من الصعب تجاهل النتائج المترتبة على ثورة النفط الصخري، التي ضاعفت الإنتاج الأميركي وباتت تتحدى سيادة منظمة أوبك على أسعار النفط العالمية. كما كانت هذه الثورة من أهم الأسباب التي دفعت أوبك إلى اتخاذ القرارات التي اتخذتها في السنوات الأخيرة، إما بزيادة الإنتاج أو بخفضه، أو حتى إنشاء تحالف قوي مع دول خارج المنظمة، مثل روسيا و10 دول أخرى. وفي حين أن منظمة أوبك ما تزال تنتج 42% من النفط العالمي، فإن غالبية إنتاج النفط الجديد منذ عام 2008 جاء من الولايات المتحدة.
فمن أصل 10.3 مليون برميل يومياً من إنتاج النفط الجديد، أنتجت الولايات المتحدة 6.2 مليون برميل يومياً (نحو 60٪). وفي المقابل شهدت دولتان أخريان رئيسيتان في العالم، هما السعودية وروسيا، زيادة في إنتاجهما، ولكن بمقدار أقل كثيراً، بلغ 1.7 و 1.2 مليون برميل يومياً على التوالي خلال نفس الفترة. ورغم هذا فإن أوبك ما تزال تسيطر على معظم الاحتياطيات العالمية، وتدير أكثر الحقول ربحية على وجه الأرض، في الوقت الحالي على الأقل.
لكن التحدي الآتي من النفط الصخري الجديد لا يقتصر على الولايات المتحدة، إذ إن كندا والمكسيك تعتبران أيضاً من منتجي النفط التقليديين الكبار، مما جعل إنتاج قارة أميركا الشمالية 20 مليون برميل يومياً في عام 2017، أي 22٪ من الإنتاج العالمي. وقد أهّلها هذا الحجم من الإنتاج لكي تصبح المنتج الأكبر في العالم، باستثناء منطقة الشرق الأوسط التي أنتجت في العام نفسه 31.6 مليون برميل يومياً، أي 34.1% من إجمالي الانتاج العالمي.
هل كانت حرب أسعار؟
تحت تأثير النفط الصخري، الذي بدأ قبل 20 عاماً، وظهرت طفرته الكبيرة في عام 2008، اجتمع وزراء أوبك في نوفمبر (تشرين الثاني) 2014 في فيينا لتدارس الوضع بعدما انخفضت الأسعار حينها إلى أدنى مستوى لها في أربع سنوات، بسبب النفط الجديد في الأسواق، وكان السؤال الرئيسي المطروح أمام وزراء أوبك هو ما إذا كان على بلدانهم خفض إنتاج النفط بغرض رفع الأسعار؟
وتحدث وزير البترول السعودي آنذاك، علي النعيمي قائلاً: "إنه إذا خفّضت أوبك حجم إنتاجها فقد يستغل منتجون آخرون من خارج المنظمة هذه الفرصة، ويستولون على حصة كانت تنتجها أوبك". وبذلك غيّرت أوبك إستراتيجيتها القديمة في الدفاع عن أسعار النفط إلى الدفاع عن حصتها في السوق. ونجحت حجج النعيمي في إقناع بقية الأعضاء في أوبك، فقررت المنظمة عدم خفض الإنتاج. وكما كان متوقعاً، انخفض سعر النفط من أكثر من 70 دولاراً إلى أقل من 60 دولاراً خلال شهر واحد بعد اجتماع المنظمة.
وفي اليوم التالي لقرار أوبك قال وكالة رويترز إن أوبك أعلنت حرب أسعار على النفط الصخري.
الأسعار مقابل تكلفة الإنتاج
غيّرت أوبك في اجتماعها في نوفمبر (تشرين الثاني) 2016، إستراتيجيتها لتواكب التطورات في السوق الأميركية، ودخلت في تحالف عريض مع دول من خارج أوبك، أبرزها روسيا، ثم قررت خفض الإنتاج بمقدار 1.2 مليون برميل يومياً بغرض رفع الأسعار، وذلك بعد أن كان رد فعلها السابق هو مواصلة ضخ النفط على أمل أن يتلاشى مصدر النفط الجديد (الصخري) أو يضعف. ولكن عندما لم يحدث ذلك وظلت الأسعار تتراجع من 115 دولاراً إلى 27 دولاراً في أوائل 2016، عكست المنظمة مسارها.
وكان النفط الصخري الأميركي، في وقت اجتماع أوبك، يمثل نحو 5% من جملة إنتاج النفط في جميع أنحاء العالم. لكن تكلفة إنتاجه كانت باهظة الثمن، مما أخاف العديد من منتجيه بأنهم لن يستطيعوا الاستمرار في العمل إذا انخفضت الأسعار كثيراً. ففي ديسمبر (كانون الأول) 2014 كان منتجو النفط الصخري يحتاجون إلى سعر في حدود 69 دولاراً للبرميل حتى يتسنى لهم الاستمرار في العمل، وفقاً لتقديرات من جهات نفطية متعددة ومنها شركة "لريستاد إنرجي" الاستشارية. لذلك فان العديد من المراقبين رأوا أن النفط الصخري الأميركي الجديد أصبح يواجه ورطة بسبب تدهور الأسعار في أعقاب قرار أوبك. وبالفعل أفلست أكثر من 100 شركة نفط وغاز في أميركا الشمالية منذ بداية عام 2015، وانخفض إنتاج الولايات المتحدة من النفط بنحو 6% في الفترة بين اجتماع أوبك 2014 وصيف العام التالي.
لكن ما حدث بعد ذلك كان المفاجأة، إذ استطاعت بعض شركات النفط الصخري الاستمرار في العمل بعد أن استحدثت أساليب جديدة (عبر تغيير معادلة خلط المواد الكيماوية ودرجة الضغط)، وفق حديث لخبراء في شؤون النفط لـ"اندبندنت عربية".
ورغم ذلك واصلت الأسعار انخفاضها التي بلغت أقل من 30 دولاراً للبرميل بحلول يناير (كانون الثاني) 2016، ثم عادت وارتفعت إلى متوسط 45 دولاراً فيما بعد. وبفعل الأساليب المستحدثة انخفض سعر إنتاج البرميل الصخري إلى نحو 40 دولاراً في بعض حقول الولايات المتحدة، بل بلغ 29 دولاراً فقط في ولايتي داكوتا الشمالية ومونتانا.
ومرة أخرى، غيّرت أوبك في اجتماعها في نوفمبر (تشرين الثاني) 2016، إستراتيجيتها لتواكب التطورات في السوق الأميركية، ودخلت في تحالف عريض مع دول من خارج أوبك، أبرزها روسيا، ثم قررت خفض الإنتاج بمقدار 1.2 مليون برميل يومياً بغرض رفع الأسعار، وذلك بعد أن كان رد فعلها السابق هو مواصلة ضخ النفط على أمل أن يتلاشى مصدر النفط الجديد (الصخري) أو يضعف. ولكن عندما لم يحدث ذلك وظلت الأسعار تتراجع من 115 دولاراً إلى 27 دولاراً في أوائل 2016، عكست المنظمة مسارها.
أوبك غيرت مسارها وعززت الأسعار
وبالفعل نجحت سياسة أوبك في رفع الأسعار، رغم أنها لم تصل إلى مستوياتها التي كانت عليها قبل عام 2014، نحو 120 دولاراً للبرميل. واستفادت بالطبع شركات النفط الصخري من ارتفاع الأسعار، ضمن بقية المستفيدين.
من جهة أخرى، قال خبراء النفط إن وكالات عالمية ومنها "بلومبيرغ" الاقتصادية اعتبرت أنه بحلول منتصف 2018، كانت مغامرة أوبك أتت ثمارها. فقد تم القضاء على التخمة في السوق، مما أدى إلى ارتفاع الأسعار إلى أعلى مستوياتها منذ أربع سنوات (85 دولاراً للبرميل). ورغم أن قرار أوبك كان السبب الرئيسي في ارتفاع الأسعار، فقد أسهم عامل آخر في هذا الارتفاع وهو انهيار صناعة النفط في فنزويلا وسط أزمة اقتصادية حادة، مما عوّض النقص في حصص الإنتاج من قبل بعض الدول الأعضاء في أوبك، لا سيما العراق.
جدل حول مدى تأثير االصخري على الخارطة النفطية
بينما يتفق غالبية المحللين على أن ظهور النفط الصخري لا شك أثّر، وسيظل يؤثر، على الأسعار وعلى توازنات القوى النفطية في العالم، تتباين الآراء حول مدى هذا التأثير على المديين القريب والبعيد.
وقال خبراء "إن المنافسة سوف تستمر، ومن غير المرجح أن تتمكن أوبك من إبقاء الأسعار مرتفعة كما كانت في السابق". وقالوا "إن عودة الأسعار إلى 120 دولاراً للبرميل قد ولت لسنوات مقبلة، مع توقع ازدياد إنتاج النفط الصخري".
في المقابل عززت أوبك قوتها عبر تحالفها مع روسيا ودول أخرى غير أعضاء في المنظمة، وهو تحالفٌ قابل للاستمرار لفترة طويلة. وأشاروا إلى "أن شهية العالم للنفط لن تتوقف قريباً، بل من المتوقع أن يستمر الاستهلاك العالمي في الازدياد لمدة عقدين آخرين على الأقل، وأن أي انخفاض في الاستهلاك بعد ذلك سيكون بطيئاً". لذا فإن أي نفط جديد في السوق سيتم استيعابه قبل أن يحدث تخمة.
يتفق غالبية المحللين على أن ظهور النفط الصخري لا شك أثّر، وسيظل يؤثر، على الأسعار وعلى توازنات القوى النفطية في العالم، تتباين الآراء حول مدى هذا التأثير على المديين القريب والبعيد.
التنافسية المزدوجة في النفط
ويؤكد خبراء إن أوبك مازالت تتمتع بميزة تنافسية مزدوجة، أولاً يستطيع أعضاؤها في الشرق الأوسط إنتاج النفط الخام بحوالي ثلث تكلفة إنتاج النفط الصخري الأميركي. ومع ذلك، فإن حصتها في السوق العالمية أصبحت أصغر الآن مما كانت عليه في سبعينيات القرن الماضي".
وقالوا: "إن الأسعار قد تتجه نحو مستويات أعلى بكثير في السنوات الماضية، ولولا حدوث النفط الصخري في أميركا الأكثر استهلاكا في العالم لكانت الأسعار في مستويات مرتفعة".
وتوقع الخبراء أن تستمر حرب الأسعار عبر تحالفات وتكتلات عالمية تتشكّل وفق متطلبات السوق، كما قال عبدالسميع بهبهاني، الخبير والاستشاري النفطي، إن من أهم التحديات التي تواجه صناعة النفط الصخري هي عمر الحقول المكتشفة، إذ إن فكرة العمر الطويل للصخري لم تعد مثبتة كما كان يعتقد في السابق". وأضاف "إن ذلك بات واضحاً في أداء حقل البيرميان، الذي يعتبر النموذج الصخري الأفضل".
وأشار "إلى نتائج المؤتمر الأخير لجمعية مهندسي البترول في ولاية تكساس القائلة بأن إنتاج النفط الصخري الأميركي، بحقوله الكبار مثل البيرميان ويوتيكا وباكن، سيصل إلى الذروة في نهاية عام 2020".
وقال: "إذا أضفنا إلى ذلك تباطؤ نمو إنتاج النفط الكندي الرملي، وانخفاض إنتاج النفط الروسي وبعض الدول خارج أوبك، الذي وصل في 2018 إلى مليوني برميل يومياً، فإن ذروة إنتاج النفط الصخري مع إنتاج النفط خارج أوبك سيصل إلى 63 مليون برميل يومياً في العام المقبل".
وأضاف: "أن هذا يعني أن إنتاج أوبك ربما سيزداد إلى أكثر من 6 ملايين برميل لتعويض ارتفاع الطلب في 2023، الذي يتوقع أن يصل إلى 1.3 مليون برميل يومياً. ويبقى هناك الفائض الحالي الذي ربما سيستمر حتى نهاية 2019، خصوصاً إذا فشل التزام أوبك في مقاطعة إيران وفنزويلا".
واستنتج بهبهاني من ذلك أن النفط الصخري مجتمعاً مع الإنتاج خارج أوبك لن يكون تحدياً، حتى على المدى المتوسط (6 سنوات)، لإنتاج دول أوبك ذات العمر الأطول والإنتاج الأسهل. قد يكون هناك تحدٍ نفسي خلال الخمس سنوات المقبلة بالإعلان عن زيادة منصات حفر وتكنولوجيا جديدة، مما قد يتسبب في تقلبات عنيفة للأسعار.
من جانبه قال الخبير النفطي الكويتي محمد الشطي: "بلا شك أن معدل الزيادة السنوية في النفط الصخري كبير ومستمر، ولا يقدم فرصة للزيادة في النفط التقليدي، وهذا هو السبب الرئيسي في ضعف الأسعار، ولكن مع ارتفاع الطلب العالمي وعدم الاستقرار السياسي في عدد من البلدان المنتجة للنفط في أوبك، مثل ليبيا ونيجيريا وفنزويلا وإيران، فإن تلبية الزيادة في الطلب على النفط، جاءت في السنوات الأخيرة، من النفط الصخري. ولولا ذلك لكانت أسعار النفط قد ارتفعت بشكل كبير".
وأضاف الشطي: "أن التوقعات الحالية تقول إن النفط الصخري يستمر في الارتفاع حتى يبلغ ذروته في عام 2025، وبالتالي فإن الحاجة للنفط التقليدي سترتفع بعد ذلك لسد الزيادة من الطلب العالمي".
وأوضح الشطي أن التأثير المباشر للنفط الصخري يتمثل في نقطتين أساسيتين: الأولى، تقليص حصة النفط التقليدي في السوق، وبالتالي الضغط على الأسعار، يعني تقليص الإيرادات بالنسبة لموازنات الدول المنتجة. والثانية زيادة أجواء التنافس في الأسواق، خصوصاً أن صادرات النفط الصخري الأميركي أصبحت تقترب من مليوني برميل يومياً، ويتم تصريف غالبها في أسواق آسيا رغم الاختلاف في النوعية، إلا أنه يؤثر على ارتفاع المعروض في أسواق الشرق بشكل عام".
وخلص الشطي إلى القول "إنه لا يمكن التعامل مع النفط الصخري وهو يمثل تحديا لا يمكن مواجهته إلا من خلال ارتفاع الطلب على النفط الذي يمكن أن يستوعب حجم الزيادة، خصوصاً أن المسؤول عن إنتاج النفط الصخري هي الشركات الأميركية، وهي لا تراعي تقييد الإنتاج بغرض استعادة توازن السوق إذا احتاج الأمر، فهي تنتج وفق الجدوى الاقتصادية، وبالتالي الإنتاج بأقصى مستوى".