عندما انتهى المخرج السويدي إنغمار برغمان من تحقيق فيلمه "برسونا" الذي سيبقى واحداً من أعظم أعماله، كان من الواضح له، وحتى قبل دخوله في مشكلة الضرائب مع سلطات بلاده ما سيضطره للهجرة إلى حين، أنه كفنان وصل إلى الذروة وإلى المأزق في الوقت نفسه. بدا له أنه قد استهلك كل الأسئلة التي كان قد طرحها على ذاته وعلى العالم هو الذي لم يفته الحديث عن الحروب وما بعدها ("الختم السابع" أو "الصمت" مثلاً)، أو عن تمزق المرء في العصور الحديثة أو سؤال الهوية. في كل أعماله السابقة كانت تلك الأسئلة تنطرح وصولاً إلى أسئلة الغيب والوجود منطلقة من داخله إلى العالم الخارجي.
وكان يحس أن ثمة بعض موضوعات تتعلق بذاته لم تُطرق بعد، لعل أهمها في ذلك الحين بالنسبة إليه سؤال الفن ودوره في الخلاص أو الدمار. وكانت استعادته اللقاء في حينها مع الممثل ماكس فون سيدو مناسبة لتفكيره سينمائياً في ذلك النوع من الأسئلة، ففون سيدو دائماً ما كان يبدو له نوعاً من أنا/آخر له، نوعاً من مرآة لذاته. ومن هنا، من خلال رغبة العمل مع ذلك الممثل الكبير وُلدت لدى برغمان ثلاثية سينمائية من الواضح أنها راحت تنمو لديه عفو الخاطر حينها من دون تخطيط مسبق.
وهذه "الثلاثية"، التي لم يعتبرها هو "ثلاثية" على الإطلاق، تمثلت في أفلام حققها جميعاً بشكل متتالٍ في جزيرته الأثيرة فارو كما في جزيرة باتروم، لتدور من حول أزمة الفنان، وبالتالي أزمته الإبداعية الخاصة، يمثله فون سيدو. الأفلام هي "ساعة الذئب" (1967)، و"العار" (1968) و"شغف" (1969)، ولئن كان مسار العمل على هذه الأفلام قد قُطِع بفيلم "طقوس" الذي يخرج عن سياقها شكلاً وموضوعاً، فإن هذا كان مجرد عمل تلفزيوني تحقق كنتاجٍ عائلي سريع.
المهم أن الأفلام الثلاثة التي نتحدث عنها هنا ستكون من آخر أعمال برغمان الكبيرة بالأبيض والأسود والأعمال التي ستتيح له أن يتعامل من ناحية مع موقف الفنان من إبداعه الفني "ساعة الذئب"، فموقفه من الحرب والكارثة المحتملة والمتوقعة دائماً "العار"، وأخيراً موقف الفنان من الآخرين "شغف". وهو لكي يتعمق في معالجة هذه العلاقات التي كان دائماً ما يراها أساسية في لعبة الإبداع، كان لا بد له أن يعزل فنانيه في مكان مقفل (جزيرة) ويضعهم أمام وحدتهم المدمرة بدلاً عن أن تكون خلاقة، ليجعلهم يجابهون بعضهم البعض وذواتهم وفنهم عبر سؤال أساس هو بالتحديد سؤال الجدوى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فنانون في عزلة قاتلة
في "ساعة الذئب" لدينا الرسام الشهير يوهان وقد عزل نفسه مع زوجته ألما (ليف أولمان)، وها هو يعيش في الجزيرة الصغيرة، بالتروم، أسيراً لعالمه الداخلي يعاني من إغاظة زوجته له وأسئلتها المدمرة كما يعاني من تقدير الآخرين له. لكن مجابهته الكبرى ستكون مع شخصيات رسومه الغريبة وهواجسه في انتظاره مخلوقات شريرة يبدو واثقاً أنها ستهاجمه في ساعة الذئب أي في الهزيع الأخير من الليل حين تبدأ الشياطين عملها.
أما العزلة القصوى التي يعيشها الفنان فتتخذ صورة قصر كبير يُدعى إليه يوهان وألما في سهرة، فإذا به يلتقي هناك حبيبة قديمة له ما يتسبب في موقف مذلٍ يدمره تماماً، في وقت تستعيد فيه ألما ذكرى تلك الكائنات المرعبة عبر تمكنها هي من التسلل إلى داخل مخيلة يوهان التي خلقت كل ذلك الوضع.
في "العار" لدينا فنان آخر ولكن زوجة أخرى هذه المرة: يان وإيفا (إنغريد تولين، الممثلة الكبيرة التي كانت بدورها ذات يوم زوجة لبرغمان في الحياة الحقيقية). الثنائي هذه المرة عازفا كمان سابقان يعيشان الآن في منزل ريفي في الجزيرة، يتعايشان ويتصادمان في أنانيتيهما الصاخبتين وذكريات ساعات مجدهما الغابر. فجأة تبدأ بالحدوث أمور غريبة، من جرس كنيسة يقرع من دون إنذار وبائع نبيذ يرحل على عجل مخلفاً بضاعته، وحيوانات أليفة تهرع راكضة في كل مكان. لقد اندلعت حربٌ مباغتة، حرب هي أشبه بعارٍ لا بَرء منه وتسفر عن استيلاء عقيد يُدعى جاكوبي على السلطة بعد لحظات رعب وجثث وقصف تنتهي باعتقال الزوجين اللذين سيحررهما جاكوبي لكن يان سيفيق من جبنه ويقتل العقيد غيرة على زوجته. وبعد الجريمة لا بد للثنائي من الهرب على متن مركب صغير يشقان البحر فيه وسط ركام الجثث والخراب في عالم كابوسي ندر أن عرفت السينما كيف تصوره.
أما في "شغف" الذي يعيدنا إلى جزيرة فارو ولكن هذه المرة من طريق ثنائيين: أندرياس وزوجته آنا (ليف أولمان) من ناحية، وإليس وزوجته إيفا (بيبي أندرسون) من ناحية ثانية، فهو عن لقاءٍ بين العائلتين لكنه في الحقيقة لقاء بين كتلتين من المخاوف والأهواء وضروب العزلة، فالأربعة هنا يعيشون وحشة قاتلة تبدو أكثر سماكة من عزلة ثنائيي الفيلمين السابقين. أما التهديد الخارجي فيمثل هنا في كائن غريب مجهول لا يتوقف عن إبادة الحيوانات في مزارع الجزيرة، وتنتهي الصراعات والمخاوف بأندرياس إلى ترك امرأته والتجول وحيداً مرعوباً في المناطق القاحلة من الجزيرة محاولاً التخلص من مخاوفه فيما نسمع من وراء الشاشة صوت إنغمار برغمان نفسه يقول "هذه المرة سنسميه أندرياس وينكلمان".
المجابهة بين الداخل والخارج
ثلاثة أفلام إذاً نعيش فيها تلك المجابهة الأبدية بين عالم الداخل وضروب وحدته، وعالم الخارج وضروب قسوته، إذ كفّ عن أن يكون ملاذاً من العزلة، في أعمال ربما ستعتبر بعد ذلك من أكثر أفلام برغمان تعبيراً عن الذات وعن الفن والإنسان المعاصر، تعبيراً يكاد يقول لنا مباشرة هذه المرة ما لم ولن يقوله برغمان إلا مواربة في العديد من أفلامه السابقة واللاحقة، وها هي أزماننا الحديثة تنقضّ علينا اليوم لتعطيه تجسيداً حقيقياً لمعانيه حيث، ولكن لفترة نأملها عابرة، يكاد يتحوّل كل واحد منا في عزلته إلى جزيرة.
ولم يكن هذا غريباً بالطبع من إنغمار برغمان الذي كان بالتأكيد حين رحل عن عالمنا سنة 2007 أكبر سينمائيي السويد، ولعله كان أكبر رجال المسرح في السويد أيضاً. وعلى أية حال هو الوحيد الذي عرف على صعيد عالمي واسع ولفترة طويلة من الزمن، من بين مزاولي الفن السابع في اسكندنافيا كلها، بل وصل إلى مكانة تجعله واحداً من أعظم مبدعي فن السينما في العالم، إلى جانب فلليني وشابلن وفسكونتي وغريفيث وآخرين، بل إنه الوحيد من بينهم الذي ظل حياً لفترة طويلة، بل إنه عاد قبل رحيله بفترة قصيرة إلى نشاطه السينمائي، إذ حقق فيلمه الأخير "ساراباند" قبل رحيله مباشرة.
مسار سينمائي استثنائي
رحل إنغمار برغمان عن سن التاسعة والثمانين (وُلد في أوبسالا السويدية في عام 1918)، وهو روى فصول حياته وطفولته الدينية المتقشفة في كتب عدة ترجم بعضها إلى العربية، وكشف عن شغفه بالمسرح وبالدمى وبحركة البشر منذ كان طفلاً. ولقد قاده هذا إلى سلوك درب الفن ما إن شب عن الطوق، وعلى رغم صرامة أبيه الذي كان كاهناً وراعياً كنسياً.
وبرغمان الذي بدأ نشاطه على خشبة المسرح، بدأ يزاول فن السينما منذ عام 1945 حين حقق أول أفلامه "أزمة"، ولم يتوقف منذ ذلك الحين عن تحقيق ما معدله فيلم في كل عام، في تواصل مدهش حتى أواسط سنوات الثمانين، وغالباً مع ممثلين وتقنيين لا يتبدلون، جلّهم يعمل معه على خشبة المسرح. إضافة إلى أن بعض بطلاته كن، في زمن أو آخر، صديقاته وأحياناً زوجاته. المهم أنه، خلال عقود قدّم فيها عشرات الأعمال المسرحية الكبيرة، عَرف كيف يفرض حضوره في الساحة السينمائية عبر أفلام، لعل أبرزها وأشهرها "مونيكا" (1952)، "ابتسامات ليلة صيف" (1955)، "الفريز البري" (1957)، "عين الشيطان" (1960)، الثلاثية المؤلفة من "عبر المرآة" و"متناولو القرابين" و"الصمت" (1961- 1963)، ثم "برسونا" (1965)، فالثلاثية التي نتناولها هنا ثم "همس وصراخ" (1972)، "مشاهد من الحياة الزوجية" (1973) وهو فيلم طويل، حققه في 6 ساعات للتلفزة واختصره للسينما، ثم عاد وأكمل أحداثه في فيلمه الأخير "ساراباند"، وبينهما حقق أعمالاً كبيرة مكرسة مثل "الناي المسحور" و"وجهاً لوجه" و"عن حياة الدمى" و"فاني والكسندر"، وغيرها.