في الوقت الذي تتوقف عجلة الحياة في كل بقاع الأرض، خوفاً وذعراً من كائن شبه حي لا نراه بالعين المجردة، هناك أزمة تهدد الأمن الغذائي العالمي تلوح في الأفق، بقرارات منفردة لمجموعة من الدول المصدرة للأرز، وذلك بالتزامن مع معدلات الطلب العالمي على السلعة الأساسية لمعظم شعوب الأرض، وكذا قلة الاحتياطي منها في كثير من الدول العربية والآسيوية.
وفي خطوة متزامنة مع جائحة الفيروس، أقدمت ست من أصل عشر دول في تحالف آسيان، باتخاذ تدابير رقابية في شكل قيودٍ على تصدير الأرز، وهو ما استغلته دولة مثل تايلاند، ثاني أكبر مصدر للأرز بعد الهند، حيث أوقف تجّارها عن توقيع عقود تصدير جديدة، ليرتفع السعر لنحو 19 في المئة مقارنة بسعره العام الماضي.
أزمة 2007... ومضاعفة السعر
وبالقفزة الأخيرة في سعر الأرز، يكون قد وصل لأعلى سعر منذ سبع سنوات، والأخطر من ذلك، أنه بدأ يُعيد إلى الأذهان أزمة 2007 وحتى منتصف 2008، حين تأثر بالهزة الاقتصادية التي ضربت العالم، كبقية الحبوب الرئيسة التي ارتفع سعرها بشكل مفاجئ وجذري إلى مستويات غير مسبوقة في كل العصور، وآنذاك تضاعف سعر الأرز بشكل خاص مقارنة بالحبوب الأخرى كالقمح والذرة، بتسجيل ثلاثة أضعاف سعره في وقت قياسي.
وباعتباره سلعة أساسية في العديد من البلدان النامية على وجه الخصوص، كان تأثير ارتفاع سعر الأزر خطيراً على الرفاهية الاقتصادية وتوفير إحدى الاحتياجات التي لا غنى عنها بالنسبة إلى الشعوب، إذ قفز سعره بصورة قياسية لنحو ألف دولار للطن، ما أسفر عن أزمة غذائية عالمية، جعلت الدول المعنية بالأزمة تناقش أسباب حدوث ذلك ومدى تأثير زيادة الأسعار والآثار المترتبة عليها لمنع الأزمات في المستقبل.
ووثق معهد الدراسات للدول النامية، اجتماع وزراء الزراعة في دول آسيان، الذي عُقد في العاصمة الفيتنامية "هانواي"، وهي واحدة من اثنين أعضاء في الرابطة ضمن أكبر مصدري الأرز في العالم جنباً إلى جنب مع تايلاند، وقيل إنه حصل بالفعل تفاهم مشترك على أن حظر التصدير أو القيود التي تفرضها الدول الرئيسة المُصدرة للأرز مثل الهند وفيتنام، والإقبال على الشراء بشراهةٍ من قِبل مستوردين رئيسين كالفلبين، أدى في النهاية إلى الارتفاع الجنوبي في السعر.
معدلات الاستهلاك والاحتياطي
ومع بداية ظهور مؤشرات القلق والخوف المتزايد بشأن احتياج الشعوب للأرز، خصوصاً في الدول التي بدأت تلمس الأزمة في جنوب شرق آسيا، حيث يعتبر طبقاً رئيساً لمليارات الناس في المنطقة، ألقى موقع "Statista" الإحصائي الألماني، الضوء على العشرة الكبار المنتجين للأرز، ولوحظ أن جُلها دول آسيوية، وهي الصين، والهند، وإندونيسيا، وبنغلادش، وفيتنام، وتايلاند، وبورما، والفلبين، واليابان بالإضافة إلى البرازيل، والأغرب من ذلك، أنها تستهلك معاً نحو 90 في المئة من المتوفر في العالم.
ومن الملاحظ، أنه من قبل المتغيرات التي أحدثها وباء كورونا، كانت هناك توقعات باستمرار زيادة الطلب على الأرز في السنوات المقبلة، على الأقل حتى منتصف 2035، بناء على دراسة شاملة أجراها معهد أبحاث السياسات الغذائية والزراعية، توقعت وصول الطلب العالمي على الأرز المطحون إلى 496 مليون طن في عام 2020، من 439 مليون طن في عام 2010 بحلول عام 2035، من دون استبعاد وصول الطلب إلى نحو 555 مليون طن، مع توقعات بأن يمثل الآسيويون 67 في المئة من الزيادة المذكورة أعلاه.
ووفقاً للتقرير الألماني، جاءت الصين على رأس الدول الأكثر استهلاكاً للأرز، وذلك بطبيعة الحال نظراً لتعدادها السكاني الهائل، بواقع 144 مليون طن، وتلتها الجارة الهند بنحو 98 مليون طن، ثم فيتنام 22 مليون طن، والفلبين 13 مليون طن، وتايلاند 10 ملايين طن، واليابان 8 ملايين طن، أما السعودية مليون طن، ومصر 4 ملايين طن، والكويت 250 ألف طن، وقطر 200 ألف طن.
وفيما يخص احتياطي الدول، يقول موقع إحصاء الأرز العالمي (Rice Stat)، إن احتياطي السعودية وصل إلى نحو 205 آلاف طن عام 2018، والجارة مصر 1 مليون طن، بينما في الهند 18 مليون طن، وإندونيسيا 4 ملايين طن، والصين 96 مليون طن، وكمبوديا 462 ألف طن، واليابان 2 مليون طن، وفيتنام 1 مليون طن، وماليزيا 349 ألف طن، وتايلاند 3 مليون طن، والفلبين 2 مليون طن، وتايوان 398 ألف طن، وكوريا الجنوبية 1 مليون طن، وأميركا 1 مليون طن، وتركيا 126 ألف طن، وروسيا 105 آلاف طن.
متغيرات "كوفيد-19"
لكن بعد تداعيات "كوفيد-19" الأخيرة، بدأت تظهر تجلياته الاقتصادية، بتحركات وقرارات الهدف منها الحد من تصدير الأرز، كما طلب رئيس الوزراء الفيتنامي من وزارة التجارة، تقديم خطة جديدة للتصدير، لضمان ما وصفه بـ"الأمن الغذائي"، وفي التوقيت نفسه قررت ميانمار خفض تصديرها لتجنب النقص المحلي، وذلك بحسب ما ذكره موقع "ذا ستار".
وأشار التقرير ذاته إلى تحركات الصين، برفع أسعار بعض المحاصيل، مقابل شراء كمية كافية من محصول هذا العام، لضمان توفير الغذاء للمواطنين في زمن كورونا، رغم أنها لا تصدر الكثير من إنتاجها وذلك بسبب ارتفاع نسبة استهلاكها، إلا أنها تهدف للحفاظ على احتياطي الأرز بقدر الإمكان بعدما قلب الوباء التاجي الاقتصاد العالمي رأسا على عقب.
وفي العادة يبلغ ما تستورده الصين 5 ونصف مليون طن، وفي المقابل تستورد 2 مليون طن، أما السعودية تستورد 1 مليون طن، ومصر 400 ألف طن، والكويت 250 ألف طن.
في خضم ذلك، قامت الفلبين، أكبر مستورد من فيتنام، بتخصيص أكثر من 600 مليون دولار لتأمين الاكتفاء الذاتي بشراء 300 ألف طن من الأرز، من خلال صفقات حكومية مع موردي جنوب شرق آسيا أو من خلال مصادر كالهند أو باكستان، وهو ما اعتبره موقع "بانكوك بوست"، بمثابة الأمر المثير للمخاوف على الأمن الغذائي العالمي، لزيادة احتمال رفع زيادة السعر من قبل المصدرين، خوفاً من إيقاف التصدير أو غلق الأجواء أمام الشحن لمكافحة تفشي وباء كورونا.
مؤشرات ارتفاع الأسعار
أما تايلاند، ثاني أكبر مصدر للأرز في العالم بعد الهند، والتي كانت تستعد لتقليل صادراتها للمرة الأولى منذ سبع سنوات، تغير موقفها على غير المتوقع، كما أقرت الهيئة الصناعية، بأن "تايلاند ترى الآن نظرة أفضل بعد أن اضطرت الهند لإيقاف التصدير لمدة ثلاثة أسابيع وكذلك فيتنام؛ بسبب تفشي وباء كورونا".
إلا أن هذا لم يمنع تايلاند من استغلال الموقف، برفع مؤشر الأرز التايلاندي القياسي (5 في المئة) إلى أعلى مستوياته منذ أغسطس 2013، ووصل سعره الأسبوع الماضي إلى نحو 481.5 دولار للطن، وهو أعلى بنسبة 19 في المئة تقريباً من سعر العام السابق، ونحو 70 إلى 120 دولاراً أعلى من الدرجة الفيتنامية المماثلة.
وكما أشرنا أعلاه، هناك بعض الدول اتخذت إجراءات صارمة تجاه تصدير الأرز مع استمرار تفشي كورونا، مثل كمبوديا التي أمر رئيس وزرائها هون سين، يوم 30 مارس (آذار)، بحظر تصدير الأرز بسبب وباء كورونا، وربما لا تعتبر مصدراً رئيساً له، لكنها تصدر نحو 500 ألف طن كل عام، وفقا للأرقام الحكومية، وكذلك ماليزيا تعيش في حظر تجول منذ 18 مارس الماضي، ومتوقع استمراره أسابيع مقبلة، ولا تصدِّر أي طعام سوى للجارة سنغافورة.
كذلك الفلبين تستعد لتقييد تصدير منتجاتها الغذائية، كما صرح وزير الشؤون الخارجية، ومعهم تايلاند التي ابتدعت انزاعجها من التكالب على الشراء، وفقاً لرئيس منظمة التجارة التايلاندية، مما دفع المجموعة الإقليمية لصناعة الأغذية في آسيا، لدعوة الحكومات إلى الامتناع عن السياسات التي تضر بالأمن الغذائي.
وفي السياق نفسه، صرحت غرفة تجارة الأرز الأوروبية بأن "هذا التحرك من قِبل فيتنام يُسبِّب الكثير من الاهتمام في السوق الدولية، إذا بدأت البلدان المُصدِّرة للغذاء في الحدِّ من الإمدادات؛ لتأمين أمنها الغذائي، سيكون ذلك مصدر قلق كبير للغاية"، وتعتبر الصين والفلبين والدول الأفريقية أكبر المشترين للأرز الفيتنامي".
توابع الأزمة على الدول العربية
الشاهد، أن المنطقة مقبلة على اضطرابات غذائية وارتفاع في الأسعار، خصوصاً بعد توقف كمبوديا وفيتنام عن التصدير، عقب إيقاف الهند حركة التصدير، وستزداد المخاوف إذا تغير موقف تايلاند الحالي، لتأثير هذه الدول على السوق العالمية في الأرز، حيث تصدر معاً 32 مليون طن، وتوقف تصدير هذه الكمية في وقت زيادة الطلب العالمي خلال أزمة كورونا، قد يسفر عن أزمة أرز عالمية، خصوصاً أن احتياطي بعض الدول العربية لا يكفي سوى بضعة أشهر.
وعلى سبيل المثال، تقول وكالة "الشرق الأوسط"، إن احتياطي دولة مثل مصر، لم يعد يتبق منه سوى خمسة أشهر فقط، ومع حلول شهر رمضان يزداد الاستهلاك لأكثر من 3 كيلوغرامات للفرد شهرياً، وبالنسبة إلى السعودية، يبلغ احتياطيها من الأرز 205 آلاف طن، أي أقل من ربع الاستهلاك السنوي المقدر بمليون و300 ألف طن، والمقلق هنا أن جُل الدول العربية تعوِّل على الهند، وتايلاند، وفيتنام والصين في استيراد الأرز، فهل ما يحدث الآن ينذر بأزمة جديدة على طريقة عام 2007؟