لا يقبل فيروس "كوفيد 19" أنصاف الحلول، ولا امتثالاً أقل من "الطاعة العمياء"، في ما يكشف عنه حتى الآن سلوكه في المعمورة، جائلاً بين القارات، موزعاً نسله بالتساوي بين الشعوب والأمم، من دون أن يبالي بظروفها أو أعيادها أو حتى جاهزيتها.
ومع أن مستبدين وغزاة معدودين، ضُربت بهم الأمثال عربياً على نحو الإسكندر المقدوني وجنكيز خان وهولاكو ونابليون وهتلر وموسوليني، إلا أن سرعة تنقّل فيروس كورونا بين الدول، والرعب الذي أشاعه على الخرائط في ظرف شهرين فقط، يجعل من كل أولئك تلامذة مبتدئين، وجنوداً متواضعين في إخضاع الأقاليم.
لا تردعه قوات بوتين أو ترمب
لكن لا يعني ذلك أن "كوفيد" لا يحتفظ ببعض الجوانب المشتركة مع أسلافه المستبدين، فمع أن أحداً ليس بمعزل عن سطوته، إلا أن نقمته الكبرى تحيق أكثر بأولئك المعاندين، المستهترين بقواه الخفية في التدمير وإلحاق الأهوال بالمشككين في قدراته، أو العُزّل من أي حماية منكشفي الظهور، ما دفع الكاتب اللبناني الكبير غسان شربل للقول "في زمن كورونا تحسد من ينتمي إلى دولة تستحق هذه التسمية. دولة مؤسسات وجدية وشفافية. كورونا لصّ عبقري وقاتل متسلسل. يسخر من أساطيل ترمب ومن صواريخ بوتين. ويستولي بلا رحمة على طريق الحرير".
ولاحظ رئيس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي، أمس الاثنين، أثر عدم الجدية في التعامل مع توغل الفيروس، فحذّر مواطنيه من الاستهتار بالوباء، قائلا "الأعداد بدأت في الزيادة، وقد لا تكون بنفس الصورة في دول أخرى، لكن لا بد من أخذ الحذر أيضاً"، مبدياً أسفه لظهور سلوكيات تقلّل من قيمة الإجراءات الاحترازية المتخذة من الدول، مضيفا "للأسف بعد قرار تعطيل الدراسة، رأينا أطفالنا في المناطق العامة والتجمعات، وهذا قد يؤدي إلى زيادة فرص انتشار ونقل العدوى".
ضريبة الاستهتار باهظة
بينما تداول السعوديون تحذيرات في ما بينهم، يدعون فيها مواطنيهم إلى عزل أنفسهم في بيوتهم ما أمكن، كي تؤتي مهلة الأسبوعين التي حددتها الدولة ثمارها، وقالوا على سبيل الدعوة للاعتبار "قبل 15 يوما، كانت حالات الإصابة بكورونا بإيطاليا 270، اليوم أصبحت 21 ألف حالة! نحن أمام خيارين، الانضباط والالتزام أو الاستهتار والتهاون"، وذلك محاكاة لوزيرة الصحة في البلاد التي قالت إن استراتيجيتها هي محاصرة المرض في غضون أسبوعين، ففيها "إما سينحسر أو ينتشر"، حسب التصرف والمسؤولية التي يبديها المواطنون والمقيمون في التعاطي مع الأزمة، من خلال تطبيق التعليمات التي اختصرها وزير الصحة السعودي، الدكتور توفيق الربيعة، في 4 عناصر هي "تجنب السلام باليد نهائياً، والمكوث في المنزل كل الوقت إلا للضرورة القصوى، ثم عزل العائدين من السفر أنفسهم طوعياً، وطلب النصيحة الطبية عند الشك في الإصابة"، معتبراً تلك الاحتياطات كفيلة بتراجع الوباء والسيطرة عليه في وقت مبكر.
وكانت وزارة الداخلية السعودية أعلنت تعليق الدولة الحضور لمقرات العمل للجهات الحكومية كافة، عدا القطاعات الصحية والأمنية والعسكرية ومركز الأمن الإلكتروني ومنظومة التعليم عن بعد في قطاع التعليم.
كما قررت أيضاً إغلاق جميع الأسواق والمجمعات التجارية، سوى الصيدليات ومتاجر تموين الأغذية ومحلات السوبر ماركت، شرط أن تلتزم كل منها تعقيم جميع عربات التسوق بعد كل استخدام، إضافة إلى إغلاق محلات الحلاقة الرجالية ومراكز التجميل النسائية.
أما بالنسبة إلى المطاعم، فنصّ القرار على أن تقتصر خدماتها على الطلبات الخارجية فقط، إذ يمنع جلوس الزبائن داخل المطاعم، كما تمنع التجمعات في الأماكن العامة، بما في ذلك تجمعات الحدائق والشواطئ والمنتجعات والمتنزهات البرية. فيما دعت الأجهزة الحكومية والقطاع الخاص إلى تعزيز المعاملات الإلكترونية وتفعيل منصات الخدمة الإلكترونية عن بعد، وذلك للحد من أعداد الحضور والعاملين داخل المقرات الحكومية.
امتحان المسؤولية
وكان كتّاب عرب، أمثال الزميل مشاري الذايدي، لاحظوا مبكراً أن السيرة الوبائية للفيروس تكشف عن علاقة سلوك تعامل الدول معه، بفتكه وانتشاره.
وقال "مع انتشار كورونا يتم امتحان قدرات الدول الحقيقية، وكيف تتعامل مع هذه المصيبة بعقلانية وحزم ومسؤولية، لأن صحة المواطنين والمقيمين والزائرين لأراضي الدولة هي مسؤولية الدولة".
وبعيداً عن الشماتة، رأى أنه من المجدي في فهم سلوك المرض، المقارنة بين استهتار السلطات الإيرانية بصحة الزوار من المسلمين الشيعة لمقام الإمام الرضا في مشهد، أو مقام فاطمة المعصومة في قمّ؛ حيث مركز التعليم الديني الشيعي، وبين دولة مثل السعودية قامت من دون تردد بتعليق العمرة والزيارة، واتخذت سلسلة من الإجراءات الصارمة، بغض النظر عن شعبيتها أو شدتها، طالما تصبّ في صالح حماية الزائرين للحرمين الشريفين والسيطرة على المرض.
وتساءل "لماذا لم توقف سلطات إيران الزيارات الدينية إلى قم ومشهد؟! ولماذا يتحدث حسن روحاني عن مؤامرة على الشعب الإيراني؟! من المسؤول عن صحة الإيرانيين وزوار إيران؟! إدارة ترمب أم حكومة روحاني"؟
"طائرات الموت"
ولم تكن إيران فقط مثل السوء في التعاطي مع المرض، فهنالك دول ذات سمعة طيبة، مثل بريطانيا وأميركا وفرنسا وألمانيا، سمح ارتباكها أول الأمر تجاه التعامل مع الوباء في تقدير مراقبيها وبعض مسؤوليها إلى منح المرض فرصة للتسلل أكثر بين شرائح أوسع من شعبها، كما أعلن ذلك صراحة رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون.
أما الدول العربية المتهمة بالتبعية لإيران، مثل لبنان والعراق، فإن واقعها أكثر شهرة، إذ ناشد زعماء لبنانيون، مثل وليد جنبلاط، حكومة بلادهم أن يوقفوا ما أسموه بـ"طائرات الموت" المتدفقة من البلاد الموبوءة، مثل إيران وإيطاليا، من الهبوط في لبنان، أسوة بعشرات الدول التي اتخذت ذلك الإجراء.
على النقيض، يمكن أن يقال، على سبيل المجاز، إن الوباء المستبد احترم الصينيين، عندما نظروا له بجدية، وتسلحوا في وجهه بالاحتياطات اللازمة، وهي التي كانت منشأه على الأرجح حتى الآن ونقطة انطلاقه.
وهذا ما دفع الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى الزهو بالإعلان عن تمكن ووهان من "السيطرة عملياً" على فيروس كورونا المستجد، وذلك بعد أول زيارة له للمدينة التي ظهر فيها الوباء قبل أن ينتشر في أنحاء العالم.
وجاءت زيارة شي في وقت تبدو إجراءات الحجر الصحي غير المسبوقة التي عزلت مدينة ووهان وباقي أنحاء مقاطعة هوباي وسط الصين منذ أواخر يناير (كانون الأول) الماضي قد أتت ثمارها، مع انحسار عدد الإصابات الجديدة بشكل كبير في الأسابيع القليلة الماضية. وأكدت وسائل إعلام حكومية أنه تم إغلاق آخر المستشفيات الميدانية، البالغ عددها 16، والتي أقيمت في ذروة تفشي الوباء في المدينة.