حين كنت أعد لكتابة هذه السلسة عن صديقي الراحل، عبد الحبيب سالم، قررت أن أبدأ بالحديث عن ظروف وفاته، وكان هدفي من ذلك إغلاق هذا الملف الذي اكتنفه الغموض عند محبيه من معارضي نظام الرئيس الراحل علي عبد الله صالح، وبعد نشر الحلقة الأولى ثارت التساؤلات عن أسباب تأخر الطائرة الطبية التي كنت قد رجوت الشيخ عبد العزيز التويجري إرسالها لنقل عبد الحبيب، وكان في ذهني أن أُبقي هذه المسألة إلى حلقة متأخرة، لكني سأشرحها اليوم وأتمنى أن يتنهي هذا الجدل.
بعد يومين اتصلت بالشيخ التويجري وأبلغته بوفاة عبد الحبيب وأن من أخبر الديوان الملكي بعدم الحاجة إلى تدخل طبي سريع قد كذب، فكان رده سريعاً "هو في ذمة حكومتك"، ولم أرغب في البحث هاتفياً عن التفاصيل، لكني وبعد أشهر زرت الرياض، وكان واجبي في كل مرة أصل إليها أن أمُر للسلام عليه في منزله والتقي بأبنائه الذين كانوا ولا يزالون إخواناً أعزاء. وجدتها فرصة لأعرف سبب عدم إرسال الطائرة ومن عطلها.
قال الشيخ عبد العزيز، إن الإجراءات كانت تجري بصورة طبيعية، وأن الديوان الملكي قد وجّه وزارة الدفاع بسرعة إرسال الطائرة، وبالفعل تم إرسال أسماء المرافقين، زوجته وأخيه وولده وائل، ولما كان الأمر مستعجلاً فقد تم التواصل فوراً مع السفارة السعودية في صنعاء للحصول على تصريح هبوط وإقلاع، لكنها أبلغتهم أنها تواصلت مع الجهات المختصة، التي لم يحددها، وردت عليه بأن لا حاجة إلى ذلك، وأن المريض يمكنه السفر في رحلة عادية، كما ذكرتُ في الحلقة الأولى.
بعد أسابيع من الوفاة دعاني الراحل عبد الله بن حسين الأحمر، السياسي اليمني، إلى مأدبة غداء في منزله أقامها على شرف ضيف عربي لا أتذكر اسمه، وحين اقتربتُ منه قال لي "أنا مستاء أنك طلبت طائرة طبية لنقل صاحبك"، وكان ردي "أنا لا أفهم أنك لا تزال حاقداً عليه حتى بعد وفاته"، ولهذا الأمر خلفية مهمة سأرويها في سياق السلسلة.
البدايات
برز اسم عبد الحبيب، المولود في عام 1961، في سن مبكرة، واستطاع التفوق على أقرانه في مجال المقال السياسي، وصار له جمهوره ومتابعوه في "تعز" خصوصاً، عبر صحيفة "الجمهورية" التي كانت تصدر في المدينة، وذاع صيته في كل اليمن، فتمكن في فترة وجيزة من أن يتصدر وحيداً المشهد الإعلامي الرصين الناقد للأوضاع السياسية، وكان يتناول القضايا التي يخشى كثيرون الاقتراب منها، حيث تميز بالجرأة والشجاعة والحديث المباشر من دون مداهنة ولا تورية، وهو ما رفع من شأنه السياسي وفي الوقت نفسه زاد من الأحقاد عليه والحسد من نبوغه المبكر.
كان الإعلان عن قيام الجمهورية اليمنية في 22 مايو (أيار) 1990 إيذاناً بتحول جذري في المناخ السياسي، وشكّل انفجاراً في الحريات العامة والخاصة، وصارت أبواب النقد مفتوحة على مصراعيها من دون رقابة ولا ملاحقة، وهي ظروف أتاحت لشابٍ مثل عبد الحبيب أن يفرغ ذهنه المتوقد والمتطلع في مقالات نارية جذبت الأنظار إليه، لكنه وهذا هو الأهم فتح ملفات اجتماعية وسياسية كان الاقتراب منها من المحرمات.
كنت أسمع عن بُعد بعبد الحبيب وأتمنى أن ألتقيه والتعرف إليه عن قُرب، وهكذا بعد عودتي واستقراري في اليمن عام 1989 بدأت اقرأ له بانتظام، وكانت صحيفة "صوت العمَّال" التي تصدر في عدن تحت رعاية الحزب الاشتراكي، المنبر الذي حفر اسمه في قلوب الناس وعقولهم، وحفز الكثيرين على محاولة السير في أثره.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
خلال زيارة إلى "تعز" سألني نجيب عبد العزيز الحروي، وهو رجل أعمال وصديق مشترك لنا مقيم في هذه المدينة، إن كنت أريد التعرف على عبد الحبيب، ولم أتردد في إبداء حماستي. تم الامر في مَقِيل بمنزل الحروي، وكان لقاءً عابراً تكرر بعد الإعلان عن حرية التنقل بين شطري اليمن في 30 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989، إذ وجه إلى الراحل أحمد الكازمي دعوة للمشاركة في الاجتماع التأسيسي لأول منظمة غير حكومية تعنى بالحريات، المنظمة اليمنية للدفاع عن الحقوق والحريات، تم إشهارها في عدن وجرى انتخابي وعبد الحبيب ضمن مجموعة أخرى من الشخصيات العامة مثل الراحل محمد عبد الملك المتوكل وعبد القدوس المضواحي وعبد الله الذيفاني ومحمد قاسم نعمان وسلطان السامعي في هيئتها التنفيذية والاتفاق على فتح فرع للمنظمة في صنعاء.
في البدء، كما أخبرني عبد الحبيب بعد فترة من التعرف، كان حذراً في تعامله معي لأنه بحسب قوله كان ينظر إلى النعمان الأب كشخصية مثيرة للجدل بسبب خلافه القديم مع الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، ولما كان يتداوله خصوم النعمان عن علاقاته مع السعودية، وكذلك نظرة الحزب الاشتراكي له كشخصية رجعية.
ولم تطل فترة التعارف المشوب بالحذر، وبدأنا نلتقي بانتظام في تعز وعدن، ولم يكن وقتها كثير الحضور إلى صنعاء، وصارت علاقتنا منفتحة من دون قيود ومواقفنا السياسية من الرئيس الراحل علي عبد الله صالح شديدة التقارب، وصارت كتاباته أكثر حدة، ولم نعد نفترق في صنعاء أو عند نزولي لزيارة تعز.
لجنة الإضراب
ومع تزايد الثقة بيننا صرنا أقرب ذهنياً ونفسياً في فترة وجيزة، ثم بدأت اللقاءات في تعز تتكثف خلال عام 1991 لتنسيق نشاطات لجنة إضراب تعز التي ضمت الراحل منصور أحمد سيف وطاهر علي سيف وصادق الضباب وسلطان السامعي، أعضاء مجلس النواب، وعدداً آخر لا أتذكر أسماءهم، وكان الغرض خصوصاً لفت الانتباه لما تعانيه المحافظة من إهمال في الخدمات الأساسية، لكن الرئيس صالح كان شديد الشك بأن قيادات في الحزب الاشتراكي تدعم وتقف وراء أعمال اللجنة، وكان موقف حزب الإصلاح منها متطابقاً مع موقف صالح، وبقيت بقية الأحزاب تتصرف بحذر رغم أن عدداً من قياداتها كان مقتنعاً بعمل اللجنة ويدعمها سراً.
النجاة من الغرق في عدن
في بدايات شهر سبتمبر (أيلول) 1992 اتفقت وعبد الحبيب على زيارة عدن وقضاء أيام فيها، إذ يكون الجو مثاليا. مررت عليه في تعز ووصلنا عدن في يوم الثلاثاء 8 سبتمبر، ولهذا اليوم تاريخ لا يمكن أن أنساه، ففي صباح اليوم التالي الأربعاء 9 سبتمبر وصادف يوم المولد النبوي، خرجنا في جولة بحرية بدعوة من الصديق نبيل عبد الصمد مطهر، الذي يمتلك قارباً صغيراً وكنا أنا وعبد الحبيب سالم، ومدين ياسين، ومحمد عبد القوي عثمان، ونوفل حبيشي. وعند العودة إلى الشاطئ أوقفوا القارب لإعادة ملء الخزان بالوقود، ومع انعكاس أشعة الشمس على سطح الماء والريح الخفيفة توهمت أننا اقتربنا إلى الشاطئ بما يكفي إلى أن أقطع المسافة سباحة.
نزعت القميص الذي كنت أرتديه وقفزت إلى وسط البحر، وما هي إلا ثوان قليلة حتى وجدت نفسي أغوص بسبب ثقل "البنطلون" الذي كنت أرتديه، فقد كان من قماش الجينز ما يجعله ثقيلاً في المياه كالصخرة، وكانت لحظات شاهدت فيها الموت أمامي والحياة تمر كشريط سينمائي، وكان صراعاً لأقل من دقيقتين.