أحدث تفشّي وباء الكورونا (كوفيد-19) في دول كثيرة خللاً كبيراً في النشاط السينمائي العالمي والمنظومة السينمائية برمتها. ومن المرجح أنّ آثار الوباء السلبية في الصناعة السينمائية، ستظل ماثلة في الأشهر المقبلة. لم يعد يُحصى عدد المهرجانات التي أُلغيت في الأسبوعين الماضيين، وعددُ الأفلام التي توقفت عملية تصويرها أو أُرجئت إلى أجل غير مسمى، منها الأجزاء الجديدة من "أفاتار" لجيمس كاميرون، إضافةً إلى الصالات التي أغلقت أبوابها في عددٍ كبيرٍ من البلدان. فيلم جيمس بوند الجديد، "لا وقت للموت"، تأجّل من أبريل (نيسان) إلى نوفمبر (تشرين الثاني). هذا كله شكّل ضربة قاسية للاقتصادات السينمائية. مهرجان برلين كان محظوظاً، إذ نفد بريشه هذا العام. المخاوف من الكورونا بدأت تتصاعد فور انتهاء الدورة الأخيرة في مطلع شهر مارس (آذار) الحالي، قبل أيام فقط من دخول العالم في الإجراءات الحاسمة.
مهرجان تسالونيك للفيلم الوثائقي أول الضحايا. قبل ثلاثة أيام من انطلاق دورته الـ22 في 6 آذار، تلقّى الضيوف رسالة عبر البريد الإلكتروني تُعلمهم بتأجيل الدورة إلى موعد يُحدّد لاحقاً، وذلك بسبب المخاوف من انتشار الوباء. في حديث مع مديرة المهرجان اليز جالادو، قالت إن المهرجان لم يستطع تلبية مجموعة إجراءات معقّدة طلبتها وزارة الصحّة، وهي إجراءات يستحيل تنفيذها، خصوصاً في زمن قياسي، فكان قرار الإلغاء. وجدت إدارة المهرجان نفسها أمام مجموعة أسئلة مقلقة: ماذا إذا أُصيب أحد أفراد الطاقم بالعدوى؟ الإجراءات تفرض عزلة وعزل كلّ مَن كان على احتكاك به. ومَن يتحمّل مسؤولية أن يسهم مهرجان سينمائي في نشر الوباء، خصوصاً أنه كان من المتوقع استقبال عدد من الضيوف من بلدان مجاورة وبعيدة عدّة. أمام هذه التحديات والصعوبات، بدا التأجيل الخيار الوحيد المطروح، وإن كان ثلاثة أيام قبل انطلاق الحدث، علماً أنه كان خياراً مؤلماً، لأنه يعني خسائر مالية كبيرة ونسفاً كاملاً لجهود أشهر عدّة.
لم تمر ساعات على إلغاء تسالونيك، حتى أعلن مهرجان البحر الأحمر السينمائي الذي كان من المقرر إقامته من 12 إلى 21 مارس في مدينة جدة، إلغاء دورته الأولى. كان الوسط السينمائي العربي موعوداً بحدث سينمائي على مستوى رفيع، مع مشاركة أسماء دولية كبيرة مثل أوليفر ستون وسبايك لي وأبيل فيرارا، لكنّ كلّ الأحلام ذهبت أدراج الرياح. وجاء القرار "تماشياً مع الإجراءات الاحترازية الوقائية، وحرصاً على صحة وسلامة ضيوف المهرجان وجمهوره وفرق عمله". صحيح أن مهرجانات كثيرة أعادت جدولة موعد إطلاقها، على أمل ان تُعقد في وقت لاحق بعد انتهاء أزمة الكورونا، لكن في حال مهرجان البحر السينمائي تحديداً، الاستحالة تكمن في إقامته في الصيف، في ظلّ الحرارة الشديدة، ومن هنا الإلغاء شبه مؤكد (تتناقل معلومات أن المهرجان فكّ ارتباطه مع الأفلام التي كان قد اختارها). في موازاة ذلك، قرر عدد من المهرجانات العربية المخاطرة، علماً أنّ الوباء كان في بداية انتشاره في تلك الفترة. مهرجانان تحدّيا الظروف: الأقصر السينمائي (اضطُر إلى إلغاء العروض الجماهيرية في اليومين الأخيرين بناءً على قرار رسمي) الذي أُقيم بين 6 و12 مارس، ومهرجان طنجة للفيلم الوطني (28 فبراير – 7 مارس) الذي مرّ بشكل عادي.
مهرجانات ومدن
في منتصف مارس (أذار)، كرّت سبحة الإلغاءات. أمام الحيرة والارتباك والفوبيا من نشر الوباء والمخاطرة بحياة الآخرين وفرض حظر التجول في بعض البلدان ومنع التجمّعات، أعلنت سلسلة من المهرجانات التي كانت ستُقام بين شهري مارس وأبريل، سلسلة إلغاءات أو تأجيلات، منها مهرجانات بيجينغ واسطنبول وبراغ وصوفيا وبروكسيل وعمّان. خلف الأطلسي، سارع عدد من المواعيد السينمائية البارزة إلى أخذ القرار الجريء: مهرجان ترايبيكا التاسع عشر المقرر في أبريل أُجّل من دون إعلان تاريخ جديد له. أما الحدث الضخم SXSW الذي أُسّس عام 1987 في أوستين (تكساس) والمعني بالسينما والموسيقى والفنون التفاعلية، والذي كان من المقرر أن ينطلق في 13 مارس، فأُلغي نهائياً، ولم يسعَ المنظّمون حتى إلى تأجيله، علماً أن عشرات الأفلام التي كانت ستُقام عروضها الأولى فيه باتت بلا "سقف" يأويها.
الوباء جعل هذه المهرجانات تتكبّد خسائر كبيرة، معنوية ومادية وفنية. ولكن، لن تكون خسائرها شيئاً إذا ما قورنت بالخسائر التي ستثقل كاهل مهرجان كان السينمائي في حال أُلغيت دورته المثيبة. وهي خسائر لا يتحملّها المهرجان نفسه فقط، بل كثر من المرتبطين به. من أفلام كان من المتوقع أن تُعرض فيه إلى كلّ من يتخذ من المهرجان منبراً للترويج لأعماله أو إبرام عقود وصفقات، مروراً بصحافيين ونقّاد ينتظرون الموعد السنوي لمراسلة صحف ومواقع مقابل بدائل مادية. يحاول المنظّمون منذ بداية الأزمة تفادي الإلغاء، الذي سيكلف في حال حصوله 32 مليون يورو (الموازنة التي من المقرر إنفاقها على الدورة). عقب نشر مقال في صحيفة "لو بوان"، يدعّي بأنّ المهرجان لن يُقام هذه السنة في موعده المنتظر (12 - 23 مايو/أيار) وقد لا يُنظّم البتّة، غرّد القائمون على بأنّ القرار في هذا الشأن لم يُتّخذ بعد، ولن يُتّخد إلاّ في 15 أبريل المقبل، خلال مؤتمر صحافي. لكن ازدياد عدد المصابين بالفيروس في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، ومنع السلطات الفرنسية التجمّعات حتى نهاية مايو وفرض حظر للتجول، أجبر المنظّمين على عقد اجتماع عاجل الخميس الماضي، للخروج بالقرار الآتي: تأجيل الدورة إلى نهاية يونيو (حزيران) أو بداية يوليو (تموز)، من دون تحديد تاريخ. المهرجان كان سبق أن أُلغي مرتين: في الدورة الافتتاحية عام 1939، بسبب اندلاع الحرب العالمية الثانية ودخول الجيش الألماني إلى بولونيا، وفي دورة عام 1968 بسبب ثورة مايو.
تأجيل "مهرجان كان" يعني أيضاً تأجيل مهرجانات أخرى تجري عملياً في أعقابه، وهي مهرجانات تحتاج إلى الأفلام التي عُرضت خلاله لإعادة عرضها وصياغة جزء من برنامجها. أهم هذه المهرجانات: كارلوفي فاري في جمهورية تشيكيا من المقرر إقامته بين 3 و11 يوليو المقبل. السؤال المطروح الآن: أي مصير ينتظر أفلام كان من المتوقع ان تُعرض في "كان"، مثل أحدث أعمال المخرج الأميركي وس أندرسون والمخرج الهولندي بول فرهوفن والمخرج الفرنسي ليوس كاراكس، وغيرها من عشرات الأفلام، في حال أُلغيت الدورة المقبلة منه؟ في أي مهرجان آخر ستُعرض؟ هل ستشق طريقها إلى مهرجان البندقية، الذي يُقام بعده بفترة قصيرة؟ وماذا إذا أُلغي البندقية أيضاً؟ هل سيؤجّل عرضها إلى العام المقبل أو سنكتشفها أونلاين؟
إذا استمرت الأزمة، هل سيصمد عالم الإنتاج السينمائي في وجه هذا الوباء الذي يعدّل العادات؟ أم ستخرج منها منظومة جديدة تأخذ من العالم الافتراضي والإنترنت مسرحاً جديداً لها؟ سؤالان شرعيان لا بد من أن يخطرا في بال العاملين في هذا القطاع. فهناك عددٌ كبيرٌ من المهرجانات السينمائية التي أعلنت أنها ستواصل بعضاً من نشاطها عبر الإنترنت، لا سيما في ما يختص باختيار مشاريع الأفلام وتوفير المنح. أما مهرجان مثل "إيدفا" في أمستردام، وهو أكبر مهرجان للفيلم الوثائقي في العالم، فقد طرح باقة من أهم الوثائقيات للمشاهدة المجانية على موقعه الإلكتروني، لتسلية الأشخاص القابعين في بيوتهم وتثقيفهم في آن واحد.
المخرج البريطاني كريستوفر نولان كتب يوم الجمعة الماضي في صحيفة "واشنطن بوست" مقالاً طالب فيه السلطات بدعم السينما الأميركية في هذه الفترة العصيبة، قائلاً إنه، بعد عبور هذه الأزمة، ستكون هناك حاجة إنسانية جامعة إلى اللقاء. "هذه الحاجة ستكون أكثر قوّة ممّا سبق. نحتاج إلى ما توفّره لنا السينما".