أطلق الأمين العام للجامعة العربية أحمد أبو الغيط نداءً مهماً بضرورة توقف الصراعات المسلحة المستمرة في المنطقة، داعياً إلى التفرغ لمواجهة الوباء الخطير كورونا "كوفيد 19"، كما أطلق الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش نداءً عالمياً مماثلاً، وكلا المسؤولين الدوليَين الرفيعين المعنيين بحفظ السلم والأمن وقضايا التعاون الدولي لا بد أن ينجذب اهتمامهما إلى خطورة تفشي الأوبئة في مناطق الصراعات والنزوح، خصوصاً في مخيمات النازحين السوريين، إذ تتردى مستويات المعيشة والرعاية الصحية ويتكدس آلاف البشر، وبينهم الأطفال وكبار السن الأكثر عرضة للإصابة، ما قد يهدد بكارثة إنسانية خطيرة.
والمفارقة أنه في هذه الحالة أن عمال وناشطي الإغاثة الإنسانية من الأجانب قد يصبحون هم أكبر تهديد للنازحين السوريين، الذين يتصادف مرور عشر سنوات على محنتهم العبثية. وما يترتب عليها في ظل الظرف الراهن من الآثار المباشرة التي قد تتمثل في عدم القدرة على إيصال المساعدات الإنسانية لو أدت إجراءات العزل وتقليل السفر ونقص موارد الدول المانحة ذاتها بسبب تداعيات الأزمة إلى العجز عن الوصول إلى مراكز الإغاثة.
على أن هذه المسألة من ناحية مدارس التفكير الاستراتيجي، وفيما يتعلق بأبعاد إدارة الصراعات والأزمات لها وجه آخر، وهو أن تكون هناك حسابات لبعض أطراف هذه الأزمة، أو كلها، باستغلال انشغال العالم بأزمة أخرى لمحاولة الإسراع بإنهاء الصراع كلٌّ لصالحه، أو فرض أمر واقع على الأرض لصالح هذا الطرف أو ذاك. وبالمناسبة هذا أمر معتاد تاريخياً أن ترى أطرافٌ، أو طرف واحد، أن انشغال العالم الخارجي بأزمة ما، فرصة لحسم الأمور لصالحها.
على سبيل المثال، هناك رأي رائج في مصر وفي أوساط أخرى عديدة، وله وجاهته، بأن إثيوبيا استغلت انشغال مصر بثورة 25 يناير (كانون الثاني) لمحاولة فرض أمر واقع فيما يتعلق بإدارة ملف مياه النيل، وترتيب الأمور بشكل يعقد الوضع فيما بعد. ومن ثمّ الفرضية التي نناقشها هنا هي كيف ستكون انعكاسات انكفاء العالم على إجراءات مكافحة كورونا فرصة لبعض الأطراف لترتيب أوراق الصراع الإقليمي بشكل مُواتٍ لصالحها؟.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هنا نلاحظ أن أكثر النماذج التي قد ينطبق عليها هذا في المرحلة الراهنة هي ليبيا وفلسطين واليمن، مع استمرار ترتيبات الهدنة في سوريا وهدوء جبهتها في المرحلة الراهنة، وهي بدورها ترتيبات هشة ومؤقتة لم تثبت بعد قدرتها على الصمود. أما الجبهة العراقية حيث التنافس (الأميركي – الإيراني) فهي حالة خاصة من التصعيد والكمون، ولكن معالجة الأمر في الحالة العراقية رغم وجود بوادر تصعيد أخيراً، ربما يمكن أن تتم في سياق آخر خاص بالانسحاب الأميركي المتوالي في أفغانستان والعراق تحضيراً للحملة الانتخابية، دون أن يمنع هذا من تأثر لا يمكن تجنبه من الانشغال الدولي والأميركي الراهن بشأن مواجهة انتشار الوباء.
وعموما نركز هنا على الحالات الثلاث سابقة الذكر؛ ففي ليبيا كانت الهدنة التي تم التوصل إليها منذ أسابيع قليلة هشة، وبدأت الانتهاكات بشكل سريع، ولم تتوقف تركيا عن إرسال المقاتلين السوريين، كما لم يتوقف عملاؤها من تيار الإسلام السياسي والمتحالف مع الميليشيات من اتهام الأطراف الأخرى والجيش الليبي باختراق الهدنة ومواصلة القتال.
وبعد انتشار كورونا تصاعدت بعض المخاوف الليبية، والدولية، حيث وجهت بعض الأطراف من المعسكرين الدعوة إلى هدنة والتركيز على مواجهة الوباء، وسرعان ما تم تجاهل هذه الدعوات لتشهد جبهة القتال تصعيداً ملحوظاً في الفترة الأخيرة، وربما ساعد على هذا أنه لا توجد معلومات تدعو إلى القلق من انتشار الوباء في الأراضي الليبية، على الرغم من أنه قد تكون تركيا بما تنقله من ميليشيات وليبيين عالقين في أراضيها أكبر مصدر تهديد لليبيا في هذا الصدد.
وفي الواقع أن ما يحدث يتفق مع إدارة أي صراع مسلح، وبما يتفق مع غياب شواهد لعدم التزام الطرفين بالترتيبات الهشة التي تم التوصل إليها في برلين، والتي ما كان يمكن لها الصمود، وذلك لعدة أسباب يتقدمها صعوبة تشكيل لجنة عسكرية مشتركة، والتي كانت جزءاً من ترتيبات مؤتمر برلين منذ شهور قليلة، إذ كان هذا يعني مشاركة أطراف من الميليشيات المتطرفة أو المتحالفين مع الأخيرة، وكلها أمور تجعل من هذه الترتيبات مستحيلة وغير قابلة للتطبيق والصمود في الواقع العملي. ثاني هذه الأسباب يرتبط بأن مقتضيات إدارة الصراع من الجانب التركي والمتضمنة الجبهتين السورية والليبية معاً، تفرض أن تُحرك أنقرة عناصر الميليشيات فيهما بشكل تحاول فيه الاستمرار كلاعب رئيس بداخلهما معاً. كما أن مواءمات ترتيباتها الهشة أيضاً مع موسكو في إدلب تفرض عليها مواصلة تحريك بعض العناصر إلى الجبهة الليبية تخفيفاً لضغوط موسكو عليها. وهذه قصة معقدة ربما تحتاج إلى عرض منفصل. بالنهاية الواضح أن هناك مراهنات في ليبيا الآن للاستفادة من هذا الانشغال الدولي والإقليمي، وهي مراهنات لا يمكن تجاهلها. ومن المهم هنا كذلك ملاحظة تخبط الإدارة التركية، المستنزفة في معارك خارجية عديدة، في معالجة أزمة كورونا داخلها.
أما في المواجهة (الفلسطينية – الإسرائيلية) فقد تم استغلال تفشي الفيروس في إسرائيل ليكون أحد العناوين الرئيسة لصفقة غانتس مع نتنياهو، ليعطي الأول ظهره لتحالفاته وتفاهماته مع القائمة العربية وبعض عناصر اليسار الإسرائيلي من ناخبيه للتحالف مع الخصم الذي كان إسقاطه هدف حملاته الانتخابية في الجولات السابقة. أما السؤال أين يضعنا هذا وكيف؟ فعلينا أولا العودة إلى المشهد الشاحب لغانتس، وهو يشارك في مؤتمر ترمب ونتنياهو لإعلان خطة الطرفين لتصفية القضية الفلسطينية، حاول البعض بعدها تبرير هذا بأن غانتس لم يكن يملك أن يقف بعيداً عن هذه الترتيبات الكبرى، وبعضهم أعطوا له العذر عندما عقدت جولة الانتخابات الأخيرة وعادت نغمة الحديث عن تحالف غانتس وحركة (أبيض – أزرق) مع القائمة العربية.
والحقيقة هنا أن فرص غانتس كانت مستحيلة بقدر استحالة فرص نتنياهو، فالاختلافات بين الكتلتين عبر الجولات الثلاث لم تكن تسمح في أي مرة لأي منهما بتشكيل الحكومة، واستمرت معضلة كتلة ليبرمان قائمة غير قابلة للحل، فهو يرفض التحالف مع الأحزاب الدينية المتطرفة حليفة نتنياهو، مثلما يرفض التحالف مع العرب، وكان السيناريو الوحيد العودة لصناديق الانتخابات التي لم يكن أحد على الإطلاق يتوقع شيئاً مخالفاً في نتائجها إلا تغيير في مقاعد محدودة لا تكفي من جديد لأي أغلبية. أما المحصلة التي تحتاج لتفصيل كبير فهي أن مخاطر التصرفات الإسرائيلية الأحادية خطيرة وبدعم أميركي في ظل حكومة تحالف وطني محتملة للغاية. ورغم أن هذا التحالف في بداياته، وستتبلور أبعاده بمرور الوقت، وقد يتعثر بعد فترة وجيزة، فإن أحد عناوينه المهمة هو التعامل مع تحديات انتشار الوباء في البلاد.
واذا انتقلنا إلى اليمن، فقد بادر الحوثيون إلى خرق الهدنة بما يتماشى مع سجلهم وسلوكهم السياسي المعتاد، وكان التصعيد الأكبر بتوجيه صواريخ اتجاه السعودية، ما ولّد ردود فعل من التحالف الدولي ضد مواقع الحوثيين، والمشكلة أن خرق الهدنة الهشة كان بشكل أو آخر مسألة وقت، حيث لم تليها إجراءات عقد تسوية سياسية شاملة، بل أكثر من هذا أن معطيات الأزمة اليمنية حتى الآن لا تزال في مرحلة ما يطلق عليه في لغة التفاوض غير جاهزة بعد لتسوية تفاوضية، فلا تزال المواقف متباعدة، ولم يبد الحوثيون بعد أي استعداد جاد لعقد تسوية شاملة، يمكن قبولها سواء من الداخل اليمني أو من الخارج بشكل عام، كما أن الشواهد تشير إلى أن التفكير المبدئي لديهم هو محاولة استغلال حالة السيول والانشغال الدولي والإقليمي بالوباء لترتيب أوضاع جديدة في ساحة المواجهة، وذلك بصرف النظر عمّا تمثله الأزمة ذاتها من مخاطر كبيرة بالنسبة للشعب اليمني الذي يعيش في ظروف بالغة الصعوبة، بحيث كان اندلاع أزمة كورونا في ظل هذه الهدنة من نوعية التطورات التي تحفز التسويات. وكان يجدر بالحوثيين التعامل معها بشكل أفضل، وهو للأسف ما لم يحدث، على الأقل حتى الآن، رغم خطورة الأوضاع الصحية والمعيشية بالبلاد، وما تشكله كورونا من مخاطر هائلة لو امتدت إلى الأراضي اليمنية.