طوَّر البشر منذ آلاف السنين فكرة المساحات المعمارية لتصبح مكاناً مهيأ للعلاج واستعادة القوة الجسدية من خلال تزويدها بإضاءات طبيعة وتضمين النباتات والمكملات التي تحفز العملية العلاجية، وقد اعتمد المهندسون في تصاميم المدن والمباني إلى الحد من انتشار الأمراض المعدية بطرق مختلفة، فقد كان من المعتاد أن تتدفق مياه الصرف الصحي من المباني مباشرة إلى شوارع المدينة.
وحتى تفشي وباء الكوليرا الحاد في لندن في خمسينيات القرن التاسع عشر، حيث أثبت الطب أن مياه الشرب الملوثة تسببت في هذه الوفيات، فقد أدى ذلك في نهاية المطاف إلى حركة إصلاح عمرانية حسنت مياه الشرب والبنية التحتية للصرف الصحي، وقد أدت هذه الحركة العالمية إلى شوارع أكثر استقامة وأوسع نطاقاً لتثبيت أنظمة الأنابيب تحت الأرض والتي يمكن غسلها وتنظيفها. ولا تزال عمليات التصميم قيد التطوير يوماً بعد يوم، وفي الحين ذاته لا تزال شركات الأدوية والتجار يبيعون المنتجات التي يعتقد أنها تعقم وتحد من انتشار العدوى بين الناس.
وفي الآونة الأخيرة ومع التقدم في علوم الفيروسات والجراثيم والأوبئة والطب في القرنين التاسع عشر والعشرين، أصبحت المضادات الحيوية ومنتجات التعقيم الشخصية في الخطوط الأمامية للأمراض المعدية.
لكن مع ظهور أمراض جديدة، مثل "كوفيد-19"، وعدم وجود لقاحات أو علاجات لمكافحتها، فإن أحد الحلول الأكثر فعالية هو العودة إلى السلوك وخلق المساحات الشخصية، عبر التباعد الاجتماعي والحجر الصحي والعزلة، وربما التكيف مع مدننا والأحياء والمنازل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فعندما ينتقل الفيروس من مدينة إلى مدينة أخرى في غضون ساعات وينتشر بشكل غير قابل للسيطرة فإن الشيء الوحيد الذي اتفقت عليه دول العالم هو "الحجر الصحي"، والذي تعود فكرته إلى ممارسات تاريخية قديمة في العصور الوسطى وكثير من الحضارات الأخرى، ما يعني أن العمارة والتصميم الحضري هما الوسيلة الأكثر فعالية للسيطرة على انتشار الوباء!
إنها غريزة فطرية أن تنأى بنفسك عن الخطر بوضع مسافة فاصلة للحد من ذلك، وهي لب المعنى المراد لكلمة" حجر صحي"، والتي تدل على تقييد حركة الشخص والاعتزال عن المحيط.
ولغوياً فإن كلمة الحجر الصحي باللغة الإنجليزية Quarantina تعني باللاتيني أربعين وهي المدة التي عملت عليها مدينة البندقية في إيطاليا أثناء تفشي وباء الطاعون في أوروبا الوسطى، وعندما تصل السفن إليها فإنها كانت ترسو على شواطئها 40 يوماً قبل أن ينزل طاقم السفينة إلى البلاد.
يقول المعماري جيف مانوGeoff Manaugh ، "الحجر الصحي هو حاجز مكاني، إنه حاجز زمني، إنها تقريباً خوارزمية لإضافة المكان والزمان ومنع شيء ما من مواجهتنا على الفور. ظل هذا على حاله على مر القرون".
وعندما وصل رواد الفضاء من مهمة "أبولو 11" الشهيرة من القمر، قامت وكالة "ناسا" بعزلهم في مقطورة خاصة لمدة 21 يوماً بسبب الاحتياطات من البكتيريا أو الكائنات الحية التي ربما عادوا بها من الفضاء!
وكانت تجربة الولايات المتحدة في العزل الصحي عندما سجنت مصابي مرض نقص المناعة في خليج غوانتانامو، والجزر المحيطة بمدينة نيويورك والتي كانت تُستخدم لاحتجاز مرضى الجدري وأصحاب الأمراض المعدية.
سعودياً، ومع موسم الحج وتوافد الحجاج من بقاع الأرض، فقد عُرفت في الحجاز سابقاً محاجر صحية في جزر قريبة من مدينة جدة كانت مجهزة بغرف ومستشفى وخدمات تتسع لـ600 حاج تقريباً، وبعدها وجه الملك عبد العزيز عام 1370 هجرياً ببناء مدينة للحجر الصحي جنوبي جدة والاستغناء عن تلك الجزر. وتعد تلك المدينة أكبر محجر صحي في الشرق الأوسط آنذاك.
ومن نتائج هذا المشروع أن اعترفت منظمة الصحة العالمية بالتقدم الصحي في السعودية، وتم إلغاء الرقابة الدولية التي كانت تفرضها المنظمة على الحج وأوكلت المهمة كاملة للبلد الخليجي. وقد سُميت هذه المدينة بـ"المحجر"، وتشكلت بجوارها أحياءٌ سكينة يطلق عليها الآن "الكرنتينا"، وتعني الحجر الصحي كما ذكرت سابقاً، والآن أصبحت هذه المدينة هي مستشفى الملك عبد العزيز.