مع اشتداد حدة وباء فيروس كورونا وارتفاع نسبة الإصابة والوفيات إلى معدلات غير مسبوقة، سارع عدد من الاختصاصيين في التاريخ داخل الولايات المتحدة تحت وطأة الإحساس الجماعي بالخطر، إلى العودة إلى الماضي بحثاً عن تجارب تاريخية سابقة للتعلم من دروس التاريخ ومن التداعيات المتوقعة عقب هذه الأوبئة. فهل نحن مقبلون على تغييرات مماثلة لما أفرزته أوبئة الطاعون الأسود والجدري والملاريا والإنفلونزا والحصبة عبر التاريخ، أم أن الحداثة والتكنولوجيا والمعرفة ستحول دون ذلك؟
عام 1377، نشر العالم العربي ابن خلدون مقدمته الذائعة الصيت، إذ قادت دراساته وأسفاره الواسعة إلى التوصل إلى وجود قوانين عالمية تحدّد حركة المجتمعات كنمط أساس للتاريخ البشري، وكان الإسهام الأصيل في هذا الكتاب، مفهومه عن العصبية كمصدر للقوة، ينبع من الإحساس بالهدف المشترك، وتطور ذلك إلى صعود أسرة حاكمة تتوسع وتنشئ دولة، تصنعُ حضارة، غير أن النجاح والازدهار المصاحب للتوسع الحضاري، يعملان بمرور الوقت على تقويض الشعور بالتماسك الاجتماعي الذي سمح في البداية لمجموعة واحدة بالارتقاء إلى السلطة، فتنهار الدولة والحضارة التي أنتجتها من داخلها.
نظرية ابن خلدون
ومن العجيب أن ابن خلدون بهذه النظرية الرائدة للتغيير، التي تجمع العلوم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والديموغرافية (السكانية)، توقع كيف يمكن للأمراض المُعدية أن تكون مدمجة في هذا التغير التاريخي، فقد عاصر تفشي الطاعون الأسود الذي يُعدُّ أسوأ وباء بيولوجي في تاريخ البشرية حسب بعض التقديرات، وبالنسبة إليه كان هذا الوباء، وفقاً لتفسير عقلاني، بعيداً من التفسيرات الدينية وعوامل الطبيعة، جزءًا لا يتجزأ من انهيار الحضارة. فمع وجود حضارة قوية، يتزايد النمو السكاني الذي يؤدي إلى أمراض وبائية قاتلة وتفكّك اجتماعي.
عِبَر التاريخ
وعلى الرغم من أن وباء كورونا ليس كالطاعون الأسود، كما أن ابن خلدون ليس عالماً بيولوجياً، إلّا أنّ هناك شعوراً جمعياً بأن العالم يعيش أحداثاً تاريخية أشبه بسقوط حائط برلين وانهيار برجَيْ مركز التجارة العالمي في 11 سبتمبر (أيلول). وفي مثل هذه الأوقات، يلجأ العلماء إلى الماضي بحثاً عن نماذج مشابهة لاتخاذ العبر والاستفادة من دروس التاريخ، وهي ليست فقط نماذج اقتصادية أو علوم طبية تُقدم حلولاً لهذه الأزمة، فالتاريخ يستطيع أن يعلمنا أيضاً أسباب انتشار وباء كورونا وتداعياته المحتملة.
على مر التاريخ، كانت الأوبئة تظهر فجأة عندما تنتقل الكائنات الحية الدقيقة المسبّبة للأمراض مثل الفيروسات والبكتيريا من كائن إلى آخر، وعندما تعزّز الطفرات الجينية انتقال وانتشار الجراثيم، وكذلك عندما تؤدي التفاعلات بين البشر إلى تسهيل الانتشار السريع للأمراض المعدية والأوبئة.
تدمير الإمبراطوريات
ونتيجة لذلك، ظهرت الأوبئة كأحداث عشوائية تنبع من العدم، لكنها كانت تمثّل قوة صادمة مثيرة للاضطراب في تاريخ البشرية، من تدمير الإمبراطوريات والإطاحة بالاقتصادات والقضاء على سكان مدن وقرى بأكملها، لكن تأثيرها يصبح أكثر قوة عندما يتزامن انتشار الأوبئة مع أزمات أخرى، مثل الصراعات المسلحة والأزمات النقدية، حينها تصبح لحظات التحول التاريخي حتمية.
من الناحية البيئية، تضرب الأوبئة كل العصور، ذلك أن الأمراض البشرية ليست إلّا نتاجاً طبيعياً للبيئة والتطور، إذ يتراوح عدد الأنواع الرئيسة المسببة للأمراض التي تصيب البشر بين 300 إلى 400 نوع. وبالمقارنة مع الشمبانزي، أقرب الحيوانات إلى الإنسان، فإن الجراثيم التي تصيب البشر أكثر عدداً وأكثر سوءاً، فقد نشأت نتيجة للطريقة التي أعاد فيها البشر تشكيل الظروف البيئية على سطح الأرض، وجعلوا من أنفسهم هدفاً جذاباً لاستضافة الطفيليات الميكروبية.
التفسير البيئي للعدوى
هذا التفسير البيئي للأمراض المُعدية، نشره قبل سنوات طويلة المؤرخ العالمي وليام ماكنيل، ومنذ ذلك الحين تعلم العلماء الكثير عن أصول تطور الأمراض البشرية، استناداً إلى الأساس الذي أرساه. وعلى سبيل المثال، فإنّ سبب إصابة الإنسان بعددٍ كبيرٍ من أمراض الجهاز الهضمي، أن البشر بدأوا قبل 12 ألف عام العيش في مستوطنات مكتظة باستمرار، وكانوا محاطين بنفاياتهم ونفايات الحيوانات المرافقة لهم، المليئة بمسببات الأمراض المنقولة.
كما أن السبب الذي يجعل البشر يعانون عدداً كبيراً من أمراض الجهاز التنفسي، يعود إلى الكثافة المرتفعة من السكان التي تدعم انتقال الجراثيم والميكروبات من رئة بشرية إلى أخرى، بدءًا من العالم القديم ووصولاً إلى العصر الحديث، إذ جعلت العولمة المبكرة المجموعات البشرية وجراثيمها على اتصال دائم، مما أسفر أحياناً عن نتائج كارثية.
على مدار التاريخ، كانت الأوبئة والأمراض المُعدية مصدراً لعدم الاستقرار، التي تستدعي أن يتذكرها الأفراد وسط انتشار وباء فيروس كورونا، ليتعلم الجميع مرونة المجتمعات البشرية عندما تواجهها كوارث بيولوجية خطيرة.
الموت الأسود
كان الموت الأسود جائحة الطاعون الدبلي وهو مرض تسببه بكتيريا تُسمّى "يرسينيا بيستيس" تنقلها البراغيث من القوارض، وتمركزت بشكل دائم بين القوارض في منطقة آسيا الوسطى قبل أن تنتشر على مر العصور لتسبب الأوبئة الضخمة بين البشر، غير أنه في القرن الرابع عشر، اجتاح الطاعون الأسود الشرق الأوسط وأجزاء من أفريقيا وكل أنحاء أوروبا، ليحصد أرواح نصف السكان قبل أن يتكرّر بشكل متقطع بمعدل مرة أو مرتين كل جيل وعلى مدى قرون عدّة.
ولم يكن الطاعون الأسود الوباء الوحيد المدمر للبشر، فقد شهد التاريخ تفشّي أوبئة فتاكة أخرى، مثل الجدري والحصبة والإنفلونزا والحمى الصفراء والملاريا، بحيث تتضاءل أهمية فيروس كورونا وقوته إلى جوارها.
تدمير المجتمعات
كانت أوبئة ما قبل الحداثة مدمرة للغاية، لأن مجتمعات ما قبل الحداثة كانت مُعرضة لارتفاع نسبة الوفيات، إذ كانت المجتمعات تعيش في فقر شامل قبل الثورة الصناعية وفي مساكن متكدسة، وكانوا بالتالي معرضين بشكل أكبر للأمراض المُعدية التي لم تتوفر لمواجهتها علاجات أو لقاحات لها في ذلك الوقت.
وعلى الرغم من أن المعرفة المبدئية بقواعد الصحة العامة البدائية تمتد جذورها إلى العصور الوسطى، كما نُفذت عمليات الحجز الصحي خلال تفشّي الطاعون، إلّا أنّ مجتمعات ما قبل القرن الثامن عشر، كانت غير قادرة تماماً على التخفيف من آثار الأمراض الوبائية.
من الرومان إلى الإيطاليين
عانت الإمبراطورية الرومانية من جائحة خطيرة في عهد ماركوس أوريليوس بعد عام 160، ربما بسبب ظهور فيروس الجدري وهو ما كان إنذاراً ببداية نهاية الإمبراطورية الرومانية، كما اعتُبر تكرار ظهور الطاعون في القرن السابع عشر حقيقة وحشية مفزعة في ما وُصِف بعصر "الأزمة العالمية" الذي مهّد الطريق لتغييرات أدت إلى نشوء الحداثة، فقد ضرب الطاعون مجتمعات مثل إيطاليا، ففقدت دورها الطليعي القيادي في أوروبا، كما أصاب الطاعون إنجلترا عام 1625 وخطف حياة 20 في المئة من سكان لندن، لكنّ الإنجليز تمكنوا من تحقيق الاستقرار والبقاء اقتصادياً.
الحداثة تقيّد الأوبئة
مكّنت الحداثة البشر من السيطرة نسبياً على الأمراض المُعدية، فعملت المعرفة والتكنولوجيا والسياسات العامة للدول على حماية البشرية من أسوأ ويلات الوباء التي كانت جزءًا من تاريخ الإنسان. فمع بداية القرن الثامن عشر، بدأت السيطرة على نسب الوفيات المرتفعة، وقلّل التطور في العلوم الزراعية واستخدام أساليب السياسة العامة من شدة المجاعات، وحدّت عمليات التلقيح أسوأ ما في مرض الجدري، كما أدى تنفيذ سياسات الحجر الصحي إلى تقييد انتشار العدوى.
وحتى في الوقت الذي لا يزال يتوفى كثيرون بسبب الأمراض المُعدية، تمكّنت المجتمعات الحديثة من محاصرة تزايد أعداد الوفيات، فلم يسبق للمجتمعات الأكثر تقدماً أن شهدت وباء مثل طاعون الموت الأسود.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى الرغم من أنه لا توجد ضمانة لعدم تكرار الطاعون الأسود، إلّا أن هذا النموذج يشير بالفعل إلى أن البشرية أصبحت تمتلك مزيجاً من الأدوية والتحصينات والأدوات الأخرى القادرة على وقف تصاعد أعداد الوفيات بشكل متواصل.
ومنذ أواخر القرن التاسع عشر، أصبحت أمراض القلب والأوعية الدموية والسرطان، السبب الرئيس لوفاة البشر وليست الأمراض المُعدية. فعام 1900، كانت معظم الوفيات في الولايات المتحدة الأميركية بسبب الأمراض المُعدية، لكن ذلك تغير بسرعة ملحوظة ولأسباب عدّة، منها تحسين التغذية والصرف الصحي والنظافة وتطور اللقاحات والمضادات الحيوية التي اعتُبرت جميعها ترسانة البشرية الحديثة ضد الأمراض المُعدية، لكنّ المجتمعات غير المتطورة ظلت مع الأسف تُعاني من الملاريا والسل وغيرها من الأمراض التي ما زالت تشكّل خطراً جماعياً. وحتى في المجتمعات المتقدمة، تمت السيطرة بنسبة كبيرة على الأمراض المعدية، لكنها ليست سيطرة كاملة. فهي تهديد لا يمكن إخماده أبداً.
عصر الأنثروبوسين
ويقول البروفيسور كايل هاربر، نائب رئيس جامعة أوكلاهوما وأستاذ التاريخ الاجتماعي والاقتصادي، إنه يمكن تأطير التاريخ الحديث للأمراض المُعدية بالإشارة إلى مصطلح يُستخدم بشكل متزايد لوصف الكوكب الأرضي في عصر سيطرة البشر وهو الأنثروبوسين، أي العصر الجيولوجي الحالي الذي أصبح فيه النشاط البشري مؤثراً في المناخ والبيئة. فنحن نعيش في بيئات مصطنعة مضادة للأمراض، شُيّدت من أجل السيطرة على الجراثيم عبر إدارتنا للمياه والغذاء والنفايات والدورات الفيزيائية والأنظمة الكيماوية.
غير أن هذا النموذج أوجد ضغوطاً من نوع آخر، فقد تزايد عدد سكان العالم ليقترب من 8 مليارات نسمة، وينتهك البشر أكثر من أي وقت مضى الموارد والبيئة الطبيعية والحيوانات البرية التي تُعدُّ المصدر المحتمل للأمراض الجديدة.
وهكذا، أصبح البشر متصلين ومترابطين أكثر من أي وقت مضى، وبات التفاعل بين الجنس البشري والطفيليات والفيروسات والجراثيم أوسع ممّا كان عليه في الماضي، ومع زيادة هجمات الفيروسات للبشر وتحسين الإنسان أدوات مكافحتها، تصاعدت المواجهة غير المستقرة بين الجانبين.
ثغرات واختلالات
وفي حين أن ظهور الأمراض المُعدية تسارع في عصر الأنثروبوسين، فإنّ هذه الأمراض سريعة الزوال ويمكن التحكم فيها بسرعة، لكن لا تزال هناك مع ذلك ثغرات تجعل البشر معرّضين لاختلالات أكبر، على الرغم من التقدم في أساليب الصحة العامة والطب البيولوجي. فعلى سبيل المثال، انتشر فيروس نقص المناعة البشرية المكتسبة (الإيدز) على مستوى العالم بشكل خطير، كما أصبح من الصعب مواجهة الإنفلونزا ولا تزال تحصد أرواح مئات الآلاف من البشر سنوياً. وفي النهاية، كان من المتوقع أن تشكّل عائلة فيروس كورونا واحدة من أكثر الأخطار على صحة الإنسان. فقد تعرّف خبراء الأمراض المُعدية على هذه العائلة منذ عشر سنوات، لكنّ تحذيراتهم لم تحظَ بالاهتمام المناسب الذي تستحقه. والآن أدرك العالم كله خصائص الفيروس الجديد الخبيثة وانتقالاته السريعة المُعدية، وقدرة البشر على حمله من دون أعراض، بينما لا يتوفر لقاح جاهز ولا تزال تداعياته مجهولة.
ويشير علماء وباحثون إلى أن المرض المقبل سيكون أكثر سوءاً مقارنة بالمرض الحالي الذي سيؤدي إلى وفيات أقل بكثير ممّا سببته الأوبئة الكبرى في التاريخ.
كورونا أكثر تأثيراً
وتتوقع مجلة "فورين بوليسي" الأميركية أن يكون لفيروس كورونا المعروف علمياً باسم كوفيد-19 تأثيرات اجتماعية واقتصادية وجيوسياسية تطغى بكثير على جائحة وباء الإنفلونزا التي ضربت العالم عامَيْ 1918 و1919 والتي فتكت بنحو 50 مليون شخص. ويتمثل خطر كورونا في أنه ضرب قلب نظامنا العالمي المترابط بالعولمة في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، والاستقطاب السياسي والثقافي، وهو بذلك يمثل تحدياً سياسياً واقتصادياً جديداً.
وتعود شدة التأثير إلى أن الأنظمة الاقتصادية التي تعتمد على سلاسل التوريد المعقدة وتعتمد على ديون المستهلكين والشركات والديون السيادية، لم تواجه من قبل اضطراباً مثل وباء كورونا.
التحول المقبل
في كثير من الأحيان، تكشف الأوبئة عن الاتجاه التالي في المجتمع، وأحياناً أخرى تُحدث تغييراً جذرياً في مسار المجتمعات. ففي القرن الثالث الميلادي، عانت الإمبراطورية الرومانية من وباء عُرِف باسم طاعون قبرص، الذي حلّ على الإمبراطورية وسط أزمات مالية ودستورية عدّة، ما أدى إلى إضعاف الدولة أمام الهجمات الخارجية.
صحيح أن هذه التغيرات كانت متوقعة، إلّا أنّ الوباء عَجَّل بها وسرّع حركة التاريخ، ولكن على نقيض ذلك، سبّب طاعون الموت الأسود بأعداد الوفيات الهائلة، تحولاً جذرياً في النظام الجيوسياسي بطرق كان من الصعب تخيلها.
ويقول البروفيسور كايل إنّ العالم سيحتاج إلى وقت لدراسة ومعرفة الطريقة التي سيغير بها هذا الوباء عالمنا، بينما يذكّرنا ماضينا بأنّ الصدمات البيولوجية غالباً ما تتزامن مع لحظات التغيير والتحول، التي أحياناً ما تؤدي إلى التقدم.