المنحى الذي أخذه تعاطي الحكومة اللبنانية برئاسة حسان دياب ومعالجاتها لشؤون الدولة والإدارة والأزمات، لا يبدو أنه يختلف بشيء عما اتصفت به الحكومة السابقة برئاسة سعد الحريري، فالخلافات تعصف بها نتيجة التزاحم على المحاصصة، ما يؤدي إلى تجميد عملها في بعض المجالات، فتتأخر في إيجاد الحلول للمشكلات العويصة والكبرى التي يغرق فيها لبنان، من وباء كورونا والأزمة المالية الاقتصادية، فتزداد حدة وخطورة على الوضع المعيشي وعلى المستوى السياسي.
تعطيل الحكومة وشللها بسبب الخلافات كان إحدى الحجج الرئيسة التي برّر فيها الحريري استقالته، فإذا بحكومة دياب التي جاءت على أنقاضها تنغمس بالمشكلة نفسها، على الرغم من أن الإتيان بوزراء تكنوقراط بعضهم سمتهم أحزاب وغيرهم من "المستقلين"، كان بمثابة وعد بأن هؤلاء سيرجحون أداء مختلفاً.
رؤساء الحكومة السابقون وانضمام الحريري
ما دلّ إليه تأجيل دياب البند الخلافي المتعلق بالتعيينات المالية، والتي هي مسألة جوهرية بالنسبة إلى معالجات الوضع المالي المأزوم في لبنان في جلسة مجلس الوزراء، الخميس، الثاني من أبريل (نيسان)، أن الخلاف على الحصص علّق ملء مناصب مهمة لها دورها في إيجاد الحلول، فتعيين نواب حاكم مصرف لبنان، وهيئة الرقابة على المصارف، ومفوض الحكومة، وهيئة الأسواق المالية التي باتت شاغرة بانتهاء ولاية شاغليها، مواقع مولجة بوضع وتنفيذ سياسات مالية ونقدية آنية واستراتيجية في ظل التباينات بين السياسيين في شأن هذه السياسات، فالتأجيل حصل على خلفية مقاطعة وزيري تيار "المردة" الذي يرأسه سليمان فرنجية بعدما اشترط الحصول على منصبين من أصل ستة مناصب مسيحية في الهيئات الثلاث، بينما يرغب "التيار الوطني الحر" ورئيس الجمهورية ميشال عون حصد خمسة منها وترك واحد فقط لفرنجية مع استبعاد القوى المسيحية الأخرى (حزب القوات اللبنانية والكتائب) التي لم تطلب شيئاً مشددة على وجوب اعتماد آلية لتعيين الأكثر كفاءة بدل المحاصصة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كما أن التأجيل جاء على خلفية اعتراض تيار "المستقبل" على استبعاد النائب السابق لحاكم مصرف لبنان محمد بعاصيري عن التعيينات ورفض الرئيس الحريري ذلك ومعارضته حصر تعيين المرشحين السنة بالرئيس دياب، وتولي رئيس "التيار الحر" النائب جبران باسيل اقتراح أسماء سنية على دياب، ما أثار رؤساء الحكومة السابقين نجيب ميقاتي، وفؤاد السنيورة، وتمام سلام والحريري، الذين أصدروا بياناً مشتركاً الاثنين الماضي دعا إلى "تحقيق الإنقاذ بعيداً عن أحلام السيطرة والاستئثار والانتقام والتحكم بالدولة ومواقعها".
وعلمت "اندبندت عربية" أن بيان الرؤساء السابقين الأربعة جاء بناء لاقتراح من الحريري نفسه الذي يدخل للمرة الأولى إلى هذا النادي وتحركاته السياسية، فنسق الأمر معهم من منزله في باريس، بعدما أثار تولي عون وباسيل ترتيب التعيينات حفيظته، وسط معلومات بأن الأخير كان يجري مقابلات مع مرشحين سنة ويرسلهم إلى دياب للاختيار من بينهم، هذا على الرغم من أن الأخير نفى عبر مصدر في "التيار الحر" أن يكون طرح أي اسم لحاكمية مصرف لبنان.
جدية فكرة الاستقالة من البرلمان والانتخابات المبكرة
وأوضحت مصادر نيابية لـ "اندبندت عربية" أن الحريري أجرى آخر الأسبوع الماضي ومطلع هذا الأسبوع، اتصالات مع كل من رئيس البرلمان نبيه بري، وقيادة "حزب الله" للاعتراض على هذه التعيينات، وبلغ الأمر حد تلويحه باستقالة كتلته النيابية (18 نائباً) من البرلمان احتجاجاً على ما اعتبره تعيينات كيدية، ومجحفة في حق التمثيل السني، باعتباره يمثل أكثرية السنة.
وسرت أنباء بأن الحريري أكد في الاتصالات التي تلت أنه جدي في خيار الاستقالة من البرلمان، وأن الرئيس ميقاتي قد يجاريه في هذه الخطوة التي ترجح عندها الدعوة إلى انتخابات نيابية مبكرة، باعتبار أن غياب الكتلة النيابية السنية الأكبر تفرض اتجاهاً من هذا النوع لا الاكتفاء بملء مقاعد من يستقيل من النواب، وهذا قد يؤدي، بحسب الأوساط المواكبة لموقف الحريري، إلى تعديل في الأكثرية النيابية وإلى انخفاض حجم الكتلة النيابية لـ "التيار الحر" التي كان حاز فيها على أكثرية المقاعد المسيحية وأكبر كتلة نيابية، فيضعف العهد الرئاسي، ويسهل عندها طرح مسألة تقصير ولاية الرئيس عون.
حصة السنة ودياب
ومع أن هذا السيناريو ليس قابلاً للتطبيق في ما يخص الرئاسة، بالنسبة إلى العديد من الأوساط السياسية المسيحية، فإن بري قارب الأمر من زاويتين، الأولى هي الحرص على عدم انعكاس الاعتراض السني على التعيينات على العلاقة الشيعية السنية باعتبار أنه و"حزب الله" يدعمان حكومة دياب، وأن الحزب هو الحليف الأول لعون، فالرئيس بري يدرك المعنى العميق لتوافق رؤساء الحكومة السابقين الأربعة على الموقف من التعيينات المالية، وهو يعرف أنه إذا كانت التعيينات ستتم بالمحاصصة، ليس الرئيس دياب هو الذي يعبر عن حصة السنة في هذا المجال.
والزاوية الثانية هي أن بري تضامن، والحزب، مع مطلب حليفه فرنجية برفض استئثار باسيل بالحصة المسيحية، وانزعج من مسايرة دياب لـ "التيار الحر" في بعض المرشحين، بمن فيهم من الشيعة، بعد أن كان اختلف مع رئيس الحكومة في مسألتين هما مشروع قانون الـ "كابيتال كونترول" لتشريع سحوبات المودعين لأموالهم بالعملة الصعبة من المصارف، والذي عدّله دياب خلافاً لصيغة وزير المال غازي وزني، ما حمل الأخير على سحبه، والخلاف على تسريع إعادة المغتربين والطلاب الراغبين بالعودة من الخارج، وأضاف الموقف السني سبباً لاتخاذ موقف من التعيينات، على الرغم من أن دياب سلّم بحصة بري.
عون والتخلص من بري والحريري وجنبلاط
وكان بيان رؤساء الحكومة السابقين، أعطى مبرراً أبعد مدى للموقف من التعيينات، يتعدى قضية الحصص في التعيينات، حين دعا إلى "إعادة الاعتبار والاحترام لاتفاق الطائف والدستور" بعد أن كان حذر من "الرغبة في السيطرة على المواقع الإدارية والمالية والنقدية للدولة اللبنانية بغرض الإطباق على الإدارة الحكومية"، ملمحاً بذلك إلى ما يعتقدونه اتجاهاً لدى الرئيس عون وفريقه، لتعديل توزيع الصلاحيات الذي أرساه اتفاق الطائف بالممارسة، لتعذر ذلك بالدستور، وهو ما جعل كتلة "المستقبل" النيابية تؤكد أن "هناك مواقع في الدولة ومصرف لبنان تحديداً، لن نرضى بأن تكون لقمة سائغة لأي جهة مهما علا شأنها، وأي محاولة للتلاعب فيها أو تقديمها هدايا مجانية لهذا أو ذاك لن تمر مرور الكرام".
تستند حدة هذه المواقف إلى معطيات لدى أطراف امتنعت عن المشاركة في حكومة دياب، بأن فريق عون يعتبر أنه منذ استقالة الحريري في 29 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي تحت ضغط الانتفاضة الشعبية، واتهامه باسيل بالتسبب بفشل حكومته في تطبيق الإصلاحات والتصحيح المالي، قطع أي إمكانية للتعاون معه، وأن الساحة خلت له من أجل ضرب نفوذ الحريرية السياسية في الإدارة، وكذلك الأمر حيال فرقاء آخرين لهم مواقف سلبية من رجله المفضل، باسيل، كمرشح لرئاسة الجمهورية، فمحيط الرئيس عون يعتبر أن إخراج باسيل من التركيبة الحكومية بناء لإصرار الحريري والقوى الأخرى، يقابله فرصة خروج الحريري من السلطة، لإنهاء وجوده في مواقع إدارية مهمة عائدة للطائفة السنية، ولإضعاف قوى أخرى شاركها هذا النفوذ مثل الرئيس بري والنائب السابق وليد جنبلاط، وهذا ما يفسر المنازلة حول التعيينات.
حكومة التكنوقراط تخضع للتجاذبات السياسية
وفي وقت هناك قراءة أخرى للخلاف على التعيينات، تقول إن "حزب الله" يسعى من خلال حليفه عون إلى التخلص من وجود الحريرية السياسية في المواقع الرئيسة في الإدارة، لا سيما مصرف لبنان، المعنية هيئاته بتطبيق العقوبات الأميركية عليه، فإن أصحاب هذا الرأي يعتبرون أن لا إمكانية لدى أي مسؤول من الذين سيتم تعيينهم في المواقع المالية أن يحول دون تطبيق العقوبات، لأن تداعيات ذلك على لبنان المزيد من التطويق لقطاعه المصرفي ولمصرف لبنان أيضاً من الجانب الأميركي، وإذ يستند أصحاب هذه القراءة إلى أن واشنطن أبدت حرصها على بقاء النائب السني لحاكم البنك المركزي محمد بعاصيري، وأن الحزب يؤيد تغييره لهذا السبب، الاعتقاد السائد هو أن من سيخلفه لن يكون أقل تعاوناً مع واشنطن بحكم الأمر الواقع، الذي يفرض انسجام لبنان مع العقوبات، مخافة توسعها فتشمل مؤسسات في الدولة اللبنانية إضافة إلى الحزب.
سواء صح هذا التفسير أو ذاك للمعركة على التعيينات، فإن الحصيلة هي أن الأسبوعين الماضيين كشفا أن الحكومة خاضعة للقوى السياسية التي جاءت بها على الرغم من أن رئيسها تحدث عن "استقلالية الحكومة عن التجاذب السياسي" في بيان إعلان تشكيلها، فالرئيس بري هدد بالانسحاب منها عند الخلاف على إعادة المغتربين، وفرنجية لوح باستقالة وزيريه إذا لم يحصل على مطلبه بتعيين اثنين من مرشحيه، و"حزب الله" تولى تنظيم المخرج لتأجيل الخلاف، بالإيحاء إلى دياب بسحب التعيينات من جدول الأعمال.
وعلى الرغم من تبرير دياب سحبه بند التعيينات، بالقول إن الطريقة التي تحصل فيها "لا تشبهنا جميعاً كحكومة تكنوقراط"، فإن تسلسل الأحداث كرس القناعة باستحالة "استقلالية" الحكومة عن إطار الصراع على النفوذ بين المواقع التقليدية في السلطة السياسية. ولجوء دياب إلى إعداد آلية قانونية لتعيين الأكفأ، يؤجل هذا الصراع من دون أن يلغيه.