ من ممثلات وممثلي هوليوود توقّفهنّ/م، أو ندمهنّ/م من العمل معه تبعاً للاتهامات التي عادت ووجّهتها إليه ابنته بالتبني ديلان فارو والتي ما زال ينفيها! وهل له - أو لأي متحرش – أن يقرّ بجريمته إلاّ بعد أن تتوفر شهادات ضحايا آخرين؟ أو أدلة مادية هي أشبه بالمستحيل؟
إن صحّت اتهامات ديلان فارو، فهل يمكن اعتبار حادثة تحرش وودي ألان بها، مجرد حادثة تحرش جنسي أم هي حادثة اغتصاب، كون ديلان فارو كانت مجرد طفلة في السابعة من عمرها لا تستطيع أن تعترض ولا تملك أهلية أو قدرة على الاعتراض وهي لا تعي بالأساس ما حدث أو يحدث لها؟ شأنها شأن كثيرات من الصغيرات والصغار، أم شأن ضحايا كثر في أوضاع هشّة متنوعة حتى لو "كنّ" أو "كانوا" بالغين؟ حتى لو كنّ يحملن شهادات جامعية عليا لن تستطيع أن تحميهن في أماكن العمل؟ حتى لو كان المتحرش شخصاً موثوقاً ـ عادة – أو صديقاً للعائلة ،أو أخاً، أو خالاً، أو عماً، أو حتى أباً؟ لا فرق!