Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الحرب والسلام في زمن الذكاء الاصطناعي

ماذا يعني للعالم أن تتولى الآلات صوغ الاستراتيجيات والإمساك بإدارة الدول؟

أثناء مؤتمر عسكري في واشطن خلال أكتوبر 2024 (رويترز)

ملخص

الذكاء الاصطناعي يتطور بقفزات نوعية وبات عنصراً حاسماً في أداء الدول ورسم استراتيجياتها وإدارة حروبها، وربما وصل تطوره إلى إزاحة الحكومات عن سلطاتها الراسخة تاريخياً وتشكيل نظام عالمي جديد يستند إلى دول تهيمن عليها الشركات في جميع أرجاء العالم.

من تعديل الاستراتيجية العسكرية إلى إعادة تكوين الدبلوماسية، سيضحى الذكاء الاصطناعي عنصراً حاسماً ومقرراً لنظام العالم. وبسبب نأيه عن الخوف والتفضيلات سيدخل الذكاء الاصطناعي إمكانية جديدة للموضوعية في صنع القرار الاستراتيجي. وفي المقابل، إن تلك الموضوعية التي سيتمرس بترويضها المحاربون وصناع السلام يجب أن تحافظ على الذاتية الإنسانية التي تشكل عنصراً أساساً في التطبيق المسؤول لممارسات القوة. وسيلقي الذكاء الاصطناعي الضوء على أفضل التعبيرات عن الإنسانية وأشدها رداءة أيضاً. وسيغدو وسيلة لإشعال الحروب وإنهائها.

وخاضت الإنسانية صراعاً مديداً من أجل إعادة صياغة نفسها على هيئة ترتيبات متزايدة التعقيد، تهدف إلى عدم امتلاك أية دولة الهيمنة المطلقة على الأخريات. وتوصلت الإنسانية إلى تحقيق وضعية تتخذ فيها تلك الترتيبات صورة القانون الطبيعي المستمر. وفي عالم لا تزال الأطراف الفاعلة الأساس فيه مكونة من بشر، حتى لو تجهزوا بالذكاء الاصطناعي كي يعطيهم المعلومات والاستشارة والنصح، يجب على الدول فيه حيازة درجة ما من الاستقرار المستند إلى معايير مشتركة في التصرف تخضع باستمرار إلى التغيير والتعديل مع مسار الزمن.

وفي المقابل، إذا صعد نجم الذكاء الاصطناعي واتخذ عملياً هيئة مجموعة من الكيانات المستقلة سياسياً ودبلوماسياً وعسكرياً، فلسوف يفرض أن يزول توازن القوى الراسخ منذ آجال طويلة، لمصلحة نظام جديد من الاضطراب غير المعروف الملامح. ولقد صمدت المنظومة العالمية للدول، الأمم مع ما تتضمنه من توازن دقيق ومتبدل أرسيت دعائمه عبر القرون القليلة الماضية. ويرجع الفضل في ذلك جزئياً إلى التساوي الأصيل بين الأطراف الفاعلة في تلك المنظومة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي المقابل، إذا استطاعت بعض الدول مثلاً أن تتبنى ذكاء اصطناعياً من مستويات فائقة التقدم بسرعة تفوق الأخريات، فسينبثق عالم من الاختلال في التساوي والتناظر تسوده درجة عالية من الفوضى وانعدام القدرة على توقع الأشياء. وفي حالات قد يتواجه فيها بعض البشر مع دولة مزودة بقدرات عالية من الذكاء الاصطناعي، أو ضد ذلك الأخير بنفسه فلسيغدو مصير البشر هو مجرد السعي إلى الاستمرار على قيد الحياة بأكثر من سعيهم إلى المنافسة معها، وبأشواط كثيرة. ولربما شهد ذلك النظام الانتقالي انهياراً داخلياً للمجتمعات، وانفجاراً منفلتاً للنزاعات الخارجية.

وثمة وفرة في الاحتمالات الممكنة. وبأبعد من السعي إلى الأمن، خاض البشر عبر أزمنة مديدة حروباً من أجل الانتصار أو الدفاع عن الشرف. وفي اللحظة الراهنة، تبدو الآلات الذكية نائية بنفسها عن أي مفهوم للانتصار أو الشرف. إنها قد لا تذهب إلى الحرب، بل قد تختار مثلاً تقاسماً وتبادلاً فورياً للأراضي، بالاستناد إلى حسابات معقدة. ولربما مالت إلى أفعال تتصاعد إلى حروب دامية من الإنهاك الإنساني، عبر مكافأتها للمخرجات على حساب أولوية أرواح الأفراد. وفي أحد تلك السيناريوهات قد يتطور نوعنا الإنساني ويتبدل إلى حال من التجنب المطلق للوحشية في السلوك الإنساني. وفي سيناريو آخر قد نخضع للتكنولوجيا إلى حد أنها قد تقودنا رجوعاً إلى ماضينا البربري.

إشكالية أمن الذكاء الاصطناعي

باتت دول كثيرة تحصر تفكيرها في كيفية "ربح سباق الذكاء الاصطناعي". وبصورة جزئية، من المستطاع تفهم ذلك الاندفاع. وقد تواطأت الثقافة والتاريخ والاتصالات ومناظير الرؤى على تكوين وضعية دبلوماسية بين القوى الكبرى حاضراً من شأنها تعزيز الريبة وانعدام الأمن لدى الجهات كلها. ويعتقد القادة أن تحقيق تفوق تكتيكي تراكمي قد يصبح حاسماً في صراعات المستقبل، ويعتقدون أن الذكاء الاصطناعي قد يمنحهم ذلك التفوق.

إذا رغبت كل دولة في تعظيم مكانتها إلى الحد الأقصى، فسيمهد ذلك لأوضاع تسودها سيكولوجيا التنافس بين القوى العسكرية المتخاصمة، وكذلك الحال بالنسبة إلى وكالات الاستخبارات، إلى حدود لم تواجهها الإنسانية في تاريخها. إن الرغبة المنطقية الأولى التي ستتملك أي طرف إنساني فاعل لدى حيازته الذكاء الاصطناعي الخارق، الذي يعني نظرياً نوعاً من ذكاء الآلات يفوق نظيره البشري، ربما تمثلت في ضمان ألا يتوصل أي شخص آخر إلى تلك النسخة المتطورة من التكنولوجيا. من ثم، فإن ذلك الطرف الفاعل قد يفترض بصورة منطقية استطرادية أن خصمها يتفكر في تحرك مماثل [أي منع الآخرين من امتلاك التكنولوجيا الخارقة الذكاء]، باعتبار أنه يتحرك أيضاً بتأثير المستوى نفسه من التشكك، ويلقي برهاناته على المحك نفسه أيضاً.

وتحت تلك الظلال، قد لا يخوض الذكاء الاصطناعي الخارق حروباً، لكنه قد يزعزع ويحدث القلاقل ويخرب ويصد، كل برنامج مشابه له. ومثلاً، يعد الذكاء الاصطناعي بتعزيز فيروسات الكمبيوتر التقليدية بضخ قوة غير مسبوقة فيها، مع تمويهها بصورة دقيقة. وهناك سابقة مثلتها دودة الكمبيوتر المسماة "ستاكسنت" Stuxnet السلاح السيبراني الذي جرى الكشف عنه عام 2010 الذي يعتقد أنه خرب خمس آلات الطرد المركزي لتخصيب اليورانيوم في إيران. وعلى غرارها قد يعمل عنصر من الذكاء الاصطناعي على تخريب التقدم الذي يحرز خصمه بطرق مموهة، مما سيجبر العلماء عند عدوه على مطاردة الأشباح. ومع تمتعه بقدرة متفردة في التلاعب بالضعف في نفسية الإنسان قد يتوصل الذكاء الاصطناعي إلى اختراق الإعلام الوطني لمنافسه، ثم يسخره في إنتاج فيوض مضللة من المعلومات التركيبية synthetic disinformation [أي التي يخترعها ذكاء الآلات من دون أن توازيها معطيات فعلية بالضرورة]، كي يلهم ويستحث معارضة شعبية تناهض مضي ذلك البلد قدماً في تطوير قدرات الذكاء الاصطناعي لديها.

وسيصعب على بلدان عدة التيقن من موقعها الفعلي في سباق الذكاء الاصطناعي، بالمقارنة مع آخرين. وفعلياً، يجري تدريب النماذج الكبرى من الذكاء الاصطناعي على شبكات مأمونة ومحمية ومعزولة عن بقية الإنترنت.

ويعتقد بعض المسؤولين التنفيذيين أن تطور الذكاء الاصطناعي بحد ذاته سيفرض عاجلاً أو آجلاً، انتقاله إلى تحصينات تستعصي على الاختراق، وتضم كمبيوترات خارقة تعمل بالطاقة المولدة من مفاعلات نووية. وحتى في اللحظة الحاضرة يجري بناء مراكز حفظ بيانات في قيعان المحيطات. وبعد فترة وجيزة قد يذهب بها إلى مدارات حول الأرض. من ثم، قد تلجأ مؤسسات أو بلدان إلى أسلوب "الذهاب إلى الظلام"، فتتوقف عن نشر بحوثها في الذكاء الاصطناعي كي تحرم منها الأطراف الفاعلة الشريرة، وكذلك كي تموه على الإيقاع الفعلي ما تعمل على تطويره. وبغية تقديم صورة محرفة عن حقيقة تقدمها، قد تعمد أطراف فاعلة أخرى إلى نشر بحوث مضللة مع استعمال الذكاء الاصطناعي في تكوين فبركات مقنعة في شأنها.

في الحرب، سيلقي الذكاء الاصطناعي الضوء على أفضل التعبيرات عن الإنسانية وأشدها رداءة أيضاً

وثمة سابقة عن ذلك التضليل العلمي. وخلال عام 1942 استنتج عالم الفيزياء السوفياتي غريغوري فليوروف بصواب أن الولايات المتحدة تبني قنبلة نووية، بعد ملاحظته أن الأميركيين والبريطانيين توقفوا فجأة عن نشر أوراق بحثية علمية عن الانشطار الذري. وحاضراً، قد يؤدي تنافس مماثل في الذكاء الاصطناعي إلى زيادة عدم القدرة على التوقع، إذا أخذ بعين الاعتبار مستويات التعقيد والغموض في مجال قياس التقدم المحرز نحو شيء غير ملموس ويشكل تجريداً فكرياً، على غرار الذكاء. وقد يتراءى للبعض فائدة في الرهان على حجم نماذج الذكاء الاصطناعي التي بحوزتهم، لكن النموذج الأكبر لا يتفوق بالضرورة في كل السياقات، وقد لا يستطيع دوماً الانتصار على نماذج أصغر لكنها تستعمل مع انتشار أعداد كبيرة منها. وقد تعمل آلات للذكاء الاصطناعي تكون أصغر وأكثر تخصصاً، على طريقة تعامل أسراب المسيرات مع حاملة طائرات، بمعنى أنها قد لا تدمرها لكنها تكفي لتحييدها.

وربما اعتبر طرف فاعل معين بوصفه ممتلكاً لأفضلية شاملة حينما يتعلق الأمر بعرض إنجاز ما في قدرات معينة. ولكن، ثمة مشكلة في هذا النمط من التفكير يتمثل في أن الذكاء الاصطناعي يشير بالكاد إلى عملية من تعلم الآلات المنبثة في مروحة واسعة من التقنيات. من ثم، إن القدرة التي قد تظهر في حقل معين قد تسير بدفع من عوامل متباينة كلياً مع قدرة أخرى تعمل في مجال آخر. وفي ذلك المعنى، إن أي "أفضلية" يجري احتسابها بصورة اعتيادية قد تكون متوهمة.

واستدراكاً، وفق ما تبين في تفجر قدرات الذكاء الاصطناعي على نحو غير مسبوق من التصاعد بمتواليات هندسية وقفزات نوعية خلال الأعوام الأخيرة، من المستطاع استنتاج أن مسار التقدم في تلك التقنية ليس خطياً [ليس على غرار الأعداد المتوالية وترابطاتها] ولا قابل للتوقع. وحتى لو نظر إلى لاعب فاعل بعينه باعتباره في موقع "القيادة" بالمقارنة مع آخر، وبعدد تقريبي من الأعوام أو الأشهر، فلربما حدث اختراق تقني أو نظري مفاجئ في مساحة محورية وأثناء لحظة حاسمة، قد يقلب مواقع الأطراف الفاعلة كلها.

وفي عالم كهذا، لا يستطيع القادة الوثوق بأشد الاستخبارات صلابة، ولا بغرائزهم الأولية والبدائية، ولا حتى بأسس الحقيقة نفسها. من ثم، ليس بالمستطاع إلقاء الملامة على الحكومات التي تتصرف من موقع الريبة القصوى والبارانويا المتطرفة. ولا شك في أن القادة شرعوا بالفعل باتخاذ قرارات بموجب افتراض أن مجهوداتهم تحت المراقبة، أو أنها مثقلة بحقائق مشوهة تكونت في ظل تأثير خبيث.

ومع تحول التفكير بالسيناريوهات الأسوأ إلى بديهة مسبقة، تجبر الحسابات الاستراتيجية لأي طرف فاعل وصل إلى موقع متقدم على إعطاء الأولوية إلى السرعة والسرية، على حساب الأمان. وقد يقع قادة البشر في قبضة الخوف من أنه لا يوجد شيء اسمه المكانة الثانية. وتحت تلك الضغوط قد يعمدون إلى تسريع غير ناضج لتوظيف الذكاء الاصطناعي كأداة ردع ضد التخريب الآتي من الخارج.

نموذج فكري آخر للحرب

على مدار معظم تاريخ البشر، خيضت الحروب في مكان محدد ومعرف يتمكن المرء من التوصل إلى يقين منطقي في شأن قدرات ومواقع القوى العدوانية للخصم. وقد عمل مزيج المعطيين السابقين [القدرة والموقع للطرف الآخر] على إعطاء كل طرف إحساساً بالأمن النفسي والتوافق العمومي، مما أتاح المجال بالتالي أمام التقييد المحسوب للفتك والموت. ولا تتوصل القوى المتصارعة إلى قرار حاسم في شأن ضرورة خوض الحرب أو الامتناع عن ذلك، إلا إذا امتلك قادة مستنيرون ما يجمعهم في شأن المفاهيم الأساس عن كيفية خوض القتال وضروراته.

واندرجت السرعة والتحرك ضمن العوامل الأكثر توقعاً في مساندة قدرات أية قطعة من المعدات العسكرية. ويبرز المدفع بوصفه أحد الأمثلة المبكرة عن ذلك. وعلى مدار ألف عام تلت ابتكاره، حمت الأسوار الثيودوسينية مدينة القسطنطينية العظيمة من الغزاة الخارجيين.

وفي عام 1452 اقترح مهندس مدفعية مجري على الإمبراطور قسطنطين السادس بناء مدفع عملاق كي يطلق من خلف الجدران ويكتوي بنيرانه الأعداء. لكن الإمبراطور المتطامن رفض ذلك الاقتراح لأنه لم يمتلك المعدات اللازمة، وافتقد رؤية مستقبلية حيال دلالة تلك التقنية.


ولسوء حظ الإمبراطور تبين أن ذلك المهندس مرتزق. ومع تغيير تكتيكاته (وولاءاته) عمل على تطوير الآلة التي صممها كي تضحى أكثر تحركاً، على رغم أن نقلها يتطلب 60 ثوراً و400 رجل. وتقرب من خصم الإمبراطور قسطنطين السادس، أي السلطان العثماني محمد الثاني الذي انخرط حينها في التأهب لمحاصرة ذلك الحصن المنيع. وإذ نجح في استمالة السلطان الشاب عبر زعمه أن مدفعه يستطيع "تحطيم حتى أسوار بابل نفسها"، ساعد المستثمر المجري القوات التركية في اختراق الجدران القديمة خلال 55 يوماً.

ومن المستطاع رؤية أن ملامح دراما القرن الـ15 تلك تكررت المرة تلو الأخرى على مدار التاريخ. وفي القرن الـ19 بدلت السرعة والحركة مصائر فرنسا أولاً، مع سيطرة جيش نابليون على أوروبا، ثم تلتها بروسيا تحت قيادة هيلموت فون مولتكه (الجد) ثم آلبرخت فون روون الذي راهن على طرق السكك الحديد المستجدة آنذاك في تعزيز سرعة مناوراته العسكرية ومرونتها. وعلى نحو مماثل، استخدمت هجمات الـ"بليتز كريغ" (الخاطفة) التي ظهرت عبر تطوير المبادئ العسكرية الألمانية، ضد الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، فأحدثت تأثيرات كبيرة ومريعة.

واتخذ مفهوم "الحرب الصاعقة" معنى جديداً وهيمنة مطلقة، في عصر الصراعات الرقمية. إذ باتت السرعة لحظية وفورية. ولم يعد المهاجمون في حاجة إلى التضحية المميتة كي يضمنوا استمرار حركيتهم لأن الجغرافيا لم تعد قيداً. وعلى رغم ميل تلك المعطيات مجتمعة إلى تفضيل الهجوم في الهجمات الرقمية، فإن حقبة الذكاء الاصطناعي قد تشهد زيادة في سرعة الاستجابة والرد، ما يتيح التوازي والتقارب بين الدفاع والهجوم السيبرانيين.

وفي أعمال عسكرية متحركة، سيحفز الذكاء الاصطناعي على إحداث قفزة كبرى إلى الأمام. ومثلاً، ستصبح المسيرات فائقة السرعة وتفوق حركتها الخيال. وفي اللحظة التي سيستخدم فيها الذكاء الاصطناعي لتوجيه المسيرات وتوجيه أسراب منها، ستتشكل سحب منها وتحلق متزامنة مع بعضها بعضاً في عمل جماعي متناسق وموحد، وستحقق تواقتاً مثالياً. ومن دون جهد ستتمكن أسراب المسيرات مستقبلاً من تفكيك تشكيلات أسرابها ثم إعادة تكوينها في وحدات من الأحجام كلها، على غرار ما تفعله قوات النخبة للعمليات الخاصة التي يصار إلى بنائها من وحدات صغيرة منفصلة وقابلة للتوسيع والإضافة، مع احتفاظ كل وحدة بقيادة مستقلة.

إضافة إلى ذلك، سيقدم الذكاء الاصطناعي إمكانية تكوين دفاعات سريعة ومتحركة. وعملياً، ليس بالمستطاع إسقاط أسراب المسيرات بواسطة إطلاق المقذوفات التقليدية عليها. وفي المقابل، ستعمل الأسلحة المزودة بقدرات الذكاء الاصطناعي على إطلاق صليات من الفوتونات والإلكترونات (بدل الذخائر التقليدية) على أسراب المسيرات وتطاولها بقدرات تشبه الطريقة التي تعمل بها عواصف الشمس على ضرب الدوائر الكهربائية والإلكترونية في دواخل الأقمار الاصطناعية.

وستتمتع الأسلحة المزودة بالذكاء الاصطناعي بدقة غير مسبوقة على الإطلاق. ولآجال مديدة أدت محدودية المعرفة بجغرافيا الخصم إلى تقييد قدرات ونيات كل الأطراف المتحاربة. وفي المقابل، جاء التآزر بين العلم والحرب كي يضمن زيادة الدقة في الأجهزة، ومن المستطاع توقع أن يستطيع الذكاء الاصطناعي تحقيق مزيد من الاختراقات في هذا المجال. من ثم، سيتمكن الذكاء الاصطناعي من تقليص الفجوة بين النيات الأصلية والمخرجات النهائية، ويشمل ذلك تطبيق قوة قاتلة. وستتملك الآلات قدرات عالية الدقة في قتل البشر مع درجة صغيرة من عدم التيقن، مضاف إليها تأثيرات بلا حدود. وينطبق ذلك على أسراب المسيرات التي تنطلق من الأرض، وأرتال الآلات المنتشرة في البحر أو ربما أساطيل الأقمار الاصطناعية. وستتعلق حدود الدمار الممكن، بالإرادة والتحفظ لدى البشر والآلات معاً.  

في أعمال عسكرية متحركة، سيستحث الذكاء الاصطناعي حدوث قفزة كبرى إلى الأمام

وإذا حدث ذلك، ستتقلص الأعمال الحربية بصورة أساس في عصر الذكاء الاصطناعي إلى تقييم لا يتناول قدرات العدو، بل يتخطى ذلك إلى نياته وتطبيقاتها الاستراتيجية. ومع العصر النووي دخلنا بالفعل إلى مرحلة كتلك، لكن آلياتها ودلالاتها ستغدو أكثر دقة وتركيزاً فيما يثبت الذكاء الاصطناعي أنه يستحق قيمته كسلاح في الحرب.

ومع وجود تكنولوجيا عالية القيمة من ذلك النوع، لن يصبح البشر الأهداف الأساس للحرب المزودة بقدرات الذكاء الاصطناعي. وفي الواقع، قد يزيل الذكاء الاصطناعي البشر من حساباته بالكامل باعتبار أنهم محض وكلاء، مما يحمل إمكانية أن تغدو الحرب أقل فتكاً بالأرواح لكن ليس أقل حسماً وتصميماً. وعلى نحو مماثل من غير المرجح أن تعطي الأراضي المسيطر عليها تحفيزاً كافياً للذكاء الاصطناعي كي يشن أعمالاً عدوانية. وبالأحرى من شبه المؤكد أن تحدث تلك الأعمال بسبب مراكز البيانات وغيرها من مكونات البنى الرقمية التحتية.

وحينئذ، لن يأتي الاستسلام بسبب تضاؤل أعداد قوات الخصم واستنفاد ترسانته الحربية، بل حينما يغدو درع السيليكون [التقنيات الذكية] لدى الناجين من فتك الحرب غير قادر على حماية أصولهم التكنولوجية، ومن ثم ممثليها من البشر في خاتمة المطاف. وقد تتطور الحرب إلى صورة صافية من لعبة إيقاع الخسائر بالآلات، مع تمثل العنصر الحاسم بالقوة السيكولوجية للإنسان (أو الذكاء الاصطناعي) الذي يجب عليه التصارع مع أخطار لحظة الاختراق المتضمنة تدميراً كاملاً، أو قبول الخسارة مع دفع غرامة لتجنب ذلك.

وحتى الدوافع التي تتحكم في ساحات القتال الجديدة ستغدو غريبة إلى حد ما. وذات مرة سخر الكاتب الإنجليزي ج. ك. شسترتون من ذلك الأفق، معتبراً أن "الجندي الحقيقي سيحارب ليس لأنه يبغض ما يواجهه بل لأنه يحب ما هو خلفه". ومن غير المرجح أن تتضمن حروب الذكاء الاصطناعي حباً أو كراهية، وبديهي أنها ستنأى عن مفهوم شجاعة الجندي. ومن ناحية أخرى ستستمر الحرب في تضمنها الأنا والهوية والولاء، على رغم أن طبيعة تلك الكيانات والولاءات قد لا تنسجم مع ما هي عليه اليوم.

وبصورة مستمرة بدت حسابات الحرب مباشرة نسبياً، بمعنى أن من يجد نفسه غير قادر على تحمل آلام المعركة سيهزم على الأرجح. وفي الماضي، أدى الوعي الذاتي بالقصور إلى نوع من الإحجام. وغاب ذلك الوعي وزال الإحساس بالألم (من ثم، تضخمت القدرة على تحمله)، لا يستطيع المرء إلا أن يتساءل عن الشيء الكفيل بتحفيز الإحجام لدى الذكاء الاصطناعي المنخرط في النزاع الحربي، وما الشيء الذي قد يتكفل بإنهاء الحرب بعد اشتعالها. إن الذكاء الاصطناعي الذي يلعب الشطرنج قد يستمر في اللعبة حتى آخر بيدق، ما لم يعلم القواعد التي تحتم إنهاء التباري.

إعادة هيكلة الجغرافيا السياسية

في كل عصر عاشته الإنسانية، وكأنما بنوع من الخضوع لقانون طبيعي ما تظهر دوماً، وفق رأي أحد كتاب هذه الكلمات (كيسنجر) وحدة معيارية معينة "تتمتع بالقوة والإرادة والدوافع الفكرية والأخلاقية، وتتولى تشكيل النظام الدولي برمته وفق قيمها الخاصة". ويجسد النظام الوستفالي التدبير الإجرائي للحضارة البشرية [بمعنى أنه يجسد تلك الوحدة المعيارية]، وهو مألوف أكثر من سواه، بالصورة المتوافق عليها في فهمه. ولكن، لا يتجاوز عمر الدولة-الأمة بضعة قرون إذ ظهرت عبر اتفاقات جرى التوافق على تسميتها "السلام الوستفالي"، في منتصف القرن الـ17. من ثم، إن الدولة-الأمة ليست وحدة مكرسة بصورة مسبقة للنظام الاجتماعي وقد لا تتلاءم مع عصر الذكاء الاصطناعي. وبالطبع، ثمة فقدان للإيمان بذلك الإجراء كوحدة معيارية، حركه الانتشار واسع للمعلومات المضللة والتمييز التلقائي المؤتمت. وقد يفرض الذكاء الاصطناعي بحكم طبيعته تحدياً لقوة الحكومات الوطنية. وبالتوازي مع ذلك، قد يعمل الذكاء الاصطناعي على إعادة ترتيب وضعيات المتنافسين في النظام العالمي السائد اليوم. وإذا جرى ترويض قدرات الذكاء الاصطناعي بأيدي الدول-الأمم نفسها، فربما يفرض على الإنسانية مواجهة ركود في نظام السيطرة والهيمنة، وإلا فستندفع نحو توازن جديد بين الدول-الأمم المعززة بقدرات الذكاء الاصطناعي. ولكن التكنولوجيا قد تعمل كعنصر مساعد في تغيير أشد جذرية، بمعنى الانتقال إلى نظام عالمي جديد بالكامل، ستجبر فيه حكومات الدول على التخلي عن دورها المركزي في البنية التحتية السياسية العالمية.

وثمة احتمال بأن تتنامى سيطرة الشركات التي تطور الذكاء الاصطناعي وتحوز السلطة الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والسياسية. وبالفعل، لقد باتت الحكومات اليوم مجبرة على الاكتفاء بموقعها الصعب والمزدوج المتمثل من ناحية بالتهليل للشركات الخاصة مع إقراضها جزءاً من القوة العسكرية والرأسمال الدبلوماسي والثقل الاقتصادي بغية تعزيز الفروع الوطنية لتلك الشركات، ومن ناحية أخرى فإنها تعزز دورها كمؤيد لشكوك المواطن العادي في شأن الاحتكارية الجشعة والسرية في عمل تلك الشركات. وقد يغدو ذلك التناقض غير قابل للاستمرار.

في ذلك الصدد، قد تؤلف الشركات تحالفات بغية تعزيز قوتها الضخمة بالفعل. وربما أرسيت تلك التحالفات على أساس المنفعة المتكاملة والاستفادة من التجمع، أو كاحتمال مواز قد تجمعها فلسفة مشتركة في شأن التطور وتوظيف أنظمة الذكاء الاصطناعي. وربما تتولى تحالفات الشركات الوظائف التقليدية للدولة-الأمة، على رغم أنها قد لا تنحو في تلك الحال إلى التركيز على تعريف وتوسيع الإطار الجغرافي، بقدر تركيزها على نشر شبكات رقمية باعتبارها نطاقات أعمالها.

قد يفرض الذكاء الاصطناعي بحكم طبيعته، تحدياً لقوة الحكومات الوطنية


وهنالك احتمال آخر مواز. ولربما نجم عن الانتشار المنفلت والمفتوح المصدر إلى ظهور عصابات صغرى أو قبائل متمرسة باستعمال ذكاء اصطناعي متدني المستوى، لكنه يبقى فاعلاً بما يكفي كي يؤمن لها الإدارة والدفاع عن نفسها ضمن مدى محدود. ومن بين مجموعات إنسانية ترفض السلطات الراسخة لمصلحة اللا مركزية في المال والاتصال والحوكمة، قد يتحقق انتصار لتلك المجموعات الميالة إلى الفوضى والمعززة بالذكاء الاصطناعي. وكذلك فقد تتضمن تلك المجموعات بعداً دينياً. وفي نهاية الأمر، وفي ما يخص الانتشار فإن المسيحية والإسلام والهندوسية استمرت لزمن أطول مما فعلت أية دولة في التاريخ، وكذلك الحال بالنسبة إلى توسع تلك الديانات. وفي عصر مقبل ربما من المنطقي توقع أن يغدو الانتماء الديني إطاراً وازناً بالنسبة إلى الهوية والولاء، أكثر من الهوية الوطنية.

وعلى أية وجهة رسا المستقبل، وسواء تحقق سيناريو سيطرة تحالف الشركات أو التفكك إلى تجمعات دينية، فإن "المنطقة" التي ستزعم كل مجموعة السيطرة عليها، وقد تتقاتل من أجلها لن تتجسد في بضع بوصات من الأرض، بل ستتمثل في مشهدية رقمية تسعى إلى اكتساب ولاء الأفراد المستخدمين لها. من ثم، ستعمل الروابط بين أولئك المستخدمين وأية إدارة كانت على زعزعة مفهوم المواطنة، والاتفاقات بين تلك الكيانات سوف لن يتشابه مع التحالفات التقليدية.

وباسترجاع التاريخ، نسجت التحالفات بأيدي قادة أفراداً وأسهمت في تعزيز قوة الأمة في حالات الحرب. وعلى عكس ذلك فإن الآفاق المستقبلية للمواطنة والتحالفات، وربما الفتوحات والحملات الواسعة الموجهة الأهداف تتضمن أن تتمحور وتتركب بالنسبة إلى الناس العاديين حول آراء ومعتقدات وهويات ذاتية في أوقات السلم، ما قد يتطلب صوغ مفهوم جديد (أو قديم تماماً) عن الإمبراطورية. وكذلك ستفرض تلك الأوضاع عملية إعادة تقييم للالتزامات المتضمنة في الولاء للتحالفات، وكذلك الحال بالنسبة إلى كلفة الخروج منها، إذا قدر لها التحقق على أرض الواقع في مستقبل متمازج مع الذكاء الاصطناعي.

السلام والقوة

لقد بنيت السياسات الخارجية للدول-الأمم ثم جرى تعديلها، من خلال تأمين التوازن بين المثالية والواقعية. وبنظرة استرجاعية لا تتبدى التوازنات المرحلية التي أبرمها قادتنا، بوصفها حالات نهائية بل محض استراتيجيات عابرة متبددة (إذا أوجبت الضرورة ذلك)، تتناسب مع أوقاتها. ومع كل عصر جديد نجم عن ذلك التجاذب المتوتر تعبيرات مختلفة عما يشكل نظاماً سياسياً. وتشكَّل جزء من ذلك التطور اللا نهائي عبر الإشكالية الانقسامية بين السعي لتحقيق المصالح والدفع لإعلاء القيم، أو بين المصلحة الخاصة بإحدى الدول-الأمم والخير العام العالمي. وتاريخياً، جاءت استجابة قادة الدول الصغيرة في أدائهم الدبلوماسي محملة بالطابع المباشر مع إعطائهم الأولوية للضرورات اللازمة لصراعهم من أجل البقاء. وعلى عكس ذلك واجه المسؤولون عن الإمبراطوريات العالمية مآزق أشد إيلاماً، مع امتلاكهم سبل تحقيق أهداف إضافية، هي أبعد من مجرد الصراع من أجل البقاء.

ومنذ بداية الحضارة، ترافق تنامي درجة تنظيم الوحدات البشرية المختلفة مع تحقيق مستويات جديدة من التعاون في ما بينها. وفي المقابل، وربما بسبب مستوى التحديات العالمية وكذلك التفاوتات المادية البارزة بين الدول وداخلها أيضاً، نشهد اليوم بروزاً صاعداً للارتداد عن ذلك التعاون. وقد يثبت الذكاء الاصطناعي تلاؤمه مع الحاجات التي لا تزال مستمرة للمستوى الأكبر من الحوكمة الإنسانية، فيقدر على تقديم رؤية تقدر على ملاحظة الولاء والوحدات الصغيرة الموجودة ضمن الضرورات الملحة للبلد الواحد، وتستمر في ملاحظة ذلك حينما تنظر إلى التفاعل بين الدول على المستوى العالمي.

ونحن مسكونون بأمل مفاده أن الذكاء الاصطناعي قد ينجز أكثر من مجرد الإضاءة على التبادلات المتوازنة، حينما يوظف لمصلحة أهداف سياسية تشمل الوطن والخارج. وبصورة مثالية، قد يستطيع الذكاء الاصطناعي تقديم حلول جديدة ملائمة وعالمية، وأن يعمل ضمن أفق زمني مديد مع دقة تفوق ما يقدر عليه البشر، من ثم فقد يحول المصالح الإنسانية المتنافسة إلى تحالف شامل. وفي عالم الزمن الآتي، حينما تنخرط صور من الذكاء الاصطناعي في أمور الصراعات والتفاوض من أجل السلام، فإنها قد تساعد في توضيح الإشكاليات التقليدية، أو ربما استطاعت تجاوزها.

وفي المقابل، إذا كان للذكاء الاصطناعي أن يصلح المشكلات التي عقدنا الأمل على أن نحلها بأنفسنا، فقد نواجه أزمة ثقة سواء كانت فائضة أو مفتقدة. وفي الحالة الأولى يكفي أن نفهم حدود قدراتنا على تصحيح ذاتنا كي يصعب علينا الاعتراف بأننا سلمنا سلطة فائضة إلى الآلات في التعامل مع قضايا وجودية في السلوك الإنساني. وفي الحالة الثانية سندرك أن الإزاحة المبسطة للعنصر البشري من التعامل مع شؤوننا كانت كافية للتوصل إلى حلول لمشكلاتنا الأشد استعصاء مما سيؤدي إلى انكشاف معلن بصورة مفرطة عن أوجه القصور في التركيبة الإنسانية. إذا تبين أن السلام كان دائماً خياراً إرادياً بسيطاً، فسيظهر أن ثمن النقص البشري دفع عبر حروب دائمة. وقد يتحطم الكبرياء الإنساني حينما يظهر أن الحل وجد دوماً لكننا لم ندركه أبداً.

وفي ما يتعلق بالأمن، على خلاف الحالة المتمثلة بإزاحة البشر من المساعي العلمية والأكاديمية المختلفة، لعلنا صرنا بالفعل نقبل بحيادية الآلات كطرف ثالث وبالضرورة تفوقها على ممالأة المصلحة الذاتية لدى البشر. وقد بات ذلك بمثل سهولة إدراك البشر لضرورة الحاجة إلى وسيط في حالة الطلاق المتنازع عليه. إن بعضاً من أسوأ ميولنا قد تمكننا في إظهار مجموعة من أفضل ما فينا. ويقصد من ذلك أن الميل الإنساني الغريزي نحو تفضيل المصلحة الذاتية، حتى على حساب الآخرين، قد تتكفل بتهيئتنا إلى قبول تجاوز الذكاء الاصطناعي لتلك الذاتية.

 

هنري كيسنجر شغل منصب وزير خارجية الولايات المتحدة بين عامي 1973 و1977، وعمل مستشاراً للأمن القومي بين عامي 1969 و1975.

إيريك شميدت مدير "المشروع المخصص لدراسات التنافس"، وهو الرئيس والمدير التنفيذي السابق لـ"غوغل".

كريغ موندي المؤسس المشارك لـ"آلينت كومبيوتنغ سيستمز" وعمل سابقاً بصفة المستشار الأقدم للمدير التنفيذي في "مايكروسوفت".

اقتبست هذه المقالة من كتاب المؤلفين الثلاثة "سفر التكوين، الذكاء الاصطناعي والأمل والروح الإنسانية" (دار "ليتل"، "براون أند كومباني"، 2024)

مترجم عن "فورين أفيرز"، 18 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024

المزيد من آراء