مع تمدد آثار جائحة كورونا العالمية، واتساع دائرة الاشتباه والعزل والإصابة محلياً، انتشرت في السودان ظاهرة الدجل والتنجيم والشعوذة والخرافة بصورة كبيرة، وازداد اللجوء إلى الدجالين والمشعوذين، مع تنامي حالة القلق والهلع والشعور بالعجز، وسط المجتمع، الذي بدأ كالغريق المتشبث بقشة الخلاص بالعلاج أو الوقاية حتى لو عند بوابات الغيب. سيل من إشاعات وروايات التنجيم ورؤى المنام بالمعجزات والخوارق، سيطرت على الشارع السوداني، طوال الأسبوع الماضي، يدعي أصحابها أنها وصفات وقاية وعلاج من الفيروس المستجد.
وصفات غريبة
وسط أجواء كورونا المسيطرة على المشهد والعقول، تداولت وسائل التواصل الاجتماعي بكثافة رواية مفادها أن طفلاً حديث الولادة، في إحدى ولايات السودان الطرفية، نطق وهو في مهده بعبارة مات بعدها، أخبر فيها الناس أن علاج فيروس كورونا، يكمن في تناول كوبين من الشاي الخالي من السكر، قبل شروق الشمس، مع صلاة ركعتين لله.
وسرعان ما طار الخبر بين الألسن وراج في كل الأوساط، فهُرع كل من سمع إلى السوق، بحثاً عن الشاي، ما أدى إلى ارتفاع أسعاره، واختفاء بعض أنواعه.
وقد نشط هؤلاء الدجالون في الترويج لما سموه وصفات علاجية ذات بعد روحي، فبث أحدهم رسالة تطالب الناس بتخضيب أرجل الأطفال بالحناء "من أجل أن يرفع الله هذه المحنة، ويبعدها عن السودان".
وفي رواية ثالثة، أن أحد الصالحين رأى في منامه، "أن على الناس ربط تمائم وقلائد مفاتيح على أعناق الأطفال الصغار حتى يصرف الله هذا البلاء".
كما راجت على الصعيد نفسه، رواية تقول إن سيدة رأت في منامها رسول الله (محمد صلى الله عليه وسلم) يوصي فيها بالبحث عن شعرة (سبيبة) صغيرة، بين آيات سورة البقرة بالمصحف الشريف، توضع داخل كوب من الماء، ثم يُشرب كعلاج من الفيروس المستجد. كما كثُرت الرسائل والفيديوهات التي تقدم وصفات متباينة للعلاج، كالإكثار من أكل أنواع محددة من الثمار، وتدعو الناس إلى التعرض للشمس منتصف النهار للتعقيم الكامل، والدعاء على كورونا بالهلاك العاجل.
جهل وانسياق
عزا الدكتور أحمد الرشيد عشنوق، الذي يعمل بمركز للعلاج بالرقية الشرعية، في حديثه إلى "اندبندنت عربية"، تفشي ظاهرة اللجوء إلى الدجل والشعوذة، إلى حالة القلق والتوتر التي يعيشها المجتمع، حيث يلجأ الناس عند الجوائح والمحن إلى الغيبيات والروحانيات، بل وحتى إلى الشياطين والجن أحياناً، نتيجة لضعف الإيمان. وكشف أن كثيرين لجأوا إليه، مصدقين إشاعة سبيبة الشعر بالمصحف، مؤكدين أنهم وجدوها، وأن الكثيرين استجابوا إليها، وبخاصة النساء.
وكشف أن رواية العلاج بالشاي وجدت رواجاً كبيراً، على الرغم من أنها ضعيفة الحبكة. إذ لا علاقة بين مكونات الشاي وأمراض الصدر والجهاز التنفسي، وأن الأمر كله يعود إلى نوع من ضعف الوعي بسبب الضغوط التي يعيشها المواطن، واستغلال المشعوذين حالة البلبلة والارتباك، فانتشروا يفترشون الأرض، بمناطق طرفية عدة والأسواق الشعبية، يعرضون أشياء غريبة، بعضها أعشاب وأطراف حيوانات، كالأسنان وبقايا عظام وبعض الحجارة الغريبة الشكل.
وأضاف أن العديد من الدجالين كثفوا وجودهم هذه الأيام وانتشروا يدعون قدرتهم على علاج كورونا بعمل التمائم والأحجبة والتعويذات، التي يزعمون أنها تقي من الإصابة، بل إن هناك من ادعى تحصين الأشخاص بالسحر، الذي هو نوع من العلاقة التعاقدية بين الجن والبشر، وهو عمل خبيث يدخل في قائمة المحظورات.
محاربة الظاهرة
وفي السياق نفسه، طالب مصدر قانوني بضرورة تفعيل القوانين المحلية لمحاربة ظاهرة الدجل والشعوذة والتنجيم، للحد من رواجها وشيوعها، بوضع عقوبات رادعة في مواجهة ممارسي تلك المهنة، مبيناً أن تلك الأعمال تنطوي على الاحتيال وتستغل جهل المجتمع وتعمقه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقال لـ "اندبندنت عربية" إن هناك العديد من المخالفات الشرعية في عمل مراكز العلاج بالقرآن والسنة، على رأسها عدم جواز التفرغ، الذي يجعل صاحبه وكأنه اختصاصي في الدعاء المستجاب وهو خطأ، مع عدم جواز استخدام البخور لأنه يدخل في خانة الدجل، وعدم الضرب والخلوة غير الشرعية مع النساء.
وطالب الجهات الرسمية بحماية المهتمين والمتخصصين في العلاج بالقرآن والسنة، من تغوّل الدجالين والمشعوذين والمحتالين، بصورة جعلت من الصعب التمييز بينهم وبين غيرهم.
البحث عن ملاذات
على صعيد متصل، قالت الدكتورة عالية مدني، الاختصاصية الاجتماعية، إن هذه الظاهرة تنمو في الأجواء التي يسيطر عليها الخوف والقلق كما هو الآن، مما يدفع البشر للبحث عن ملاذات للأمان وطمأنينة الذات، بخاصة عند الشعور بالحيرة والفشل في إيجاد حلول لهذا المرض المميت، وقد تكون الظاهرة بمثابة عمل تعويضي أمام واقع عاجز عن التصدي والحماية. وأضافت لـ "اندبندنت عربية" أن الثقافة السودانية لا تخلو من مثل تلك المعتقدات المرتبطة بالخُرافة والمعجزات.
ونادت بضرورة تكثيف العمل التوعوي لمحاربة كل مظاهر الدجل والشعوذة، مشددة على أهمية التعامل مع جائحة كورونا من المنطلق العلمي، ووفقاً للموجهات الصحية التي تشكل صمام الأمان لعبور هذه المرحلة. ونوهت إلى أن الانسياق وراء أوهام الدجالين قد يتسبب بنتائج عكسية، تضر بالخطط التي وضعتها جهات الاختصاص.
رواج مستتر
ويبدو تأثر كثيرين من السودانيين بهذه الظاهرة واضحاً في تفاصيل حياتهم وتعاملاتهم اليومية، وتطبيع علاقاتهم معها، في منطقة وسط، من دون رفض قاطع، أو موافقة صريحة، بما يشبه المجاراة، مما شجع الدجالين على توسيع دوائر الترويج لادعاءاتهم بعلم الغيب وقدرتهم على التنبؤ، وطرد الأرواح الشريرة والعلاج بما يسمى السحر الأسود، بل وإيجاد الحلول لكل مشاكل الناس.
وتشكل الأحياء الشعبية والنائية في أطراف المدن، بعيداً عن الأنظار، مكاناً مفضلاً لسكن وعمل معظم الدجالين والمشعوذين، منفردين بضحاياهم، متخذين من مظاهر البساطة والتقليدية، كالخيام والرواكيب والأكواخ، ستاراً ومكاناً آمناً لممارسة نشاطهم، كما يعملون على نشر أرقام هواتفهم للمزيد من التواصل وتوسيع رقعة أعمالهم وخدماتهم.
ولا تقتصر الفئة الغالبة في التعامل مع الدجالين والعرافين على عامة الناس فحسب، بل إن بعض المسؤولين ومشاهير المجتمع في مجالات الفن وكرة القدم، وكل من يبحث عن الثراء السريع، يترددون إليهم باستمرار، طلباً لخدماتهم بأمل الحفاظ على مكانتهم وشهرتهم. كما يستدعونهم إلى أماكن خاصة بعيداً عن الناس مقابل مبالغ مالية كبيرة.