الأسئلة الإشكالية التي طرحت على الفكر العربي في القرنين الماضيين، والتي استحوذت على اهتماماته الأساسية، تحيل كلها إلى سؤال الحداثة. كل الأسئلة الأخرى، من سؤال الحرية والتقدم، إلى سؤال الهوية والأصالة، إلى سؤال الأنا والآخر، تؤول إلى هذا السؤال. إذ إن التحدي الأكبر الذي واجه العرب منذ القرن التاسع عشر إلى اليوم، كان ولا يزال في كيف يتجاوزون فواتهم التاريخي ليصبحوا جزءاً من العالم الحديث؟ كيف يتعاملون مع الحداثة؟ ماذا يأخذون منها وماذا يتركون وبأي السبل يمكن أن ينتظموا في حركتها الثورية وغير المسبوقة؟
إلا أن الحداثة العربية التي تشكَلت في سياق حركة تراكمية مديدة من الزمن تجاوزت القرن ونصف القرن، لم تقرأ في تاريخيتها الخاصة قراءة تؤول إلى تمثَلها كحداثة. الأمر الذي عكف عليه عبد الإله بلقزيز في كتابه "من النهضة إلى الحداثة" الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية في طبعته الثالثة 2020.
يحدد بلقزيز الحداثة بالمنظومة الفكرية التي تجاورت فيها نزعات كالإنسانية والعقلانية والتجريبية والعلمانية والتطورية والتاريخانية، وهي المنظومة التي نشأت واكتملت ملامحها في أوروبا وأخذت هيئتها النهائية في القرن التاسع عشر لتكتسح العالم بأسره في ما بعد. لكن الحداثة تتلوّن بلون كل مجتمع وتتكيف مع معطيات تاريخه ومواريثه. وبهذا المعنى تجب قراءة الحداثة في الفكر العربي بعيداً من فكرة النموذج الأوحد الذي يتجاهل سياقات التطور التاريخي وقانون التراكم، وبعيداً عن فكرة المضاهاة والقياس على مثال سبق.
نشأت الحداثة العربية كي تجيب عن أسئلة خاصة بالمجتمع العربي،ما كان حداثيو أوروبا قبل قرن ونصف يواجهونها،لأنها لا تنتمي إلى حقلهم التاريخي والثقافي. وقد مرَ خطاب الحداثة في الفكر العربي المعاصر في لحظتين فكريتين، كان في أولاهما خطاباً في النهضة، وفي ثانيتهما خطاباً في الحداثة. وإذا كان فكر الحداثة العربية قد شهد أجيالاً ثلاثة منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر، فإن المؤلف يتناول في كتابه جيل الحداثة الثالث الذي بدأ في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، ويندرج في عداده مفكرون مثل قسطنطين زريق وزكي نجيب محمود وعبدالله العروي ومحمد عابد الجابري ومحمد أركون وناصيف نصَار والياس مرقص وياسين الحافظ.
سمات أربع تسم حداثة هذا الجيل في رأي الؤلف، أولاها أن مفكريها كانوا أكثر اتصالاً بمصادر الفكر الغربي من سابقيهم، وثانيتها غلبة المنزع الأكاديمي على هؤلاء ونقص منسوب التبشيرية في التفكير قياساً إلى الجيلين السابقين، وثالثتها النظرة النقدية المزدوجة إلى المرجعيتين التراثية والغربية، ورابعتها نزعة تركيبية تستدخل حقائق الميراث الديني والثقافي في المنظومة الحداثية.
نشأ وعي الجيل الحداثي الثالث في مناخ ثورة عارمة حيث انتصرت أفكار الحرية والاشتراكية والتحررالوطني في مقابل اندحار النازية والاستعمار وتراجع نفوذ النظام الرأسمالي. ومن يقرأ كتابات مفكري هذا الجيل يلحظ أن القيم التي تأثروا بها، قيم العقل والحرية والعلم والمواطنية والعدالة والتسامح هي عينها القيم التي كانت في أساس تقدم أوروبا، وهي التي عبرت عنها تيارات ومدارس، كان منها العقلانية والتجريبية والتاريخانية والعلمانية والوصفية والماركسية والليبرالية. أي من مفكري هذا الجيل، وإن اختلف عن الآخر في المقدمات النظرية وفي المنهج لا يقف منه على الطرف النقيض.
رأى بلقزيز أن الفكر العربي بتياراته كافة يدور منذ القرن التاسع عشر حول إشكالية التقدم، وإن كان ثمة تنوع واختلاف في الخطابات. فالإصلاح والنهضة والحداثة لحظات فكرية داخل إشكالية جامعة هي إشكالية التقدم. وما خرجت أسئلة الجيل الثالث من الحداثيين العرب عن نطاق هذه الإشكالية، وإن كان هؤلاء قد انتقلوامن فكرة الحرية النهضوية الليبرالية إلى فكرة التحرر، ومن نطاق الفرد الضيق إلى نطاق الجماعة الوطنية والقومية، ومن إشكالية النهضة إلى إشكالية الثورة.
بيد أن هزيمة عام 67 شكلت لحظة مفصلية في وعي الجيل الحداثي الثالث، جيل الثورة من المثقفين الذين وجدوا أن ثمة أزمة في نظام الدولة الذي أرسته الثورة فانصب نقدهم على مضمونها القمعي والتسلطي، وعلى مجتمع يشاركها هو الآخر في صناعة مأساته.
كان هذا في أساس تجديد سؤال الليبرالية في الوعي العربي بعد أن طوته حقبة الثورة، فقد كشف عن غياب حلقة في التطور المجتمعي لا يمكن القفز فوقها، هي الحلقة الليبرالية. في هذا السياق شهد الفكر العربي منذ نهاية الستينيات ميلاد مقالة علمانية مشتبكة مع الدولة والتباسات صلتها بالدين، ومع الطائفية والنظام الطائفي، قبل أن تبدأ في الثمانينيات اشتباكها مع الأصولية. قاد هذا التوجه الجديد ناصيف نصار إلى القول بالدولة الوطنية الحديثة التي تقوم على مبدأ الحرية وتحقق الاندماج الإجتماعي، وضمن هذا الهاجس الإشكالي في تفكيره احتلت العلمانية موقعاً رئيسياً، حيث اتجه إلى تحرير السياسي من أزعومة الحق الديني، وإعادة المقدَس والمطلق إلى حيَزه الطبيعي وعدم الزج به في ميدان النسبي، لأن السياسة حين تلجأ إلى غيرها تكشف عن نقص في شرعيتها. والدولة التي تؤسس السياسة والسلطة على الدين هي دولة توتاليتارية تخضع كل تفاصيل الحياة الاجتماعية للدين، بينما الوضع الطبيعي للدولة التاريخية العلمانية، هو وضع التعدد الديني والمذهبي والحياد تجاه الدين. ولذلك لا مناص من العلمنة لبناء الدولة الحديثة، إذ من المستحيل قيام دولة حديثة على مقتضى ثيوقراطي.
خطاب الحداثة
ومع عبدالله العروي يجد خطاب الحداثة تعبيره الأكثر شمولاً واتساقاً ومنظومية، فقد أطلت كتاباته في منتصف الستينيات من القرن الماضي بنفس فكري مختلف، وبنمط من الكتابة غير مألوف في الكتابة العربية المعاصرة، حيث شدد العروي على قصور التحليل الاقتصادي في فهم الواقع العربي، واتجه بالبحث إلى العوامل الأيديولوجية والثقافية الكامنة وراء إخفاق الحركة التحريرية العربية التي كان في وسعها أن تصمد لو أنها أنجزت الحلقة الغائبة في مشروعها: الثورة الثقافية. ومن هنا لا بد من استيعاب وتوطين معطيات المرحلة الليبرالية والإقلاع عن نقد التراث الليبرالي، لأن الليبرالية حاجة طبيعية في الفكر العربي وضرورة تاريخية للمجتمع والسياسة والثقافة، والإنصراف بدل ذلك إلى النقد بوصفه استراتيجية معرفية: نقد التقليد، نقد مشروع التحديث والإصلاح الذي قادته النخب الحاكمة، نقد حقبتي النهضة والثورة، نقد الأيديولوجيا العربية. انتهاء إلى استنتاج أساسي قوامه أن فكرة الحداثة المتمثلة في الليبرالية والماركسية آلت إلى الإخفاق أمام السلفية، لأن الأيديولوجيتين تمثلان نوعين من الطوبى، ولا تتغلب طوبى على أخرى أقدم وأعرق وأشمل منها.
ولعل ياسين الحافظ أحد ألمع من تفاعل مع الموضوعات النقدية التي اقترحها العروي على الوعي العربي. فقد أعاد الاعتبار إلى الليبرالية السياسية على نحو يجعل من مساهمته في تجديد الفكر السياسي العربي، الوجه الآخر لمساهمة العروي الفكرية. مثل العروي اهتجس الحافظ بنقد التقليد والتأخر التاريخي والدفاع عن الحداثة والقيم الكونية، وإعادة الاعتبار إلى التراث الليبرالي الانساني في سياق إعادة فهم الماركسية واستدماج معطيات هذه المراجعة في بناءالفكرة القومية التحررية ومشروعها السياسي والثقافي، ما يحيل عنده إلى مفهومين مترابطين: التحرر والوحدة. التحرر في صوره كلها القومية والوطنية والاقتصادية والسياسية، سبيلاً لتجاوز الفوات التاريخي الذي يعانيه المجتمع العربي ببناه العصبوية المتكلسة وعقله التقليدي المؤسس للهزيمة.
لا بد أخيراً من التنويه بالإحاطة الأكاديمية الشاملة والرصينة التي قدَمها المؤلف لاشكالية الحداثة العربية من خلال الجيل الثالث من رموزها الكبرى، وبالخلاصات العامة التي توصَل إليها، والتي حملت تصوَراً جامعاً لهذه الإشكالية بكل اختلافاتها وتنوعاتها وتناقضاتها. إلا أن ذلك لا يعفينا من تصويب بعض أحكام المؤلف واستنتاجاته:
أسقط المؤلف فرنسيس المرّاش من حركة الحداثة العربية، فلم يأت على ذكره، مع أن هذا الرائد النهضوي قال قبل أكثر من قرن على العروي والحافظ ونصار بالحرية الإنسانية وبالدولة العقدية المدنية أولوية لتجاوز الفوات التاريخي للمجتمع العربي، كما أن هذا الليبرالي العربي الطليعي، على غير ما يظن العروي والمؤلف على السواء، تناول الليبرالية نقدياً في نثره وشعره، على الرغم من حماسته الشديدة لمبادئها وأفكارها التنويرية.
إن المفكرين الشوام على الضد مما يعتقد المؤلف لم يهاجروا إلى القاهرة وسواها "في ضوء دفاعهم عن فكرة علمانية ضاق بها صدر دولة كان مركز الخلافة الإسلامية فيها "، بل إن هؤلاء أو أكثرهم إنما فروا هرباً من استبداد زعماء طوائفهم وتسلطهم وتكلسهم العقائدي، وليس بفعل ضيق صدر الدولة العثمانية التي كان منها فئة متنورة ليبرالية أخذت تتجه في أواسط القرن التاسع عشر نحو تحديث السلطنة (العثمانيون الجدد) وقد قدمت وعلى رأسها رجل الدولة مدحت باشا الرعاية والدعم لطلائع العلمانيين العرب، ومنهم أحمد فارس الشدياق وبطرس البستاني وفرنسيس المراش. ولو عاد المؤلف إلى سيرة روَاد النهضة العربية لأيقن أن جلَهم عثمانيو الولاء وأن الشدياق لجأ إلى الآستانة بالذات وأن بطرس البستاني كان على علاقة وطيدة برجالات الدولة العثمانية الذين حموا مجلته "الجنان" من مقص الرقابة وأشادوا بمدرسته الوطنية ودعموها بالمال.
وبالعودة إلى الأسباب الحقيقية لهجرة المثقفين العرب فإن الشدياق لاذ بالفرار بعد اغتيال أخيه أسعد على يد زعيم طائفته في قنوبين، وجرجي زيدان وشبلي الشميَل هاجرا إلى القاهرة بعد حملة التعسف الذي مارسته إدارة "الكلية السورية الإنجيلية" في بيروت - الجامعة الاميركية حالياً -ضد المتعاطفين مع الداروينية، ولم يكن في ذلك دور للدولة العثمانية.