حين كشف وزير المالية ريشي سوناك عن حزمة مساعداته المالية للشركات التجارية البريطانية الثلاثاء الماضي، كان حريصاً على تأكيد حجمها الكبير.
فقد قال إنّ تدخله في الاقتصاد سيكون على "مقياس لم يكن ممكناً تصوره قبل أسابيع قليلة"، مضيفاً أنّ حجم ضمانات القروض التي ستقدمها الحكومة "يصل إلى 330 مليار جنيه إسترليني"، وهو يساوي 15 في المئة من الناتج القومي الإجمالي.
وهذا ليس كل ما سيقدم، إذ إنه تعهّد في حالة ما "إذا كان الطلب أكبر من المبلغ الأوليّ الذي أجعله متوافراً اليوم، فإني سأذهب إلى أبعد، وأقدّم أقصى قدر مطلوب من المساعدة".
لكن، كيف تستطيع المملكة المتحدة توفير حزمة مساعدات بهذه الضخامة؟ ومن أين ستأتي الأموال؟ ومَنْ سيدفعها في نهاية المطاف؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هل هذا كله إنفاق حكومي؟
من المهم التمييز بين الإنفاق الحكومي وضمانات الدولة للقروض. يمكن القول إن ضمانات وزير المالية لقروض قيمتها 330 مليار جنيه إسترليني التزام طارئ تقدّمه دولة المملكة المتحدة، وإذا لم يُعَد دفع القروض التي تقدمها البنوك للشركات المكابدة فإنّ على الدولة أن تعوّض الدائنين التجاريين.
إذن، هو بالتأكيد التزام مالي كبير، لكنه ليس إنفاقاً حكومياً مباشراً، وما يمكن اعتباره إنفاقاً حكومياً مباشراً هو المنح التي ستكون متوافرة للشركات الصغيرة. فحسب وزارة المالية، هذه المنح، مع عائدات الضرائب الضائعة بسبب الإعفاء من المعدلات الضريبية على قطاعات الخدمات الصغيرة وتجارة التجزئة، ستضيف 32 مليار جنيه إسترليني هذه السنة، أو 1.6 في المئة من الناتج القومي الإجمالي.
إذن، فإن الحكومة لا تقدم دعماً بالقدر الذي تدعيه!
لو أنّ الضمانات على القروض الممنوحة للشركات التجارية ليست كبيرة إلى هذا الحد لكان دعم الحكومة ضئيلاً. مع ذلك، فإن الحكومة ما زالت تعمل على ردّها الضريبي.
إذ من المرجّح أن تكون هناك تخفيضات ضريبية، والتزامات أخرى بالدفع للشركات التجارية خلال الأيام القليلة المقبلة. كذلك هو الحال مع الأفراد فإنهم على الأغلب سيحصلون على دعم ما.
يبدو أن الإنفاق المالي سيكون على الأرجح أكثر من 32 مليار جنيه إسترليني في عام 2020. يقول بعض الاقتصاديين إن اقتراض الحكومة يمكن أن يبلغ حتى أعلى مما كان عليه في أوقات الحرب، فخلال الحربين العالميتين الكبريين في القرن العشرين بلغت نسبة الاقتراض أكثر من 20 في المئة من الناتج القومي الإجمالي، وسيكون ضعف ما اقتُرض في قمة الأزمة المالية ما بين عامي 2007 و2009.
كيف ستدفع الحكومة لكل هذا الإنفاق؟
عن طريق الاقتراض. إذ إن رفع الضرائب لدفعها سيهزم هدف الدعم عن طريق امتصاص القوة الشرائية من الاقتصاد. لذلك فإنّ الحكومة ستصدر ديناً آخر إلى الأسواق المالية.
هل ستُقرض الأسواق المال؟
نعم، بالتأكيد تقريباً. لقد هبطت تكاليف القروض التي تأخذها الحكومة البريطانية بالنسبة إلى الأسواق المالية إلى أقل مستوى تاريخي، وهذا يعكس شهية المستثمرين القوية لأصول مالية تعد عادة آمنة.
من الناحية النظرية يمكن للأسواق المالية أن لا تشتري الدين الجديد الصادر من قِبل الحكومة (في هيئة أصول)، أو تفرض معدل فائدة عقابياً للقيام بذلك، لكن المحللين يرون أنه من غير المرجّح أن يحدث هذا الأمر.
وإذا قامت بذلك، فإنّ الاقتصاديين يشيرون إلى قدرة بنك إنجلترا (البنك المركزي)، في الحالات القصوى، أن يطبع نقوداً ويشتري دين الحكومة الجديد بنفسه، ليمنع وقوع أزمة مالية.
لكن، ألن يرتفع مستوى ديوننا؟
أي زيادة في العجز له هذا التأثير. يقف دين الحكومة حالياً عند نسبة 80 في المئة من الناتج القومي الإجمالي، ومن المتوقع أن يرتفع هذا بشكل كبير نتيجة لهذه الأزمة.
لكن، مَن يتحمّل تكاليف ذلك؟
جميعنا: كل من يعيش ويعمل في المملكة المتحدة. حين تنتهي الأزمة (كما نأمل)، سيكون في جَعبة الحكومة فاتورة ثقيلة عليها أن تدفعها. قد يعني ذلك موارد أقل لقطاعات أخرى من الإنفاق العام مثل الصحة والتعليم.
فعلى افتراض أن الحكومات اللاحقة تأمل تخفيض عبء الدين لتشكيله نسبة عالية من الناتج القومي الإجمالي الذي سيفرض أيضاً تكاليف (إضافية) في المستقبل.
في أعقاب الحرب العالمية الثانية كانت ديون المملكة المتحدة تساوي أكثر من 250 في المئة من الناتج القومي الإجمالي، أعلى بكثير مما هي عليه اليوم.
وهبطت نسبة الدين من الناتج القومي الإجمالي، بفضل نمو الناتج القومي الإجمالي القوي، جزئياً، لكن هذا الهبوط كان بفضل مزيج من ارتفاع الأسعار، وما يُعرف بـ"التقييد المالي" على العوائل، إذ يُجبر المدخرون على قبول معدل فائدة أقل من معدل التضخم. وهذه طريقة أخرى أسهمت في ارتفاع تكاليف الدين الحكومي عالياً.
إذن، هل نستطيع تحمُّل هذا الإنقاذ القائم على الإنفاق؟
من الأفضل أن يكون السؤال: هل نستطيع عدم القيام به؟ يشخّص الاقتصاديون التهديد الأخطر في البيئة الحالية ليس بصفته نشاطاً اقتصادياً هابطاً، ليس كناتج عرضي ضروري في التعامل مع حالة الطوارئ الصحية، بل باعتباره إضراراً طويل الأمد لقدرتنا الإنتاجية.
وإذا التزمت الحكومة تنفيذ حوافزها وحزماتها الإنقاذية اليوم، خلال الأزمة، فإنّ شركات تجارية أكثر ستفلّس أكثر مما لو تقم بها، والبطالة سترتفع أكثر، وهذا سيترك ندوباً على الاقتصاد فترة طويلة مستقبلاً.
قد يكون الارتفاع في عبء "القيمة الاسمية" (الحالية من دون إدخال معدل التضخم عليها) للدين أوطأ، لكنه سيدعم باقتصاد أصغر وأضعف مما لو كان العكس.
بصيغة أخرى، الفشل في الإنفاق على نطاق واسع الآن سيكشف عن اقتصاد زائف.
وجهة النظر هذه طرحها روبرت شوت، رئيس "مكتب مسؤولية الميزانية" ضمن الأدلة التي قدمت "اللجنة المصغرة المعنية بالخزانة" يوم الثلاثاء الماضي.
وعلق شوت قائلاً: "هذا ليس وقتاً لأن يكون المرء شديد الحساسية حول إضافات لمرة واحدة لدين القطاع العام. نحن نعيش في وضع شبيه بحالة حرب".
ويعتبر "مكتب مسؤولية الميزانية" المراقب الرسمي للإنفاق الحكومي، ومن المفترض أن مسؤوليه لا يقدمون نصائح إلى الوزراء.
وحقيقة، أن شوت قرر تجاهل القاعدة في هذه المناسبة، ليظَهر كم أن الوضع الحالي شديد الوطأة على اقتصاد المملكة المتحدة.
© The Independent