مع بدء القوات الروسية والتركية تسيير دوريات مشتركة على طريق حلب – اللاذقية في ذكرى اندلاع الاحتجاجات في سوريا في 2011، يتوقع ديبلوماسيون غربيون من أمثال ميشال دوكلو، السفير الفرنسي السابق إلى سوريا، ألا تقيّض الحياة لاتفاق الخامس من مارس (آذار) الجاري. وهو يتوقع أن يندلع فصل ثانٍ من معركة إدلب. وليس هذا الاتفاق سوى محطة يلتقط فيها أردوغان أنفاسه، على قول دوكلو. فبعض بنود الاتفاق مثل إنشاء ممر آمن يقسم المنطقة إلى حيزين شرقي وغربي، يبدو مثل "الألعاب البهلوانية"، أي مثل السير على حبل رفيع، في وقت يعقد نظام الأسد العزم على استرجاع السيطرة على المحافظة كلها. ويُتوقع ألا يلتزم الروس الاتفاق. ففي المنطقة الواقعة في يد الأتراك بإدلب، يُرابط 40 إلى 50 ألف متمرد، وشطر يعتد به منهم يرتبط بـ "القاعدة" وليس فحسب بـ "هيئة تحرير الشام". وبعض المجموعات لا تأمن موسكو جانبها، وتحديداً تلك الناطقة بالروسية. فهذه المجموعات تهدد، إلى حد ما، القاعدتين الروسيتين في حميميم واللاذقية. وكان أردوغان التزم في سوتشي في سبتمبر (أيلول) 2018، بغربلة المجموعات المسلحة ولفظ تلك "الجهادية". ولكنه لم يفلح في ذلك.
والحق أن الحرب في سوريا متناسلة الفصول ولم تنته بَعد. وثمة إجماع على أن هذه الحرب أو الحروب هي "لحظة جيو - سياسية" كبرى، على قول دوكلو أو منعطف يؤذن بسيولة التحالفات العسكرية، إثر تغير الدور الأميركي العسكري في الشرق الأوسط، على قول الباحثة الفرنسية ألكسندرا دي هوب شيفر. وتخلي واشنطن جزئياً عن أداء دور الشرطي في المنطقة هذه حمل الحلفاء التقلييديين على الاستقلال في القرار عنها، والخصوم (روسيا وإيران) على ملء الفراغ واختبار المتاح أمامهم لبسط نفوذهم.
بين أنقرة والناتو... بُعد وقُرب
ولكن نأي أنقرة عن الناتو في مواجهة موسكو ليس "بينونة كبرى" بل هو نأي نسبي. ففي المواجهة الأخيرة بين القوات التركية والقوات السورية – الروسية (والدور الروسي مقنّع)، توسلت القوات التركية بتكنولوجيا عسكرية "أطلسية" على ما نبهت بارسين ياننج في صحيفة "حرييات" التركية. فتركيا وسعها إسقاط مقاتلتين سوريتين روسيتي الصنع رداً على مقتل جنودها واختراق الرادارات الروسية، بالاستناد إلى مستويات مختلفة من بنية الناتو العسكرية، على قول سنان أولغن، مدير مركز الدراسات الاقتصادية والسياسات الخارجية التركي. فالردع التركي العابر للحدود وثيق الصلة ببنية أطلسية متداخلة.
وتوسلت كذلك القوات التركية بتكنولوجيا تركية محلية الصنع، طائرات الدرون. وكان صهر أردوغان، والد مشروع هذه الطائرات، طالباً في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا الأميركي الذائع الصيت. وما تقدم دليل على تشابك عناصر معقدة ومركبة لا يجوز اختزاله بمعسكرين منفصلين ما على تركيا إلا الاختيار بينهما. وتنبه ياننج إلى أن تركيا لم يكن عليها الاختيار المُحكم بين الغرب وروسيا حتى في عهد الاتحاد السوفياتي. فهي لجأت إلى التعاون مع السوفيات في مرحلة الانتقال من الاقتصاد الزراعي إلى الاقتصاد الصناعي بعد أن أوصد الحلفاء الأطلسيون الأبواب في وجهها. ولائحة المصانع التركية السوفياتية الصنع طويلة. ففي الستينيات والسبعينيات في ذروة الحرب الباردة، كانت تركيا أكبر متلق للمساعدات الاقتصادية الروسية في الدول غير الاشتراكية. وترى الكاتبة التركية أن إرساء توازن يترتب عليه التعاون مع "الخصم" من دون معاداة الأصدقاء يقتضي ديبلوماسية دقيقة. فبعد طي الحرب الباردة، كان توطيد تركيا علاقاتها بروسيا مستساغاً. ولكن في ظل فوضى النظام العالمي الحالية، ثمة حدود للتعاون مع روسيا على المستويين العسكري والاستراتيجي في وقت يتعاظم التباين بين ما تصبو إليه موسكو وما ترمي إليه أنقرة. وخير مثل على ذلك واقع الأمور في سوريا والقرم وليبيا. ولكن ما أقدم عليه أردوغان مؤخراً، أي المطالبة بصواريخ باتريوت أميركية وابتزازه أوروبا باللاجئين، لا يرقى إلى مثل هذه الديبلوماسية الدقيقة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي سياق التحالفات "السائلة" على قول دي هوب شيفر، واشنطن مضطرة إلى التعامل مع حلفاء متعددي الولاءات وحتى متناقضي الولاءات في بعض الأحيان، والصدوع بما حثت هي عليه، إي بروز إدارة محلية وإقليمية للنزاعات عوض الإدارة الأميركية. وعلى الرغم من أن تركيا وروسيا تعززان شراكتهما (بدءاً بخط الغاز، "ترك ستريم"، ومنظومة أس – 400 ووصولاً إلى المفاعل النووي في أكويو بولاية مرسين)، تتباين طموحات كل منهما الجيو- استراتيجية ورؤاهما الاستراتيجية. ولذا، تستبعد دي هوب شيفر دوران أنقرة في الفلك الروسي دوراناً كاملاً، وترجح أن تبقى مرتبطة بحلف الشمال الأطلسي وأميركا. فبلوغ تركيا طرقاً مسدودة في إدلب وليبيا في مواجهتها مع روسيا، حملت أنقرة على العودة إلى الولايات المتحدة و"الأطلسي". وفي هذه العودة إقرار باعتمادها البنيوي على الناتو.
بوتين حليف لدود
أما دوكلو فيرى أن أبرز التحديات اليوم يحدد مصير تركيا المتنازعة بين تركيا روسيا من جهة، وأوروبا والحلف الأطلسي، من جهة أخرى. فالرئيس الروسي، فلادمير بوتين، لم يظهر قدراً من الاحترام يستحقه نظيره التركي رجب طيب أردوغان. فوسائل الإعلام الروسية بثت شريط فيديو يظهر انتظار البعثة التركية وقوفاً في غرفة جانبية استقبال سيد الكرملين لها. وانتشرت على تويتر صور تظهر قاعة لقاء بوتين وأردوغان وفيها تمثال كاثرين الكبرى التي انتصرت على العثمانيين في القرن الثامن عشر وضمت القرم في 1783، وعلى المدفئة خلف الرجلان تمثال برونزي صغير يرمز إلى هزيمة الأتراك في بلغاريا في 1877 و1878. وعلق مناصرو أردوغان على هذه الصور قائلين إن أثاث قاعة لقاء بوتين وأردوغان ثابت ولا يتغير مع تغير الضيوف ولا يُقصد به، تالياً، إهانة أو رسالة. وتقضي مصلحة بوتين بالمضي قدماً في إبعاد تركيا عن حلف شمال الأطلسي، الناتو، في وقت يريد أردوغان أن يوجه صفعة إلى الغرب جزاء تحامله عليه، ويدرك أن موسكو يسعها إنقاذه من الشراك التي أوقع بلاده فيها في سوريا أو تكبيده هناك خسائر عسكرية كبيرة. ولكن التحالف مع روسيا شائك. فقوى الاحتلال في سوريا ، أي روسيا وإيران وتركيا، متباينة الأهداف مهما شدد قادتها في لقاءاتهم في الاستانة سابقاً وسوتشي على التحالف والتضامن. ولكن استعادة قوات نظام الأسد من طريق المساعدة الروسية والإيرانية السيطرة على كامل الأراضي السورية لن يفضي إلى عودة الأمور إلى سابق عهدها قبل 2011. فاللاجئون السوريون في لبنان والأردن وتركيا لن يعودوا للعيش في كنف نظام الأسد. وهم اليوم يهربون منه إلى تركيا وليس إلى مناطق النظام. والأخير يُصدّر مشكلاته إلى دول الجوار فيخل بتوازنها السكاني، في وقت تصدّر إيران ثورتها، وتخشى تركيا بروز كيان كردي على حدودها، والاضطرار إلى "استقبال" ملايين السوريين لينضموا إلى أترابهم الذين لجأوا إليها في موجات الهجرة السابقة.
دعم أوروبي أم نأي؟
أما مصلحة أوروبا والأميركيين فتقتضي عدم "وقوع أردوغان في براثن بوتين"، على قول دوكلو. وهذا ما حمل المستشارة الألمانية، أنغيلا مركل، على اقتراح إنشاء منطقة حظر جوي فوق إدلب. ويبحث الأوروبيون، "الأطلسيون" منهم، عن تقديم دعم تقني لتركيا في مواجهة المجموعات المسلحة و"هيئة تحرير الشام" وغيرها. ولكن مثل هذا الدعم هو رهن حسم أردوغان أمره وقطع علاقاته بـ "المتطرفين"، وإذا استؤنفت الحملة العسكرية على إدلب في غياب دعم "أطلسي" لتركيا، لن تصب الأمور في مصلحتها. ويوضح دوكلو أن دعم تركيا جزئياً في إدلب لا يُقصد به طي مسائل الخلاف معها، بل يرجح كفة الغرب في مفاوضة أردوغان، وهو صار أكثر فأكثر في عزلة سياسية في الداخل التركي، على مسائل منها سياسة بلاده في شمال شرقي سوريا، وصواريخ "أس-400"، وانتهاك سيادة قبرص، والتدخل في ليبيا وانتهاك حظر السلاح.
وثمة من يدعو في الغرب إلى التعاون مع بوتين في سوريا والمساهمة في إعمارها من جديد، وحل أزمة اللاجئين. ولكن هؤلاء يغفلون أن بوتين كما الأسد لا يقيمان وزناً لمسألة اللاجئين. فهما انتهجا سياسة "هندسة سكانية" أدت إلى تغيير بنية السكان الطائفية. فالتهجير ليس من أعراض جانبية ترتبت على الحملات العسكرية السورية- الروسية – الإيرانية، بل غاية استراتيجية تجمع عليها الدول هذه. فالروس قطفوا ثمار السياسة التهجيرية هذه حين نفخت أزمة المهاجرين في تيار شعبوي أوروبي يطعن في الاتحاد الأوروبي. ولا يمانع بوتين تدفق سيل المهاجرين من جديد على أوروبا على أمل أن يساهم في شد عود الشعبويين بعد ما بدا أنه انحسار لتمددهم (تظاهرات مطالبة بحماية الحريات الديمقراطية في بودابست وإسطنبول ووارسو ...). ولكن اليوم مع جائحة فيروس كورونا، عادت دول أوروبية عن السياسات التقشفية التي كانت من دواعي بروز الشعبويين.
ويصب تهجير السوريين كذلك في مصلحة إيران الرامية إلى إنشاء قواعد عسكرية دائمة لها في سوريا وممر بري من أراضيها إلى البحر المتوسط. وهذا ما ترفضه إسرائيل، ويُرجح أن تُواصل قصف المواقع الإيرانية في سوريا. ويحسِب الأسد أن الأمور لن تستتب لنظامه ما لم "يتخلص" من فائض السنّة في سوريا. وسبق أن تبجح في خطاب له في 2017 بـ "التجانس" السكاني طبعاً قائلاً: "ربحنا مجتمعاً أكثر صحة وأكثر تجانساً بالمعنى الحقيقي وليس بالمعنى الإنشائي أو بالمجاملات، هذا التجانس هو أساس الوحدة الوطنية، تجانس العقائد، تجانس الأفكار، التقاليد، العادات، المفاهيم، الرؤى، على تنوعها واختلافها". لذا، يمضي قدماً في عمليات تهجير وسياسة الأرض المحروقة التي انتهجها بوتين في غروزني الشيشانية كما توسل بها التحالف الدولي في الموصل والرقة.
ولعل خير ما يلخص أحوال سوريا اليوم هو ما قاله المحلل الفرنسي، ألان فراشون، عنها: "ثلاث أمبراطوريات سابقة، الروسية والفارسية والعثمانية، تسهر على سرير مريض عربي يحتضر وغايات كل منها متباينة في المنطقة. وهذا لا يؤذن لا بنهاية الحرب في سوريا ولا بحل مأساة اللاجئين".