لا يتعلق الأمر بفيروس كورونا المستجد كي تصاب البشرية بالهلع، كان عليها أن تهلع بسبب الاحتباس الحراري والتلوث البيئي وسباق التسلح والحروب التي لا تنتهي، والفقر والاستغلال... إلخ.
كل جائحة تمرّ على البشر كان يجب أن تصيبهم بالهلع، لكن فيروس كورونا انتصر على كل أنواع الجوائح في مسابقة الهلع العالمية، لأنه ينتقل بالعدوى، ولأنه قد يسبب الموت. إذاً حين يصبح الموت أمراً شخصياً وخاصاً يصيب الخائف على حياته بالقلق والاكتئاب اللذين يتحوّلان بدورهما إلى وباء جماعي يسير بمحاذاة الوباء الفيروسي الأصلي.
إذاً، لماذا يُقفل فيروس لا يبلغ عدد قتلاه حتى الآن في أنحاء العالم، عدد قتلى حوادث السير في يوم واحد في بضعة دول، لماذا يقفل الكرة الأرضية عن بكرة أبيها؟ يجيب المختصون في علوم الأوبئة وعلماء الإجتماع وعلماء النفس والسياسيون: "إنه عدم وجود اللقاح". لأنه بعدم وجود اللقاح لا يمكن التكهّن إلى أين ستمضي الأمور وما هي النتائج والنهايات والمآلات التي قد تكون كارثية بشكل جذري وعميق. إذ أنه خلال بضعة أشهر مثلاً تضرر الاقتصاد العالمي ضرراً كبيراً سيحتاج إلى عقود كي يعيد ترميم نفسه، وحتى الآن فقد أكثر من 50 مليوناً عملهم في أرجاء العالم. ثم انطلق الحجر المنزلي الإلزامي، فكيف الحال لو امتدت الأزمة أشهراً كثيرة أو سنوات قبل انحسار الفيروس أو قبل إيجاد لقاح له؟ ستحلّ كارثة بالتأكيد. وماذا لو أخذت أعداد الموتى تتزايد بشكل مضطرد لن تتمكن الحكومات في دول العالم الأول من السيطرة عليها، فكيف الحال بدول العلم الثالث؟ ستحلّ كارثة بالتأكيد، البعض من المتشائمين يقولون إننا أمام الانقراض السادس، البعض يقول إننا سنعود إلى عصور ما قبل الثورة الصناعية، أما الآخرون من المتفائلين فيقولون إن البشرية مرت بما هو أسوأ من هذا الوباء وقد أكملت مسيرتها بلا أي أثر سلبي يذكر.
مهما يكن من أمر، وعبر التجارب التاريخية، لا تعود البشرية بعد مرور الوباء عليها، كما كانت قبله.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تصريحات لا "تثير الشك"
على الرغم من عدد الوفيات الضئيل حتى اليوم بسبب الفيروس إلا أن هناك عدداً من التصريحات لا بد من الوقوف عندها، لأن أصحابها يتمتعون بالجدية اللازمة لتكون تصريحاتهم بمثابة بوصلة للوجهة التي تسير نحوها البشرية.
على سبيل المثال وصف مدير عام منظمة الصحة العالمية، تيدروس أدهانوم غيبرييسوس، يوم الأربعاء 18 مارس (آذار) 2020، فيروس كورونا المستجد بأنه "عدو البشرية". وقال إن هذا الفيروس يمثّل تهديداً غير مسبوق، ولكنّه يمنح أيضاً فرصة غير مسبوقة لكي نحتشد ضدّ عدو مشترك.
وفي اليوم نفسه أعلنت الأمم المتحدة، أن وباء "كوفيد-19" سيؤدي إلى خسارة عدد كبير من الأشخاص وظائفهم، على مستوى العالم. ودعت منظمة العمل الدولية إلى إجراءات عاجلة وواسعة النطاق ومنسقة لحماية العمال في أماكن العمل وتحفيز الاقتصاد ودعم الوظائف والدخول. وفي اليوم نفسه أي الأربعاء الماضي اعتبرت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل أنّ مكافحة فيروس كورونا المستجد "تمثّل أكبر تحد تشهده ألمانيا والعالم منذ الحرب العالمية الثانية".
أهمية هذه التصريحات أنها تستخدم عبارتي "العالم" و"البشرية"، ما يعني أن الفيروس وفي بدايات تفشيه أعاد لفكرة "السلسلة البشرية" معناها، بمعنى أن الوباء الذي يصيب غيرنا هناك سيصيبنا هنا، وهنا لا تنفع الحدود ولا القوميات ولا الجنسيات ولا اللون أو العرق أو الدين. عند الوباء المتفشي تعود البشرية كتلة واحدة.
تطور في المفاهيم البشرية
وعلى الرغم من أن أوروبا في القرون الوسطى وبعد خروجها من الحرب العالمية الأولى تختلف كثيراً عن عالم ومجتمع اليوم في ظلّ وسائل التواصل والإنترنت والعولمة، إلا أن "انتشار وباء يشكّل دوماً امتحاناً لمجتمع وحقبة"، كما يرى مؤرخ العلوم لوران - هنري فينيو من جامعة بورغوني الفرنسية. وبرأيه أن الوباء "يهدد الروابط الاجتماعية، ويطلق العنان لشكل خفيّ من حرب أهلية يكون فيها الجميع حذراً من جاره. هذه الحرب في أبسط مظاهرها تتمثل في المشاهد الغريبة لأشخاص يتدافعون في المتاجر للحصول على آخر حزمة من ورق المراحيض مثلاً. والوضع أكثر مأسوية في إيطاليا وإيران وسيمتدّ إلى دول أخرى غير مجهزة للمواجهة، حيث سيضطر الأطباء إلى اختيار مريض لإنقاذه بدلاً من آخر بسبب نقص المعدات"، ودائماً بحسب فينيو.
ولكن الأوبئة الكبرى أحدثت تغييراً إيجابياً "في أنظمتنا الصحية" كما يرى المؤرخ والخبير الديموغرافي باترييس بوردوليه، فقد أنتجت مفهوم الحجر الصحي وابتكار أساليب للتعقيم.
ويشير عالم الجغرافيا فريدي فينيه من جامعة بول فاليري في مونبيلييه، إلى أن الإنفلونزا المسماة "الإسبانية" التي انتشرت أواخر الحرب العالمية الأولى كان لها أثر هيكلي في تاريخ الصحة. إذ أنتج هذا الوباء العالمي الحديث الذي قتل 50 مليون إنسان، حالة وعي لضرورة وجود إدارة عالمية لمخاطر الأمراض المعدية، وأنشأ جيلاً من الأطباء الشباب المختصين بالفيروسات.
يشير لوران- هنري فينيو إلى أن "الأوبئة نتاج مشترك بين الطبيعة والمجتمعات، بين الميكروبات والبشر. الجراثيم لا تصبح خطيرة إلا في ظروف معينة. هكذا غزا الطاعون الأسود أواخر القرن الرابع عشر أوروبا التي كانت مزدهرة وكانت فيها المبادلات التجارية كثيفة والمدن مزدحمة ورحلات الاستكشاف في ذروتها. استفاد الطاعون من هذا الازدهار، ووضع حداً له، وأعلن نهاية نظام العبودية الذي قام عليه مجتمع القرون الوسطى. وفي عام 1918، كان لوباء الإنفلونزا نتائج اقتصادية فقد أوقف المبادلات كما كانت، وأعاد توجيه التجارة نحو سبل أخرى. وهذا شأن الأزمات الصحية المتكررة في الصين اليوم، مركز التصنيع في العالم، فقد تحفز هذه الأزمات على تنويع مواقع الإنتاج والتزويد في العالم".
سيكولوجية الوباء والتغييرات التاريخية
يقول الأنثروبولوجي فيليب سترونغ في ورقة بحثية تعود إلى عام 2008، بعنوان "سيكولوجية الوباء": "حين تتضافر الظروف، يمكن للأوبئة أن تخلق نسخة طبية لنظرية فخ هوبز، أي وقوع ضربات استباقية بين مجموعتين، خوفاً من هجوم وشيك. ما يؤدي إلى دوامة من الخوف يؤدي فيها الخوف إلى سباق تسلح سيؤدي بدوره إلى تزايد الخوف. لأن انتشار خبر عن تفشي وباء مميت جديد، يعقبه سريعاً الخوف والذعر والشك. وسرعان ما يتفشى الجدل الأخلاقي الجماعي حول أسبابه والمتسببين به والحلول المحتملة. ويتغذى هذا الجدل من مشكلات أخرى موازية للوباء، مرتبطة بالثقافة وبالأحكام المسبقة وباللغة، ويتفاعل بشكل مواز كذلك مع الأثر الذي تتركه الأوبئة الخطيرة في الاقتصاد والثروة. مع انتشار الوباء، لا يتم الطعن السريع بفعالية النظام العام فحسب، بل تدخل المجتمعات في دوامة عاطفية غير اعتيادية تبدو أصعب من قدرة أي جهة رسمية على تطويقها بشكل فوري".
وبرأي سترونغ أن السعي الحثيث الذي ينتهجه المنظّرون في سبيل الفصل بين الخوف والأخلاقيات وردود الفعل والاستراتيجيات غير دقيق، فهذه الأمور تصبح شديدة التداخل عند حضور الوباء.
في مؤلفه "الأوبئة والتاريخ... المرض والقوة والإمبريالية" يصف الكاتب شلدون كيف أعاقت أمراض مثل الجذام والملاريا تقدم حملة الإسكندر الكبير في الهند عام 327 قبل الميلاد، بعدما هاجمت جنود وقادة ذلك الجيش الأسطوري الذي غزا العالم القديم وأخضع أجزاء واسعة منه، فوقع الإسكندر نفسه طريح الفراش إلى أن مات في ريعان شبابه. وهكذا تكون الأوبئة والأمراض المعدية قد لعبت دوراً كبيراً في إحداث تغيير في مسار الأحداث في المجتمعات الشرقية والغربية القديمة.
ولعلّ تاريخ الإمبراطورية الرومانية الذي يحفظ ما فعله انتشار وباء الطاعون بها عبر مراحل عديدة، أكثر دليل موثّق على ما يمكن أن تفعله الأوبئة الفتّاكة بالدول أو الإمبراطوريات القوية، فقد انتشر الطاعون الأنطوني (نسبة إلى الأباطرة الأنطونيين) في سنة 165، وأدّى إلى تدمير الجيش الروماني الذي عانى من مرض غريب ظهر في مجموعة من الرعاة الرحل، قبل أن ينتقل إلى أطراف الإمبراطورية، وقتل آنذاك نحو خمسة ملايين شخص. أما في عهد الإمبراطور جستنيان (541-570) فانتشر الوباء مرة أخرى ليساهم في تقويض أسس الإمبراطورية البيزنطيّة ويقلّص مساحة الأراضي التابعة لها. ولم تنته جائحة الطاعون تلك، حتى أخذت معها ما بين 40 و 50 مليوناً من البشر الذين يمثلون آنذاك نصف سكان العالم القديم المعروف.
هل سنصل إلى مرحلة الانقراض؟
الانقراض ليس ظاهرة جديدة على كوكبنا، فالحياة الفطرية منذ ظهورها على سطح الأرض قبل نحو 550 مليون سنة مرت بمراحل عديدة من الازدهار والانحدار. ازدهار لأنواع محددة من الكائنات، يتبعه عادة انحدار في حالتها وأعدادها حتى ينتهي بها الأمر إلى الانقراض، سواء كان ذلك بصورة فجائية أم تدريجية.
ثمة درجات للانقراض، والمصطلحات كثيرة في هذا الصدد، لكن يمكن القول إن "الانقراض الجماعي" (Mass Extinction) هو أبو تلك المصطلحات، وهو يعبر عن ظاهرة دورية تتكرر على الأرض من آن لآخر وينتج منه اختفاء جماعي لمعظم مخلوقات الأرض لتظهر بعد ذلك مجموعة أخرى ذات صفات جديدة ومتطورة في الغالب عن سابقتها. وقد تكررت هذه الظاهرة بصورة جماعية خمس مرات من قبل بسبب عوامل أو كوارث طبيعية وفي وقت لم يكن للإنسان وجود على الأرض.
غير أن هناك مؤشرات دامغة تقول إن العالم حالياً يسير بجسارة نحو انقراض جماعي سادس. غير أن من مفارقات القدر أن الانقراض المقبل - لو كانت هناك إمكانية لوقوعه - الذي ستشهده البشرية سيكون من صنع يديها. فخلال الـ 50 عاماً الماضية وهي الفترة التي شهدت تصاعد أنشطة الإنسان اختفى من على وجه الأرض مئات الآلاف من الكائنات الحية، كما زاد معدل تناقص الكائنات وانقراضها 40 مرة عما كان عليه الوضع قبل الثورة الصناعية، أما المثير في هذه الحقيقة فهو أن معدل وسرعة حدوث الانقراض الحالي تفوق سرعة أي انقراض طبيعي (كارثي) سابق بـ100 مرة على أقل تقدير.
هل سيخرج البشر بعد أفول كورونا بصدمة تساهم في إعادة ضبط علاقتهم بالطبيعة التي يكادون يستنزفون طاقتها؟ وهل سيكونون أكثر اتحاداً وتعاوناً وتوافقاً، أم أن الفيروس سيزيد الانقسامات في ما بينهم؟ هل سيعودون إلى تحقيق السلام كما حفزتهم الحرب العالمية الثانية، أم أن انهياراً اقتصادياً عالمياً سيؤدي إلى مزيد من الحروب والنزاع على مصادر الطاقة والغذاء والماء؟ هل سيساهم هذا الفيروس بتطوير المفاهيم الصحية والتقنيات الطبية لمواجهة الجوائح الفيروسية المقبلة، أم أنه سيعيد البشر سنوات بعيدة عن التطور الذي وصلوا إليه؟
لا حاجة للإجابة عن هذه الأسئلة، إنما الأهم هو أن الوباء هو الذي يدفعنا إلى طرح هذه الأسئلة. فالأوبئة الفيروسية على اختلافها كموجة كبيرة تضرب سفينة هائمة، فإما تغرقها وإما تدفعها إلى الأمام نحو شاطىء الأمان.