كم تبدو الهوة واسعة بين الطبيعة المدهشة في جمالها وهدوئها الأبدي، وبين أهواء البشر الجامحة، حتى ولو انتفضت الطبيعة بين الحين والآخر مزمجرة صاخبة، وقاتلة حتى، كنوع من تأنيب البشر لتجاوزهم خطوط اًحمراً لا يجدر بهم تجاوزها. ترى أفلن يكون هذا واحدا من الدروس التي سيطلع بها البشر، إن استوعبوها، من الكارثة "الكورونية" التي يعيشونها حاليا وتكاد توصلهم إلى أبواب الجحيم؟ والحقيقة أن كثرا من المبدعين ولا سيما في الأزمنة الأقرب إلينا قالوا هذا ودقوا نواقيس الخطر. ومن بينهم توماس هاردي. ولعل قراءتنا لواحدة من أشهر رواياته وهي "عودة المواطن"، تكفينا لوضع "رسالته" في مكانها الصحيح باعتبارها رسالة تحذير في هذا السياق حتى وإن كان أدبه يتسع ليشمل أبعادا كثيرة أخرى.
بعيدا من الخير والشرّ
في "عودة المواطن" (1878) يضعنا هاردي، كعادته في معظم رواياته الكبرى، في مواجهة عدد من شخصيات تتصارع فيما بينها، أو تترك لأهوائها أن تخوض تلك الصراعات، غير عابئة بذلك السحر الذي من شأن الحياة أن تحمله إليهم فيكفيهم للوصول إلى السعادة في ذلك الريف الإنكليزي الساحر. طبعا لا يمكن الزعم أن هاردي يقول هذا بكل وضوح، ولكن حسبنا أن نرصد حتى الفوارق في قاموسه اللغوي حين يتحدث واصفا الطبيعة، أو حين يحاول الغوص في أعماق معظم شخصياته. وطبعا لن نقول هنا أن ثمة لديه شخصيات شريرة وأخرى طيبة، حتى ولو كان التمايز واضحا بين الشخصيات الإيجابية وتلك السلبية. كل ما في الأمر أن هاردي يكشف منذ البداية عن تلك الشخصيات التي تترك أهواءها تتحكم بها فتوصلها إلى جحيمها. فما الحكاية هنا؟
حكاية بسيطة تتمحور من حول أربع أو خمس شخصيات سيكون محرك علاقاتها عودة الواطن كليم يوبرايت من باريس حيث كان يعمل في التجارة إلى بلدته الريفية الإنجليزية وقد حقق من الثراء ما سيجعله وجيها في البلدة ومحط أنظار الحسناء اوستاسيا فاي التي تجد في كليم ضالتها آملة أن يأخذها إلى باريس. لكن كليم يقرر أن يبقى هنا. وهكذا بعد مرحلة أولى ترتبط فيها أوستاسيا بكليم رغم معارضة أمه، تعود سراً إلى علاقتها القديمة مع صاحب النزل دامون وايلديف رغم ارتباط هذا بابنة عم كليم توماسين.
وهكذا انطلاقا من أهواء أوستاسيا تنقلب الأمور والعلاقات غير مستثنية سوى ديغوري الذي رغم ثرائه يقوم بصبغ الخراف بالألوان الحمراء المشيرة إلى مالكيهم. وعند هذا المستوى تبدأ الأحداث تتوالى، ودائما في علاقة مع الطبيعة، من موت الأم يوبرايت بلسعة أفعى لتلحق بها أوستاسيا حين تتفق ذات ليلة على الهرب مع وايلديف خاصة بعد أن يرث من المال ما يجعله صالحا لها. لكنهما خلال هربهما يغرقان في بحيرة كانا مضطرين لاجتيازها. وفي النهاية يتحول كليم إلى داعية دينيّ، فيما يتزوج ديغوري من توماسين بعدما كان مغرما بأوستاسيا.
طبعا قد تبدو هذه الأحداث مفرطة في ميلودراميتها، لكن علينا أن نتجاوز سطح الأمور والعلاقات لنغوص مع هاردي في الحياة التي يعيشها هؤلاء الناس مقارنة بما يتطلعون إاليه. ثم أفلا يقول لنا هاردي ذات لحظة أن تلكم هي النهايات التي يقترحها ويمكن للقارئ أن يبدل منها على هواه؟
هيبّي قبل الأوان
لعل أكثر ما يثير العجب في شخصية توماس هاردي وأدبه، أنه كان من شأنه أن يكون زعيما للهيبيين ومرشدا لأنصار الطبيعة وحياة الريف الهادئة، لو أن هؤلاء اكتشفوه كما كان يتعين عليهم أن يفعلوا، إبان عصرهم الذهبي في الستينات. لكن «إعادة اكتشافه» جاءت متأخرة. وكانت السينما هي التي اكتشفته، وتحديدا في البداية عن طريق مخرجين كبيرين في فيلمين ارتبطا باسميهما مع أنهما مأخوذين عن أجمل روايتين كتبهما هاردي: "تس داربر فيل" (من إخراج رومان بولانسكي) و"بعيدا عن الجمهور المثير للجنون" ( من إخراج جون شسليسنغر)، دون أن ننسى اقتباس مايكل ونترباتوم لروايته الأشهر "جود الغامض". وهكذا حتى وإن كانت كل هذه الأفلام قد حققت نجاحا كبيرا، فإن المعنيين بالأمر فاتهم أن يتنبهوا إلى القرابة، التي تكشف عنها بصرياً بين توماس هاردي من ناحية وجان - جاك روسو والهيبيين من ناحية ثانية. والحال أنه لئن كان مؤرخو الأدب، منذ سنوات قليلة بدأوا يلتفتون إلى مدى ما في معظم أدب توماس هاردي من تمرد وثورية، فإن نزعة العودة إلى الطبيعة ومعاداة التقدم وانتقاد الحداثة، في أدبه ليست من الأمور التي دُرست بما فيه الكفاية حتى الآن. وهي لو دُرست لكشفت عن كاتب يمكن بمعايير اليوم وصفه بأنه «ما - بعد - حداثي».
لم يبدأ هاردي الذي رحل عن عالمنا في العام 1928 عن عمر يناهز الثامنة والثمانين، حياته أديبا، بل مهندسا معماريا. وهنا يكمن التناقض الأول في شخصيته، التناقض بين مهنة كانت في قمة الحداثة أواسط القرن الفائت، حين مارسها هاردي، وبين أدب أتى على النقيض منها، تماما، ناعيا الحداثة والمدينة داعيا إلى الطبيعة والشاعرية في حس رومانسي واضح.
من الهندسة إلى الرواية
المهم، ولد توماس هاردي العام 1840، وصار وهو في السادسة عشر من عمره مساعدا للمهندس المعماري الشهير في ذلك الحين، جون هيكز، لكنه سرعان ما تركه ليرتحل إلى لندن حيث عمل، بدءا من العام 1862، لدى المعماري آرثر بلوفيفلد. وفي لندن راح يحلم بأن يصبح شاعرا، وكتب قصائد «ريفية - رعوية» لم تلفت نظر أحد. لذلك طوى حلمه الشعري، وبدأ يجرب حظه في كتابة الرواية منطلقا من رصد دقيق للحياة الاجتماعية الانجليزية. وهو كان في السابعة والعشرين حين عرض رواية أولى له عنوانها «الفقير والسيدة» على ناشر رفضها ثم عرضها على آخر فلم يكن مصيرها أفضل. لذلك تخلى عنها ودمج أحداثها وشخصياتها في رواية كتبها في العام التالي بعنوان «فضيحة في حياة وريثة» ونشرت هذه، لكنها لم تلفت نظر الكثيرين. بعد ذلك حين حلت سبعينيات ذلك القرن، نشر هاردي روايات عدة، مليئة بالمغامرات... وكان الحظ إلى جانبه هذه المرة، حيث بدأت رواياته تُقرأ على نطاق واسع. وكان من أشهرها - في ذلك الحين - «ضروب الترياق الميؤوسة» و«تحت أوراق الشجر الخضراء» وخصوصا «عينان زرقاوان» التي روى فيها حكاية حبه الصاخب لايما لافينيا التي تزوجها في العام 1874.
بيد أن الشهرة الحقيقية لم تأته الا مع نشر روايته «بعيدا عن الجمهور المثير للجنون» في العام 1876، وهي الرواية التي بدأ بها سلسلة أعماله الكبرى والتي جعلت منه أشهر كاتب روائي انجليزي في تلك السنوات ومنها طبعا «عودة المواطن» (1878) و«عمدة كاستربردج» (1886) و«الحطابون» (1887) ثم «تيس داربرفيل» (1891) و«جود الغامض» (1895).
... ولئن عاش توماس هاردي حتى العام 1928، فان العام 1892 كان هو العام الذي نشر فيه آخر رواية كتبها، إذ أنه بعد ذلك عاش في منزل له ابتناه في دورشستر، وأعلن انه سئم كتابة الرواية وقرر تكريس وقته لكتابة الشعر، ولإعادة النظر في قصائد عدة كان كتبها أيام الشباب ولم ينشرها أبدا. وعلى الرغم من اهتمام توماس هاردي بالشعر وحبه له وتفضيله إياه على الرواية، فإنه أبدا لم ينجح كشاعر نجاحه كروائي، مع أنه نشر أكثر من عشر مجموعات شعرية، يرقى بعض ما فيها إلى أجمل ما كتب في اللغة الانجليزية خلال الربع الأول من هذا القرن. أما آخر ما كتبه توماس هاردي، قبل خمس سنوات من رحيله فكان مسرحية مأساوية عرضت بالفعل بعنوان «مأساة ملكة كورنواي الشهيرة» وهي مقتبسة عن حكاية «تريستان وإيزولت» في قالب شعري بليغ. لكنها رغم جمالها لم تلق ما كانت تستحقه من نجاح ويبدو في أيامنا هذه أنها طويت في ملفات النسيان.