توالت نداءات الاستغاثة من مؤسسات الصحافة الورقية عالمياً خلال السنوات الماضية لإنقاذها من أزماتها المتعددة، إذ لم يعد يخفى مرورها بظروف صعبة لضعف مواردها المالية بسبب عزوف المعلنين بها واستخدامهم وسائل أخرى.
وبينما أوقفت بعض المؤسسات نسخها الورقية، واكتفت بموقعها الإلكتروني، أصرت أخرى على البقاء والصمود في وجه العاصفة، إلى أن جاءت أزمة فيروس كورونا لتكون بمثابة رصاصة رحمة التي أطلقت على الصحافة الورقية، خصوصاً بعدما أعلن عدد من دول الخليج إيقاف طباعة الصحف والمجلات كإجراء احترازي لمنع تفشي وانتشار الفيروس.
إجراءات احترازية
وجاءت إجراءات منع طباعة وتداول الصحف والمجلات الورقية بعدما أعلنت منظمة الصحة العالمية أن الفيروس يمكنه البقاء حياً لساعات على الأسطح بما فيها الورق. ولم تقتصر الإجراءات الاحترازية على تداول صفحات الجرائد والمجلات، بل طالت أيضا العملات الورقية، التي يمكن أن تكون وسيلة لنقل الفيروس، ولو بمعدلات ضئيلة.
ويرى أستاذ البيئة في جامعة الملك عبدالعزيز، فهد تركستاني، أنه من الأفضل في الوقت الراهن عدم لمس أو استخدام الأوراق النقدية، وكذلك عدم اقتناء الصحف والمجلات كنوع من الوقاية من كورونا، لصعوبة تنظيفها أو تعقيمها. وإنْ قلل من إمكانية انتقال الفيروس عبرها.
وأضاف لـ"اندبندنت عربية"، "الورق بكافة أنواعه يعد إحدى وسائل انتقال الفيروسات والميكروبات بوجه عام، لكن إمكانية انتقال كورونا عبره ضئيلة، لا سيما إذا أخذنا في الاعتبار النظافة الشخصية وعدم لمس الوجه والعين بعد لمس الورق". لافتاً إلى أن خطورة الفيروس تبدأ عندما يدخل للجسم عبر الأنف أو الفم أو العين".
رصاصة الرحمة
وعلى الرغم من كون الورق وسيلة غير خطيرة في نقل كورونا، فإن عدداً من الصحف والمجلات العالمية أوقفت الطباعة كإجراء احترازي، إذ أعلن بعض المؤسسات الصحافية إيقاف عدد من مطبوعاتها، ويرى المراقبون أن الصحف الورقية لم تتمكن من الصمود طويلاً عقب مداهمة كورونا.
يتفق الأكاديمي سعود كاتب مع توصيف رصاصة الرحمة، ويشير إلى أن كورونا أسهم في كتابة السطر الأخير للصحافة الورقية بعد الخسائر الاقتصادية التي خلفها عالمياً، بالإضافة إلى محدودية قرائها في الأونة الأخيرة، فغالبية أفراد المجتمع تركوها واتجهوا إلى المنصات الرقمية منذ سنوات".
يؤكد كاتب، أن إشكالية الصحف الورقية اليوم تتمثل في أنها تدار بالعقلية نفسها الموجودة قبل ثلاثين عاماً، ولو افترضنا أن الأزمة الحالية لفيروس كورونا حدثت قبل عشرين عاماً فلن يصل الأمر حد التوقف، بل كان سينظر إليها باعتبارها فرصة لإثبات الوجود من خلال التغطيات المميزة التي تختلف بالطبع عن نظيرتها التقليدية".
وتابع، "اليوم الوضع مختلف فالإحصاءات الأخيرة تشير إلى أن 30 ألف نسخه فقط من جميع الصحف الورقية بالسعودية هي التي تباع بالأسواق، وهو رقم كارثي وهذا يدل على أن الصحف الورقية في السعودية انتهت تماماً، فهو رقم غير دالٍ على حياة".
عودة الصحف الورقية
يتوقع كاتب، عودة الصحف الورقية إلى الطباعة مجدداً بعد انتهاء أزمة كورونا، وإن كان الأمر يستلزم إعادة الحسابات. وأشار إلى "أن مرحلة ما بعد كورونا ستكون مفصلية في تاريخ الصحافة الورقية، خصوصاً أنها ستكون أمام تحدٍ صعب يتمثل في مواكبة التطور الجاري".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأكد أن الوضع الحالي لا يحتمل المجازفة بأسماء المؤسسات الصحافية، وأضاف "كل صناعة في العالم تتعرض لعدد من الهزات، واليوم جاء الدور على الصحافة الورقية، لا سيما أن تكاليف الإنتاج أكبر من عائدها، ولا يوجد أمل لتحسن الظروف أو تخفيف الخسائر، ونأمل أن تأخذ المؤسسات الصحافية السعودية زمام المبادرة لتطوير آلياتها، فالمرحلة المقبلة هي مرحلة التحول للرقمية لا محالة، عبر استخدام الوسائل التقنية لتقديم الأخبار والمعلومات".
أزمة مؤسسات
تداعيات انتشار فيروس كورونا، أعادت طرح أزمة الصحافة الورقية مجدداً لتضع أزمات كبريات الصحف والمجلات العالمية القائمة بالأساس أمام كارثة أكبر. يقول أستاذ الإعلام في جامعة الملك عبد العزيز، عبد الرحمن العرابي، "أزمة فيروس كورونا أظهرت رأس جبل الجليد في الصحافة الورقية، فهي بالأساس أزمة مؤسسات لم تستطع التعامل مع المتغيرات في صناعة الإعلام، وظلت تعتمد على منتج واحد فقط رغم ظهور منتجات ووسائل إعلامية حديثة".
وذكر أن بعض هذه المؤسسات عندما فكر بالتنوع والخروج بمنتجات رقمية ولدت غالبيتها ميتة، وغير قادرة على الوجود في المنصات الرقمية الراهنة، وهو ما فاقم من حجم الأزمة".
وأشار إلى عدم تعامل هذه المؤسسات بذكاء مع نقص السيولة المالية عبر تنويع مصادر تمويلها، ولجوئها إلى تقليص المصروفات والاستغناء عن عدد من كوادرها الصحافية أسهم في ضعف المحتوى الإعلامي المقدم، وبالتالي صار المنتج هزيلاً والنتيجة عزوف القارئ عنها".
تغير أنماط الناس
وفي سياق متصل أوضح الكاتب عبد الرحمن الطريري، أن "كورونا أسهم في تغير أنماط الناس، واليوم العزلة ضرورية لتفادي انتشار الفيروس، ومن إحدى نتائج الانتشار العالمي للوباء في أكثر من مئة وستين دولة، وقف طباعة الصحف، والتراجع الحاد للاقتصاد العالمي، ما انعكس بدوره على جميع القطاعات بما فيها الإعلام، ما يعني تأثر الصحف ومحطات التلفزة والإذاعة، وربما تغيب بعضها عن الوجود قبل نهاية العام".
وتساءل، هل سيعود الناس للحياة الطبيعية بعد كورونا؟، أم سيبقى عدد كبير يرفض المصافحة، وبالتالي يمتنع عن لمس الصحف والكتب والمجلات، هذا سؤال آخر حول هذه الأزمة، واستدرك، "لكن تاريخ البشرية يقول إن الإنسان ينسى ويعود إلى طبعه".
ويرى الطريري أن الصحف الورقية والكتب قد تستمر لوقت أطول لأن هناك حاجة إنسانية لها، فالناس الذين يضطرون لقضاء ساعتين أو أكثر يومياً في القطار، غالباً لن يستطيعوا قضاء كل هذا الوقت أمام هواتفهم أو الأجهزة اللوحية. وضرب نموذجاً بالإذاعة على سبيل المثال، إذ رغم تنوع الوسائل التكنولوجية فإن الكثير من السائقين في مركباتهم لا يزالون يسمعونها، بل قد تكون أكبر المستفيدين من ازدحام الطرقات، الذي يعني فترات استماع أطول وإعلانات أكثر.
واختتم حديثه، بالتأكيد على أن البقاء للمادة النوعية واللقاء الصحافي المميز والتحليل الدقيق، وكلها معالجات ستكون الجاذب الأكبر لمنصات الإعلام المختلفة، وستكون أبرز تحديات المرحلة المقبلة.