"يمكن النظر إلى بطل هذه المغناة هنا بوصفه الصورة النمطية المعبّرة عن جيل ما بعد الحرب العالمية الأولى، الذي كان هو من زوّد الفاشية بجنودها"، بمثل هذه العبارة وصف الفيلسوف ثيودور أدورنو مغناة "حكاية جندي" التي لحنها إيغور سترافنسكي في عام 1917، انطلاقاً من نص للكاتب السويسري شارل - فردينان راموز، لتقدَّم بعد ذلك بعام وتصبح عملاً أساسياً في الحياة الموسيقية بل، وبتعبير أدورنو نفسه، "نقطة المركز الحقيقية في مجمل عمل سترافنسكي لأنها عرفت، عبر موسقة نصّ راموز الرائع أن تصل إلى أقصى درجات الوعي الموسيقي".
لقد لُحّنت المغناة منذ البداية لتؤدَّى من قبل ثلاثة مغنين (القارئ، والجندي والشيطان) وسبعة عازفين (كمان، وكونترباص، وباصون، وكورنيت، وترومبون، وكلارينيت وآلة قرع) ما يجعلها من أكثر أعمال تلك الأزمان تقشفاً. وتلي هذه المغناة موسيقياً مرحلة سترافنسكي التي تحلقت من حول الباليهات الروسية الكبرى، لتسبق ما سوف يسمى بمرحلته النيو – كلاسيكية. وظهرت في سويسرا حيث كان الموسيقي يعيش لاجئاً بعدما دفعته الثورة البلشفية إلى مبارحة روسيا. لكنه، وكما تُرينا هذه المغناة، لم يبارحها إلا بجسده. ولعل من المفيد أن نذكر هنا أن استشراء الإنفلونزا الإسبانية في ذلك الحين أدى إلى وقف عرض المغناة ليستعاد العرض بعد خمس سنوات في باريس.
ولكن ما هي حكاية هذا الجندي هنا؟ إنها حكاية فاوستية أولاً وأخيراً حرص الكاتب راموز على أن يقتبسها، وإن بشكل غامض بعض الشيء، عن قصة قصيرة للكاتب الروسي ألكساندر أفاناسييف، تتحدث عن جندي شاب رضي في رهانه الفاوستي أن يبيع كمانه إلى الشيطان مقابل حصوله منه على كتاب زعم هذا الأخير أن في مقدوره التنبؤ بالمستقبل. وهكذا بعد أن يرى الجندي أن في إمكانه اليوم إذ أمضى مع الشيطان ثلاثة أيام علّمه خلالها العزف، أن يعود إلى قريته. لكنه اكتشف هناك أنه لم يغب ثلاثة أيام كما كان يعتقد، بل ثلاث سنوات إلى درجة أن أحداً لم يتعرف عليه في القرية حتى ولا أمه. ولا يجد أمامه إلا اللجوء إلى الكتاب كي يساعده في الحصول على ثروة. يفعل الكتاب ذلك فيطمع الجندي ويعود إلى الشيطان دون أن يكون قد ذاق طعم سعادة حقيقية، وإذ يلعب القمار مع الشيطان يخسر لكنه يتمكن من سرقة الكمان ما يمكنه من تحقيق أمنية قديمة له: الزواج من ابنة الملك التي كانت مريضة وشفاها، إذ قرر الملك أن من يشفيها سيحصل على يدها!. ولكن تكون النهاية أن الجندي لن يحصل على أي سعادة، بل سيذهب إلى الجحيم وسط قهقهات الشيطان المنتصر في نهاية المطاف.
امتداد لموسيقى الأزمنة السعيدة
عنما عُرضت هذه المغناة للمرة الأولى في صيف عام 1918، كان أول ما لاحظه العدد الأكبر من المعلقين أن موسيقى هذا العمل تؤكد دون ريب أننا لا نزال، موسيقياً، في القرن التاسع عشر، معتبرين عمل سترافنسكي استمراراً طبيعياً للموسيقى الروسية كما كانت خلال الربع الأخير من القرن السابق. لم ير أي منهم جديداً بل رأى معظمهم "سحراً قديماً" حتى وإن لم يفت كثر من المعلّقين أن يشيروا إلى بعض "إضافات" حرص سترافنسكي على جعلها تنصهر في "تراثه" الموسيقي، حيناً على شكل مقطوعة تانغو عابرة وحيناً على شكل أجزاء من موسيقى جاز صاخبة، حيث أن هذا كله اعتُبر نوعاً من ذلك الانفتاح الذي عاشته الموسيقى الكلاسيكية عند نهايات القرن التاسع عشر لا سيما في روسيا التي كان موسيقيوها ينفتحون على العالم الخارجي بشكل لا سابق له. فهل علينا أن ننطلق من هنا لنقول مع القائلين عن القرن العشرين إنه، على الرغم من امتلائه بالموسيقى من أوله إلى آخره، لم يكن عصر الموسيقى الكبيرة، أي عصر التأليف الموسيقي بالمعنى الذي يحمله التأليف الموسيقي كما حين نتحدث عن مؤلفين من طينة موزار وفاغنر وبيتهوفن وهايدن؟.
وهل يمكن أن نستطرد لنقول إن القرن التاسع عشر كان آخر العصور الذهبية للموسيقى، على الرغم من وجود مؤلفين كبار في القرن العشرين؟ إنها نظرية تجد دعماً لها لدى العديد من الباحثين الذين حتى حين يذكرون ديبوسي ورافيل وجورج غرشوين كبعض أبناء القرن العشرين، لا يفوتهم أن يذكروا بأن بعض أهم أعمالهم إنما كانت تلك التي كتبت بتأثير من موسيقى القرن السابق عليه، وباعتبارها امتداداً لها.
ولعل مسيرة إيغور سترافنسكي المهنية تكفي وحدها للتأكيد على هذه النظرية، فهذا المؤلف الكبير الذي بدأ حياته روسياً وأنهاها أميركياً، مع مرحلة فرنسية حاسمة وأساسية تتوسط مسار حياته، تكاد مسيرته تختصر وحدها ما يوصف عادة بأنه "الانحدار الكبير الذي عاشه التأليف الموسيقي في القرن العشرين". وأصحاب هذا الرأي يرون عادة أن مغناته الجميلة "حكاية جندي" تتوسط تماماً ذلك "الحراك المنحدر" لديه.
صحيح أن سترافنسكي، المولود عام 1882 في بلدة أورانينبادم القريبة من سانت بطرسبورغ في الشمال الروسي، لم يكن إلا في الثامنة عشرة من عمره حين أطل عليه القرن العشرون، وأن مؤلفاته الموسيقية الكبرى إنما ظهرت اعتباراً من 1910 وهو في الثامنة والعشرين. ولكن صحيح أيضاً أن تلك الأعمال الكبرى، التي كتب معظمها في البداية بناء على تكليف من فنان الباليه الروسي الكبير دياغيليف، إنما كتب كامتداد للكلاسيكية الرومانسية الروسية وبتأثير مباشر من رمسكي كورساكوف الذي يعرفه المستمعون العرب بقصيدتيه السيمفونيتين الكبيرتين "شهرزاد" و"عنتر" اللتين أعمل فيها الموسيقيون العرب سلباً ونهباً ولا يزالون يفعلون حتى اليوم. إذن، انطلاقاً من هذا الاعتبار يرى كُثر أن إيغور سترافنسكي إنما كان وسيظل إلى النهاية، من "آخر عباقرة القرن التاسع عشر" رغم أنه أمضى 71 سنة من حياته في القرن العشرين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
سيد موسيقى "الباليهات الروسية"
ومهما يكن قد يمكن القول أن معظم ما كتبه سترافنسكي طوال الفترات اللاحقة من القرن العشرين، لا يضاهي بأي حال أعماله الأساسية الأولى من باليه "عصفور النار"، الذي كتبه لدياغيليف، حيث طلب منه كتابة الباليه له بعد أن أدهشته حفلتان كان قدمهما تحت رعاية رمسكي كورساكوف، وصولاً إلى "حكاية جندي". وعندما كتب سترافنسكي "عصفور النار" كان لا يزال شاباً ومجهولاً، لكن هذا العمل وضمانة دياغيليف له كانا كافيين لأن يضفيا عليه شهرة كبيرة. وهكذا انفتحت الأبواب واسعة أمام المؤلف الشاب الذي كتب على الفور ثلاثة أعمال أخرى لدياغيليف هي "بتروشكا" و"تطويب الربيع" و"أعراس" التي تأخرت كتابتها بعض الشيء لكن جذورها تعود إلى تلك الفترة وتنتمي صراحة إلى الكلاسيكية الرومانسية الروسية.
طوال عقود بعد ذلك، خاصة خلال إقامته في سويسرا ثم في فرنسا ثم استقراره في أميركا الشمالية، كتب سترافنسكي عشرات الأعمال. ومع ذلك لا يزال اسم هذا المؤلف وحتى يومنا هذا، مرتبطاً بتلك الأعمال التي ذكرناها، التي استوحى منها الشعراء والمسرحيون والسينمائيون والأدباء بشكل عام.
هذا، لأن سترافنسكي كان في بداياته روسياً أصيلاً، تأثر بالروس الكبار، من بورودين إلى تشايكوفسكي مروراً برمسكي كورساكوف. وتلك اللمسة الروسية في موسيقاه هي التي أضفت على أعماله الأولى سحرها. لكنه بعد ذلك، وحسب تعبير الشاعر راموز الذي تعاون معه ذات فترة، صار "سويسرياً في سويسرا، وفرنسياً في فرنسا، وأميركياً في أميركا" ما أفقد موسيقاه طابعها الأصيل، وجعل سمعته تنحصر في أعماله الأولى على الرغم من أن "خزانه" يحتوي على أعمال كبيرة نسبياً. وعبر مثل هذه الأعمال، على أي حال، طبع سترافنسكي موسيقى القرن العشرين بطابعه، لكن محبيه كانوا يفضلون له على الدوام أن يظل أصيلاً في روسيته، وألا يقع، كما فعل، في فخ طلائعيي الموسيقى الحديثة فأضاع وقته، ومات في عام 1971 دون أن تكون له سوى قيمته المتحفية وذكرى أعماله الأولى.