من المؤكد أن الظروف الكارثية التي يعيشها العالم من أقصاه إلى أدناه جراء انتشار وباء كورونا الذي يوصف بأنه "متجدّد"، وأممية النتائج التي يسفر عنها هذا الانتشار بقتله الألوف وسجنه الملايين في بيوتهم، وإثارته هلعاً أممياً، هذه الظروف تعيدنا إلى واحد من كتبنا التراثية، هو بالتحديد كتاب يحمل جوهره في عنوانه "إغاثة الأمة بكشف الغمة".
والحقيقة أنه لئن كانت الأهمية القصوى للكتاب تبدو في الظروف العادية مفاجئة في بُعدها العلمي السبّاق على كل بحث في مادية التاريخ، وكذلك في اهتمامه بتفاصيل عادية الحياة أكثر بكثير مما في التاريخ من قيام دول وغزوات وممالك وتغيرّات سياسية كبرى، على منوال ما سوف تغوص فيه مدارس أكثر حداثة بكثير، لعل أهمها مدرسة "الحوليات" الفرنسية في القرن العشرين، فإنها تبدو لنا هنا حدثية بشكل لا بد من العودة إليه في ظل الظروف الراهنة.
كوارث مصر
فالكتاب وكما سوف نرى بعد سطور يتناول كوارث حدثت تحديداً في مصر، ليس لكي يكتفي بوصفها، بل أكثر من هذا، كي يغوص في تحديد أسبابها. وهي بالنسبة إليه أسباب سياسية ومادية واقتصادية وأخلاقية، حتى وإن كان لا يفوته، وهو المؤمن الورع، أن يحذو حذو رجال الدين في التركيز على أسباب غيبية يربطها على أي حال بالأسباب الأخلاقية.
ولعل علينا أن نلاحظ أن كُثراً من المفكرين الدينيين ومن مختلف الملل والمذاهب يتعللون اليوم، ولمناسبة انتشار كورونا وفظاعاته، بابتعاد الناس عن الدين كسبب للفاجعة الكونية، ناصحين بالعودة إلى شعائر وطقوس إيمانية لعلها تبعد شبحه عنا. وليس هذا هو موضوعنا على أي حال في مجالنا هنا، بل الموضوع هو الكيفية التي تناول بها مفكر من تاريخنا التراثي المسألة دون أن يسعى إلى أي مجابهة مع الإيمان؛ لأنه وكما يقول لنا بنفسه، يفضل أن يخوض في ذلك السياق معركة أخرى، علمية طبعاً ولكن سياسية أيضاً، وبلغة تكاد تنتمي إلى أيامنا هذه كما سوف نرى. ومن نتحدث عنه هنا ليس على أي حال عالماً جاء من أي مكان، بل من مدرسة ابن خلدون الذي عاصر آخر سنواته في مصر، وأخذ عنه وتأثر به إلى حد كبير. بل إلى حد يجعل الكثير من كتب المقريزي أشبه بتطبيق حي لما جاء في "المقدمة" من ربط الأمور بأسبابها وإرجاع العلل إلى معلولات مادية وتاريخية وجغرافية، وجعل الاقتصاد ونشوء الدول وزوالها ومفاهيم مثل العصبية جزءاً من كتابة التاريخ، وذلك حتى بشكل أكثر وعياً بدروس "المقدمة" من ابن خلدون نفسه، الذي نعرف أنه حين كتب "العبر" في أجزائه العديدة بعد "المقدمة"، لم يتمسّك بنظرياته فجاء تاريخه شبيها بالتواريخ التي كان انتقدها لعاديتها وتفاهتها في مقدمة "مقدمته". المهم أن المقريزي حمل لواء التاريخ الاجتماعي العلمي عن مُعلِّمه.
عن النقود والسياسة والطبقات الوسطى
وإذا كان المقريزي وضع في حياته التي تجاوزت الثمانين عاماً عدداً كبيراً من المؤلفات، بين كتب ضخمة ودراسات موجزة يظل كتابه "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار"، الذي اشتهر باسمه المختصر "خطط المقريزي" أبرز تلك المؤلفات، غير أن كتابه الآخر الذي نجدنا متوقفين عنده هنا ضئيل في عدد صفحاته، والأهم من هذا ما يبدو واضحاً لمن يقرأه، أن مؤلفه قد وضعه دفعة واحدة، وأنه رغم ما فيه من إسهاب وخروج عن الموضوع في بعض صفحاته، كتاب تأسيسي، فريد من نوعه في ذلك الزمن.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إذاً تنبع أهمية "إغاثة الأمة بكشف الغمة"، بالتحديد، من موضوعاته الأساسية كما تنبع من تجرؤ المقريزي على الدنو منها، وسط الظرف الاستثنائي الذي شكّلته مرحلة تأليف الكتاب. فالواقع أن المؤلف وضع كتابه في خضم كارثة مجاعة وأوبئة حلت بمصر عند بدايات القرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي).
وتقول الحكاية إن المقريزي نفسه كان فقد ابنته الشابة في تلك الكارثة، ما أثّر فيه بشكل مضاعف، وجعله كما يبدو، وكما فعل أستاذه ابن خلدون حين دفعته كارثة أودت بعائلته، إلى اعتزال الناس وتأليف "المقدمة"، ينكبّ على وضع "إغاثة الأمة" وفيه بالتحديد، تحليل للكارثة وأزمتها. ولكن أيضاً فيه عرض لأسبابها وطرق معالجتها. وكان ذلك هو الشيء الجديد، لأن المقريزي، وبشكل لم يكن معهوداً ومنتشراً حينها، لم يعتمد نظرية القدر في كلامه على كارثة تقضي على البشر واقتصادهم، ولم يَدْع إلى الصلاة وطلب التوبة رداً عليها، بل تجاوز ذلك ليقول إن "للكارثة قوانينها المادية". و"طالما أن لها تلك القوانين، يصبح من الطبيعي أن يكون ممكناً إزالتها". فإزالة الأسباب تمكّن من إزالة النتائج. ولنا أن نتصور كم كان مثل هذا الكلام خروجاً عن السياق في ذلك الحين (وإلى الآن). وللتدليل على كلامه راح المقريزي يستعرض في النصف الأول من كتابه تاريخ الكوارث والمجاعات والأوبئة التي حلت بمصر منذ "فجر التاريخ" حتى حلول المجاعة الجديدة ووضعه الكتاب.
دور للمناخ أيضاً
وهكذا بعدما يفصّل المقريزي ما وقع من مجاعات، يصل إلى القسم الثاني والأهم من الكتاب معنوناً إياه، "فصل في بيان الأسباب التي نشأت عنها هذه المحن التي نحن فيها حتى استمرت طول هذه الأزمان التي دفعنا إليها". وهو لا يفوته أن يحدد منذ البداية أن "البلاء الذي حل بالخلق منذ كانت الخليقة إنما يحدث من آفات تتعلق بالظروف الطبيعية السماوية في غالب الأمر: كقصور جري ماء النيل في مصر وعدم نزول المطر، أو آفة تصيب الغلال، وهذه عادة الله تعالى في الخلق، إذا خالفوا أمره وأتوا محارمه، أن يصيبهم بذلك جزاءً بما كسبت أيديهم". لكن المقريزي، إذ يقول هذا ويريح ضميره الديني، ينصرف إلى موضوعه الرئيس، الذي يهمه هنا، وهو الأسباب المادية البحتة، موضحاً كيف خفّ ماء النيل فتعطلت الزراعة وارتفعت الأسعار، ثم "تفاقم الأمر وحل الخطب وعظم الرزق".
ويصل هنا المقريزي إلى لب الموضوع حيث يقول إن لذلك كله ثلاثة أسباب، لا رابع لها، "الأول، وهو أصل هذا الفساد، ولاية الخطط السلطانية والمناصب الدينية بالرشوة"، (ثم يورد أمثلة حية على ذلك)، و"الثاني: غلاء الأطيان"، بعد أن تصدى "قوم على الأراضي الجارية في إقطاعات الأمراء، وجلبوا عمالاً أثقلوا لهم الأجور، وزادت الأسعار"، ما جعل الإقليم "يشرف على البوار والدمار". وأما السبب الثالث، الذي كان نتيجة طبيعية لذلك كله، فهو "رواج الفلوس"، أي ما يسمى في لغة أيامنا هذه الاقتصادية: التضخم النقدي.
وإذ يؤكد المقريزي هذا الأمر الذي يعتبر تجديداً أساسياً، يتوقف قليلاً ليحكي تاريخ ضرب النقود، موضحاً في هذا الشأن نظريات مفاجئة، واصلاً إلى الحديث عن "غش الدراهم" ودوره في إشاعة التضخم وبالتالي فقدان الفلوس لقيمتها. وإذ يوضح المقريزي هذا، في تفاصيله، يتوقف عند تاريخ النقود في مصر، وينتقل في ذلك إلى ذكر أصناف الناس وأقسامهم، تبعاً لعلاقتهم بالاقتصاد، فيقسمهم سبع فئات (طبقات) تبدأ بأهل الدولة لتصل إلى "ذوي الحاجة والمسكنة"، فيما يعتبر أول حديث عن تقسيم طبقي، واقعي لا نظري، في التأريخ الاجتماعي الإسلامي، خصوصاً أن المقريزي يروح مفصلاً بعد ذلك دور كل من هذه الطبقات، لا سيما خلال الكوارث والمجاعات.
أما في القسم الثالث والأخير من كتابه، فإن المقريزي يورد الدواء بعدما تحدث عن الداء، وكما أن الداء بالنسبة إليه مادي له علاقة بتركيبة المجتمع، كذلك فإن الدواء مادي، وسياسي في شكل أكثر تحديداً، خصوصاً أن ما نسميه اليوم بالطبقة الوسطى (الفاعلة) هي مفتاح ذلك كله. ومن أهم دروب المعالجة "تصحيح وضعية النقد وإعادته إلى الذهب والفضة والحد من إغراق السوق بالنقد الذي لا قيمة له، الذي ينشأ التضخم عنه". ويبدو من الواضح جِدة هذا الحل وغرابته في ذلك الزمن على الأقل.
وتقي الدين، أحمد بن علي، المقريزي ولد في القاهرة (766هـ- 1365م)، التي نشأ ومات فيها عام (845هـ - 1411م)، وهو أصله من بعلبك في بلاد الشام، من حارة كانت تدعى المقارزة، لكنه انتسب دائماً إلى مصر ووضع عنها أفضل كتبه. وهو في القاهرة اتبع خطى أسرته التي عُرفت بالعلم والفقه والاشتغال بهما بين دمشق وبعلبك والقاهرة، ودرس دراسة تقليدية فيها انكباب على علوم الدين والقرآن والنحو والحديث. ومن الواضح أن تعرّفه إلى ابن خلدون وتتلمذه عليه، حين عاش الأخير في مصر، وجها المقريزي إلى دراسة المجتمع والاقتصاد والعمران، خصوصاً أن زمنه امتلأ بالحوادث الكبيرة التي كانت تستدعي تأملاً استثنائياً.