Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عندما ينظر إليك العالم ولا يراك!

صدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان منذ 76 عاماً تبين لنا خلالها أن النزاعات تدمر الأسس التي تدعم هذه الحقوق

النضال من أجل حقوق الإنسان ليس واجباً أخلاقياً فحسب، بل هو دفاع عن إنسانيتنا جميعاً (أ ف ب)

ملخص

يذكرنا يوم حقوق الإنسان بأن الحق في الصحة والسلامة والكرامة حق عالمي من حقوق الإنسان، وليس امتيازاً مخصصاً للقلة المحظوظة. ويذكرنا أيضاً بأن النضال من أجل هذه الحقوق نضال من أجل الحرية والإنصاف والكرامة لجميع الناس، في كل مكان، بلا استثناء

"ألسنا بشراً مثلكم؟"

سؤال يطاردني كلما فكرت في غزة، ولا أنسى أبداً وجه تلك المرأة التي سألتني هذا السؤال أكثر من مرة أثناء زيارتي في يوليو (تموز) عام 2024، فسؤالها لم يكُن مجرد كلمات، بل صرخة يائسة تحمل في طياتها آلاماً لشعب كامل، صرخة عتاب تقول إن أهل غزة، على رغم كل ما حدث وما يحدث لهم، كانوا يأملون في أن العالم لن يتخلى عنهم.

رأيت بنفسي دماراً لم ترَه عيناي من قبل، فقد أتت الحرب على الأخضر واليابس هناك، وشاهدت النازحين يعانون التهجير والجوع في آنٍ، وتحدثت مع رجل كان له أمل واحد، وقال لي "نحن ننتظر بفارغ الصبر وقفاً لإطلاق النار، يعطينا الفرصة لنعيش بلا خوف".

ولا يحتاج أهل غزة إلى الماء والطعام والدواء فحسب، بل يحتاجون إلى الحماية والأمن كذلك، ويرغبون في أن يبنوا حياتهم مرة أخرى على أساس متين. وفي احتفالنا هذا العام باليوم العالمي لحقوق الإنسان، تذكرنا محنتهم بأن الكفاح من أجل حقوق الإنسان ليس شعارات تردد أو كلاماً يقال، فالعبرة بالعمل على تهيئة البيئة المناسبة التي تمكنهم من العيش بأمان وكرامة. 

فالطفل له الحق في العيش في أمن وأمان، وأن يحيا ويكبر بكرامة، وأن يتعلم في المدرسة وأن ينال الرعاية الصحية اللازمة، ولعلنا نتفق جميعاً على أن هذه الحقوق يجب ألّا تكون حصراً لأشخاص دون غيرهم. ولكن الواقع يظهر أن ملايين الأشخاص في جميع أنحاء العالم ينالون حقوقهم في الرعاية الصحية والتعليم والأمن، وهي أساسيات الحياة الكريمة، بناء على المكان الذي وُلدوا فيه.

والحق في الصحة نص عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948، ودستور منظمة الصحة العالمية لعام 1948. ويقرُ أكثر من 140 بلداً في دستوره بهذا الحق، ولكن الإقرار شيء، والتنفيذ شيء آخر. فإذا حرم الناس مما يحتاجون إليه وتعرضت حياتهم للخطر بسبب الصراعات والحروب، يصبح هذا الحق شعاراً أجوف.

 

 وإذا ما وجهنا أنظارنا إلى غزة، وجدنا أن أكثر من 25 ألف شخص قد أصيبوا بإصابات ستغيّر مجرى حياتهم إلى الأبد، من بينهم 15600 يحتاجون إلى إجلاء طبي عاجل، لم يخرج حتى الآن سوى 5230 شخصاً من بينهم، وما يقارب نصف هؤلاء الأشخاص من مرضى السرطان و40 في المئة من بنيهم تعرضوا لإصابات أثناء الحرب، وثمة 200 شخص يعانون أمراض الكلى. ومنذ إغلاق معبر رفح الحدودي في أيار ( مايو) الماضي، أُجلي 359 مريضاً فقط.

وهذه الأزمات تجعلنا ننظر إلى كل الناس في جميع أنحاء العالم ونسأل، ماذا عن هؤلاء الذين يعيشون في مناطق الصراع، حيث تحدد القرارات السياسية والحدود ونقاط التفتيش وتقلبات الحرب مَن يتلقى الرعاية المنقذة للحياة، ومَن لا يتلقاها؟. 

وأدعوك معي إلى أن تتخيل محاولة الوصول إلى مستشفى لإسعاف أحد أحبائك، وأنت تعرف أنك تستطيع إنقاذ حياته، ثم تفاجأ بسياج أو نقطة تفتيش تعترض طريقك، أو أن الطريق دمّر، وهذا الحاجز المادي الذي جاء بقرار سياسي هو الذي يهب الحياة لمن يشاء ويقضي بالموت على من يشاء.

ولا يعني الحق في الصحة مجرد تيسير الحصول على الرعاية الطبية، بل يشمل أيضاً المحددات الاجتماعية للصحة والحصول على المياه النقية والتغذية الكافية والمأوى وظروف المعيشة الآمنة، وكلها أمور تقوضها الصراعات، سواء كانت سياسية أو مسلحة أو مدنية أو دولية.

ولدينا في إقليم شرق المتوسط أمثلة لأزمات تتزايد يوماً بعد يوم، وأبرز مثال هو اليمن، فقد دمرت حياة 18 مليون شخص لسوء التغذية أو انعدام الغذاء والنزوح، ناهيك عن أكثر من 5 ملايين طفل دون سن الخامسة و2.7 مليون امرأة حامل ومرضع يحتاجون إلى دعم غذائي عاجل. ويعاني نحو 2.4 مليون طفل سوء التغذية الحاد، مما يعرضهم بشدة لخطر المرض أو الوفاة. فإلى متى يجب أن يتحملوا هذا؟ وكم شخصاً آخر يجب أن يعاني؟! وكم من الأرواح ننتظر أن تزهق ليتحرك العالم؟!.

وفي السودان ما هو أشد وطأة، فالصراع الدائر هناك ألقى بظلاله على أكثر من 25.6 مليون شخص، يخيّم عليهم شبح الجوع ويذوقون مرارة النزوح، ويكفينا أن نعلم أن عدد النازحين بلغ أكثر من 14 مليون شخص، من بينهم أكثر من 3 ملايين نزحوا إلى البلاد المجاورة. وازداد العنف القائم على النوع الاجتماعي زيادة مثيرة للقلق منذ بدء الصراع. وما زال وضع النساء والأطفال الذين يواجهون أكبر العقبات في الحصول على الغذاء والمأوى والرعاية الصحية، يزداد سوءاً بعد سوء. فإلى متى يمكن لهذا الوضع أن يستمر، والعالم يشاهد ولا يحرك ساكناً؟!.

هذا هو الواقع الذي نراه بأعيننا، وإذا ما حاولنا أن نغيره صادفتنا عقبات ومعوقات، فعلى سبيل المثال، نجد أن العقوبات المفروضة، مثلاً بقرار سياسي، تقف حائلاً دون وصول الماء والغذاء واللوازم الطبية الأساسية إلى تلك البلدان، فتزيد معاناة المدنيين هناك. ولدينا أمثلة سابقة على أن العقوبات قد يكون لها تأثير مباشر في الحصول العادل على خدمات الرعاية الصحية. وأظهرت الدراسات أيضاً أن العقوبات التي تستهدف القطاعات غير الصحية يمكن أن تعوق بصورة غير مباشرة الوصول إلى الرعاية الصحية، إذا خفضت الدولة التي وقعت تحت نيران العقوبات تمويل الرعاية الصحية من أجل الحفاظ على أنشطة أخرى.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وأبرز مثال نستحضره هنا هو محنة اللاجئين التي تظهر لنا كيف تحرم القرارات السياسية والنزاع مجموعات سكانية بأكملها حقوقها. وفي أحيان كثيرة، يجد اللاجئون أنفسهم بعد إجبارهم على ترك منازلهم في مخيمات ضاقت بساكنيها، يعيشون في ظل قلق واضطراب، وقد أقعدوا عن العمل من دون أن تتاح لهم ولو فرص ضئيلة للحصول على الحقوق الأساسية مثل الرعاية الصحية والتعليم.

وفي هذه الأزمات، تكون النساء والأطفال خصوصاً أكثر عرضة للخطر، وفي مناطق النزاع وغيرها يؤدي عدم المساواة بين الجنسين إلى تفاقم انتهاك حقوق الإنسان، ويقع على النساء والفتيات أكثر مما يقع على غيرهن من عنف واستغلال جنسي وإيذاء نفسي وبدني وحرمان من الخدمات الأساسية، وعلى رغم هذه المعاناة الشديدة، لا يحظين بالاهتمام ويتعرضن للتهميش.

ويذكر أن 4.5 مليار شخص في جميع أنحاء العالم يفتقرون اليوم إلى الخدمات الصحية الأساسية، ومليارَي شخص يكابدون صعوبات مالية بسبب كلف الرعاية الصحية. أما في إقليمنا، إقليم شرق المتوسط، فإن نصف السكان تقريباً لا يستطيعون الحصول على هذه الخدمات.

 

ويذكرنا يوم حقوق الإنسان بأن الحق في الصحة والسلامة والكرامة حق عالمي من حقوق الإنسان، وليس امتيازاً مخصصاً للقلة المحظوظة، ويذكرنا أيضاً بأن النضال من أجل هذه الحقوق نضال من أجل الحرية والإنصاف والكرامة لجميع الناس، في كل مكان، بلا استثناء.

لقد صدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان منذ 76 عاماً، تبيّن لنا خلالها أن النزاعات تدمر الأسس التي تدعم هذه الحقوق، فإذا غاب السلام توارت حقوق الإنسان.

ويبرز موضوع يوم حقوق الإنسان لعام 2024، "حقوقنا، مستقبلنا، فوراً"، كيف أن حقوق الإنسان لها دور حاسم في الوقاية والتحول من أجل الخير، قوة تمنح الناس والمجتمعات المحلية القدرة على بناء مستقبل أوفر صحة وأكثر أماناً. ويذكرنا أيضاً بأن تعزيز حماية هذه الحقوق يلزمنا أن نتواصل مع أكثر فئات المجتمع عرضة للأخطار وأشدهم تأثراً بها وأن نفهم حاجاتهم.

إن مستقبلنا يعتمد على قدرتنا على حماية حقوق الجميع في كل مكان. ولكن، إذا أردنا أن تكون حقوق الإنسان حاضرة للجميع، وجب علينا أن نقدم السلام أولاً. فمن دون سلام تظل الوعود بحقوق الإنسان شعارات جوفاء.

إن النضال من أجل حقوق الإنسان ليس واجباً أخلاقياً فحسب، بل هو دفاع عن إنسانيتنا جميعاً...

وفي الختام، أدعوكم إلى أن نلبي النداء، ونجيب تلك المرأة التي سألت بلسان كل الضعفاء في العالم، "ألسنا بشراً مثلكم؟". 

الدكتورة حنان بلخي هي المديرة الإقليمية لمنظمة الصحة العالمية لإقليم شرق المتوسط. وهي طبيبة أطفال وخبيرة في الأمراض المُعدية، وقد شغلت في السابق منصب المدير العام المساعد لمنظمة الصحة العالمية لشؤون مقاومة مضادات الميكروبات، وسبق لها أن تولت مناصب قيادية في القطاع الصحي في وطنها، المملكة العربية السعودية.

المزيد من آراء