أمام حجم الاستحقاقات المالية التي فرضتها الأزمة على حكومة روحاني، ذهبت إلى خيار الاستدانة من صندوق النقد الدولي بالتوزاي مع إطلاق حملة دولية للضغط على الإدارة الاميركية لوقف العقوبات، شارك فيها الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش والرئيس الروسي فلاديمير بوتن والفرنسي إيمانويل ماكرون والحكومة البريطانية وأعضاء ديمقراطيين في مجلس الشيوخ، في مقدمتهم المرشح للانتخابات الرئاسية بيرني ساندرز. إلّا أنّ إدارة ترمب ذهبت إلى الضغط على صندوق النقد لعرقلة أي إجراء يسمح لإيران بالحصول على المبلغ الذي تطلبه بقيمة 5 مليارات دولار، في وقت لجأت بعض الدول الغربية وروسيا لتفعيل آلية التعامل التجاري مع طهران "انستكس" على الرغم من التحذيرات الأميركية من ذلك، مع العلم أن الديون الخارجية الإيرانية تبلغ نحو 9 مليار و53 مليون دولار حسب المعلومات التي نشرها البنك المركزي الإيراني أواخر العام الماضي 2019. وهي ملتزمة بالسداد سنوياً بواقع مليار ونصف المليار، ما ساعدها حتى الآن في مواجهة العقوبات، وعلى الرغم من أنّ هذا الحجم من الديون وطلب القرض الجديد، قد لا يُعتبران رقماً كبيراً على حجم الاقتصاد الإيراني والثروات التي يمتلكها، إذا ما توقّفنا أمام قدرة البنك المركزي على توفير نحو 39 مليار و200 ألف دولار لصالح الاستيراد في ظل العقوبات الأميركية.
في المقابل، يدور جدل داخل القطاع الاقتصادي الإيراني حول مسألة اللجوء إلى الاستقراض من صندوق النقد قبل أن تعمد الحكومة لاستنفاذ كل الخيارات الاقتصادية الممكنة والمتاحة لمواجهة تداعيات كورونا، وتقدير حجم الخسائر الاقتصادية التي قد تنتج منها وإمكانية أن يمتلك الاقتصاد والمصادر الداخلية قدرة تعويضها، عندها لا حاجة إلى الاستدانة ويمكن الاستعاضة عنها باعتمادات من البنك المركزي وسندات مالية، أو أن تلجأ الحكومة في حال قدّرت عجزها عن تأمين المصادر المالية لمواجهة هذه الأزمة إلى الاستدانة من الدول التي كانت تصدّر لها النفط على أن تعقد اتفاقيات معها تقضي بأن يكون السداد من خلال الحصول على النفط، إضافةً إلى تفعيل حملة الضغط الدولية لكسر العقوبات. ويبدو أنّ حكومة روحاني ذهبت إلى اعتماد جميع هذه الخيارات بما فيها خيار الاستدانة من صندوق النقد، على الرغم من الآثار السلبية الممكنة لهذا القرض وتأثيره السلبي في التضخم الذي قد يتّجه نحو الارتفاع، وهو ما يمكن أن لا تهتمّ به الحكومة لصالح الاستمرار في تشغيل العجلة الاقتصادية والإنتاجية والخروج من الركود ومنع استمرار حالة التعطيل النصفي للقطاعات الإنتاجية، ما أكده روحاني بشكل غير مباشر عندما رفض إعلان حالة طوارئ صحية وشدّد على ضرورة استمرار العجلة الصناعية والإنتاجية.
بين تحصين الداخل وتعزيز الدور الخارجي
أمام الانشغال الداخلي لحكومة حسن روحاني بمواجهة التداعيات الاجتماعية والاقتصادية لجائحة كورونا، يبدو أنّ النظام الإيراني على المستوى الإقليمي أمام خيارات صعبة ومعقّدة، خصوصاً في ما يتعلّق بالجانب الاقتصادي والمالي، فمن المعروف أنّ النظام يخصّص جزءًا مهماً من مصادره المالية لتوفير الدعم للفصائل والأحزاب الموالية له في منطقة غرب آسيا، بخاصة في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين واليمن، فضلاً عن أفغانستان، وأنّ هذه المبالغ المالية تسبّبت في تحميل الاقتصاد والميزانية الإيرانيين أعباء كبيرة جراء الاستقطاع الذي يتم لصالح هذه الفصائل إن كان على مستوى التسليح أو على مستوى الدعم المالي المباشر.
وفي ظل الحاجات الملحّة والمصيرية التي فرضتها أزمة كورونا، سيكون النظام أمام واحد من خيارَيْن، إما أن يرجّح الداخل وما يعنيه هذا من قطع الطريق على إمكانية انفجار الشارع الشعبي في حال تفاقمت الأزمات الاقتصادية وعجزت الحكومة والنظام عن إيجاد العلاجات الفاعلة للتداعيات السلبية لهذه الأزمة، وإما أن يستمر في الاستثمار في الخارج انطلاقاً من اعتبار هذا النفوذ صلب المعركة مع الإدارة الأميركية وأن أي تراجع أو ضعف قد يفتح الطريق أمام الإطاحة به والقضاء عليه وعلى مصالحه التي استثمر فيها إقليمياً على مدى العقود الأربعة الماضية، خصوصاً أنّ الأصوات المعترضة في الداخل، تحديداً في كلّ التحركات المطلبية التي شهدتها إيران في الأعوام الأخيرة منذ 2016 حتى أواخر العام الماضي وأزمة البنزين، كانت تتردّد فيها شعارات تنتقد وتدين الدعم المالي الذي تقدمه طهران إلى النظام السوري الذي كلّف البلاد خلال الأعوام الثمانية الماضية حوالى 40 مليار دولار، فضلاً عن اتفاقيات تجارية واقتصادية لا تحصل منها إيران سوى على الفتات، إلى جانب المبالغ الكبيرة التي تُقدّم إلى الفصائل العراقية وحزب الله اللبناني والحركات الفلسطينية، وصولاً إلى جماعة الحوثي في اليمن، والتي تتجاوز قيمتها الملياري دولار سنوياً.
رؤية طهران الاستراتيجية خارجية وليست داخلية
إلّا أن طبيعة النظام، قد لا تدفعه إلى تغيير هذه السياسات والتخلّي عن عملية دعم هذه الفصائل، خصوصاً أن رؤيته الاستراتيجية تقوم على أن تعزيز الدور الإقليمي وتكريس النفوذ في المنطقة، سيسهمان في تحويله إلى قوة إقليمية ستكون قادرة على فرض شروطها أو على الأقل منع الجانب الأميركي أن يفرض شروطه عليه وبالتالي الاعتراض به كشريك إقليمي ودولي في منطقة غرب آسيا، وأن أي تراجع في هذا الموقف قد يتسبّب في خسارة مزدوجة له في الخارج بإعادته إلى داخل حدوده، ومواجهة داخل متفجّر قد لا يضعه أمام مصير مجهول فقط، بل قد يؤدي إلى تفكيك إيران إلى دويلات عدّة.
قد لا يكون النظام قادراً على مواجهة كل التحديات على جميع الجبهات في ظل ما يتعرّض له من أزمات، أُضيفت إليها مسألة كورونا، فقد استطاعت واشنطن ومعها الدول الأوروبية إخراج إيران بهدوء من السوق العالمية للنفط من دون أن يتسبّب ذلك في إيجاد أزمة عالمية على هذا القطاع وأسعاره، واستطاعت واشنطن أيضاً رفع مستوى التوتر في المحيط الإيراني، خصوصاً في مياه الخليج على الرغم من كل الأعمال التي قامت بها طهران إن كان في استهداف ناقلات النفط في ميناء الفجيرة أو منشآت شركة أرامكو أو إسقاط الطائرة الأميركية المسيّرة، إلّا أنها لم تستطع تحويل كل هذا إلى معطيات ميدانية تخفّف ما تعاني منه وتواجهه من مخاطر ومستقبل غير معروف، ثم استطاعت واشنطن زعزعة الأرضية التي تعتمد عليها في كل من العراق ولبنان والمصير المهجول للأزمة السورية على الرغم من التدخل الروسي، وكل هذا جاء في ظل تراجع قدرة إيران على الرد أو التصعيد، فهي تدرك تبعات ذلك عليها في الداخل وسط اقتصادها الهش وأن أي ضربة يتعرض لها الاقتصاد، ستنتج منها حالة من التضخم الانفجاري غير قابل للسيطرة، ما يعني أن المرحلة المقبلة قد تفرض على النظام الإيراني البحث عن آليات عمل وتعامل جديدة بعد فشل كل السياسات التجريبية التي اعتمدها طوال العقود الأربعة الماضية في حال قرّر التعايش مع المستجدات الدولية والتداعيات التي ستنتج من جائحة كورونا التي يبدو أنّ اتفاقاً دولياً بات قائماً على أنّ ما بعدها ليس كما قبلها على صعيد النظام الدولي وأنها قد تؤدي إلى إنتاج يالطا جديدة لمراكز القوى الدولية على غرار ما حصل في يالطا بعد الحرب العالمية الثانية، إذا ما أرادت أن يكون لها موقع على الخريطة الدولية الجديدة.