في عام 1939 كانت خمسة أعوام انقضت على بدء الموسيقي الأرمني السوفياتي الشاب آرام خاتشاتوريان خوض التأليف الموسيقي، بعد أن أدرك وهو في بداية ثلاثينياته أن ذلك هو التوجّه الوحيد الذي يتطلع إلى الانخراط فيه، عدا عن كل ما كان أهله رشحوه إليه.
وهكذا كتب باليه "السعادة" قدَّمه للمرة الأولى في يريفان، لكنه ما لبث أن وضعه جانباً ليحوّل عنوانه لاحقاً إلى جزء من باليه "سبرتاكوس" الذي سيصبح أشهر أعماله على الإطلاق، كما حوّل مقطعاً منه عنوانه "رقصة السيف" إلى جزء أساسي من الباليه الذي سيكتبه لاحقاً بعنوان "غايانه"، ويصبح بدوره واحداً من أبرز أعماله منافساً "سبارتاكوس" في هذا.
ونعرف أنّ خاتشادوريان بهذين العملين عرف كيف يجعل من نفسه واحداً من أكبر الموسيقيين السوفيات في القرن العشرين. ونعرف أيضاً أن ما مِن موسم موسيقي في أي بلد يعرف تقاليد احتفاليات موسيقية متواصلة، في الغرب أو في الشرق، يمكنه أن يمر من دون تقديم هذا العمل لخاتشادوريان أو ذاك، أو حتى الاثنين معاً.
ولئن كان باليه "سبارتاكوس" يعتبر من أهم الإنتاجات الوطنية على المدى السوفياتي ككل، خصوصاً أن الشخصية الرئيسة فيه التي أعارته اسمها عنواناً له، تعتبر رمزاً للبطولة الثورية والنضال الذي يخوضه معذبو الأرض ضد مضطهديهم، فإن "غايانه" يتسم ببعد آخر تماماً: بعد وطني أرمني خالص، يضاهي ليلى والمجنون عن شعوب الشرق الأوسط، عربية كانت أو فارسية أو حتى تركية إلى حد ما، ويرتبط بصلة نسب لا تُفك مع ذلك "العاشق الغريب" الذي خلّده المخرج الأرمني بارادجانوف في فيلم يحمل اسمه.
حكاية أبدية
المهم أن "غايانه" يبدو عملاً محلياً يترجم بلغة الموسيقى والرقص، تلك الحكاية الأبدية، حكاية الحب المستحيل بين عاشقين تأتي دائماً، الغربة أو العنصرية أو الخلافات العائلية أو التفاوتات الطبقية لتفرق بهما في تقاليد تمر دائماً عبر روميو وجولييت الشكسبيرية الإيطالية وقيس وليلى العربية كمرتكز لها لا بدّ منه.
لكن المهم هنا ليس الحكاية بالطبع، فكما في كل عمل راقص (باليه) وكما حتى في بعض الأحيان في أعمال أوبرالية، لا تعود الحكاية سوى ذريعة للموسيقى والكوريغرافيا (الرقص)، يتجولان على المسرح وعبر النوتات في أجوائه ليقدما سحراً خالصاً.
والحقيقة، إننا إذ نستخدم هذا التعبير فإننا نبدو وكأننا نوصّف "غايانه" بالتحديد. فهذا الباليه الشرقي بامتياز يختلف كثيراً عن كلاسيكيات باليهات تشايكوفسكي أو غيره، وبخاصة من خلال تلك الحركة الدائمة والنبض الموسيقي المتواصل الذي يطبع الحميّا الشرقية، والمتوسطية أيضاً إذا شئتم، وينطبع بها، بحيث يبدو المسرح خلية نحل في حركة دائمة متواصلة لا تترك للمتفرج ولو ثانية للراحة والتأمل. ولا حتى للغوص في الحكاية التي كان خاتشادوريان من "الشطارة" بحيث جعلها تدور داخل الكولخوز البولشفي السوفياتي، مؤكداً في نهايتها انتصار قوى الخير والتقدم و"الاشتراكية" على "البيض الأشرار"، حيث يتحوّل الفصل الرابع والأخير إلى عيد حقيقي يُحيي انتصار العمال عبر ثلاث زيجات، لا واحدة فقط، وطبعاً بعيداً من المصير الدامي للعشاق في الأعمال التي مرّ معنا ذكرها! فالانتصار هنا وليس الموت هو مصير العاملين في سبيل المجتمع والشعب!
من ستالين المطروب إلى جدانوف الغاضب!
فهل سيدهش أحد إن ذكرنا كم أنّ ستالين كان مطروباً وكم صفق وأثنى حين قُدم هذا العمل بحضوره لمرة أولى، لا سيما حين راح وبشهادة من كانوا حاضرين، يهتز مع رقصات الفصل الأخير وموسيقاه الملونة الصاخبة؟ ومع ذلك حدث ذات يوم بعد سنين قليلة من ذلك العرض، أن ارتأت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي، وبتأثير مباشر من جدانوف الذي كان يتولى الشؤون الأيديولوجية تحت ظلّ ستالين، أن تتهم ثلاثة من كبار الموسيقيين السوفيات، بالنزعة البورجوازية والتأثر بالغرب.
والحقيقة أن آرام خاتشاتوريان، كان أكثر الثلاثة دهشة لذلك الاتهام، فإن كان من المنطقي حينها توجيه تلك التهمة إلى الاثنين الآخرين: شوستاكوفيتش وبروكوفياف، فإنّ خاتشادوريان، ثالث الثلاثة، لم يكن في الإمكان اتهامه بذلك، هو الحائز مرتين جائزة ستالين، وكاتب موسيقى النشيد الوطني للجمهورية الأرمنية السوفياتية، والممجد للذكرى الخامسة والعشرين لقيام الثورة البولشفية، في واحد من أقوى أعماله ("السيمفونية الثانية" 1943).
لكن، آرام خاتشاتوريان صمت في ذلك الحين، ولم يرد على اللجنة المركزية. بعد ذلك بسنوات، وبعد رحيل ستالين وزوال الجدانوفية، بدأ الموسيقي الأرمني الكبير ثأره، وراح يصب جام غضبه على متهميه، مؤكداً أن تهمته الحقيقية بالنسبة إليه لم تكن نزوعه البورجوازي والغربي، بل العكس تماماً: اهتمامه بالموسيقى الشعبية الأرمنية ونزعته القومية الشعبوية وشرقيته.
والحال، أن من يستمع إلى موسيقى خاتشاتوريان يكتشف بسرعة أنه كان على حق، وعلى الأقل بالنسبة إلى مراحل إنتاجه التي تبدأ مع عام 1934 حين كتب سيمفونيته الأولى، التي طعّمها بالكثير من التراث الشعبي الأرمني، لكن أيضاً التركي والجيورجي والأذربيجاني. قبل ذلك، كان خاتشاتوريان متأثراً ببرليوز ثم برافيل. لكن هذا التأثر الذي طبع سنوات تأليفه الأولى، كان هو بالتحديد ما قاده إلى التراث الشعبي القومي الخاص بالمنطقة التي ينتسب إليها، الذي ربما كان باليه "غايانه" من أوضح تجلياته.
حياة مثالية
ولد آرام خاتشاتوريان الذي رحل عن عالمنا في مايو (أيار) 1978، قبل ذلك بثلاثة أرباع القرن في تفليس عاصمة جيورجيا، من أسرة أرمنية كانت تقيم هناك، مثله في ذلك مثل مواطنه السينمائي بارادجانوف، الذي كثيراً ما يشبَّه به، واحد في مجال الموسيقى والثاني في مجال السينما، إذ إن الاثنين تشبعا بمبادئ الثورة الشيوعية، إضافة إلى نهلهما من التراث الأرمني - الجيورجي المشترك، بعد تأثر بالغرب طاول سنوات عملهما الأولى.
منذ طفولته اتّجه خاتشاتوريان إلى الموسيقى، حيث درس أولاً في "غنيزيني" ثم في المعهد التربوي في موسكو، لكن لم يكن ذلك إلا بعد فترة تردُّد دخل خلالها جامعة موسكو ليدرس البيولوجيا. غير أنّ السنوات التالية وشغفه بالعزف على البيانو، حدد مستقبله، خصوصاً أنه التقى في كونسرفاتوار موسكو الأستاذ مياسكوفسكي، الذي كان أول من اكتشف المواهب الخفية لدى ذلك الفتى الأرمني.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وهكذا من مجرد عازف على التشيلو (الذي سيكتب له خاتشاتوريان لاحقاً، كونشرتو يعتبر من أروع أعماله)، تحوّل الفتى بالتدريج ليصبح واحداً من أكثر المواهب وعداً. وكان أن تعهده أستاذه وراح يشجعه وأثمر ذلك بالفعل. ومنذ تخرجه في المعهد، بدأ آرام خاتشاتوريان يكتب أعماله المتلاحقة. وكان أول ما لفت الأنظار إليه كونشرتو كتبه للبيانو في العام 1936. غير أن انطلاقته الكبرى كانت مع موسيقى باليه "غايانه" التي تضمنت موسيقى "رقصة السيف" الشهيرة التي ستقتبس وتقتبس بعد ذلك من دون هوادة.
مهما يكن في الأمر، خلال تلك السنوات راحت شهرة خاتشاتوريان تتزايد، وصار واحداً من ألمع الموسيقيين السوفيات. ثم أتت سيمفونيته الثانية لتعزز مكانته الرسمية في موسكو، في وقت كان بدأ يخف لديه تأثير برليوز والغربيين، وصارت موسيقاه أشبه بأنطولوجيا للموسيقى الشرقية، تعمر بجمل قوية وتعبيرات كان من الصعب العثور عليها خارج ذلك الإحساس القوقازي الذي كان يغمره. وحسبنا اليوم، للتيقن من هذا، أن نستمع إلى الحركة الثانية من السيمفونية الثانية، وإلى معظم الأجزاء المتتالية للسيمفونية "ماسكاراد" (1944) التي وضعها انطلاقاً من نص للشاعر ليرمنتوف.
ولسوف يواصل خاتشاتوريان طريقه على ذلك النحو رغم العقبات البيروقراطية واتهامات اللجنة المركزية. وهو سيصل إلى ذروة جديدة في عام 1953، حين كتب باليه "سبارتاكوس" الذي أعاد إلى الحياة ذلك الباليه القديم الذي كان كتبه عام 1939 بعنوان "السعادة". وسوف يكرس عالمياً مع سيمفونيته الثالثة، ثم بخاصة مع كونشرتو للتشيلو، كتبه ويشبّه كثيرون قوته بقوة كونشرتو دفوراك للتشيلو.