ربما يحق لنا أن نقول اليوم إن الخوف الذي يعيشه مئات الملايين من البشر في شتى أنحاء العالم وهم مسمرّون في بيوتهم، ليس بالشيء الخطير مقابل الرعب الذي عاشه كُثرٌ منهم قبل نحو عشرة أعوام مع اقتراب عام 2012 الذي كانت نبوءات النصابين والعرافين والمنجمين قد حدّدته لحدوث يوم الحشر. ويمكننا أن نتذكر اليوم كيف أن السينما راحت تستخدم في ذلك الحين كل تقنياتها وألاعيبها وحتى ما تيسّر من خزعبلات متاحة لها لتقدم شرائط افترضت من ناحية أن في إمكانها أن تعزز ذلك الرعب وصولاً إلى ما اعتقدته لعبة "تطهير" (كاثارسيس) تخفف من هولِه، وربما تساعد على جعل "النهاية" أخف وطأة، ومن ناحية ثانية أن في إمكانها أن تستفيد مادياً إلى أبعد الحدود من ذلك الرعب قبل أن يتبين أنه رعب ساذج.
أفلام كوارث بالكيلو!
يومها إذاً كثرت أفلام الكوارث المرتبطة بـ"حتمية" مجيء العام الموعود وفي ركابه النهاية الموعودة. وطبعاً نعرف أن لا شيء حصل حينها، وأن الأفلام سرعان ما بدت على حقيقتها: أكاذيب تقنية لا مصداقية لما تقول، حتى إن بدت بعد كل شيء ممتعة مسلية، للصغار على وجه الخصوص، وذلك على عكس ما كان قد حصل في العالم حين دقت قبل ذلك بألف عام ونيف الدقائق الأخيرة من عام 1000 الميلادي الذي كان بدوره موعداً مضروباً لنهايةٍ للعالم متنبيء بها كذلك.
في ذلك الحين كان الرعب أكبر، لكنه لم يكن منتشراً، إذ لم تكن هناك سينما ولا وسائل اتصال جماهيرية ولا تلفزة. كان كل شيء يُلعب يومها في الكنائس – بالنظر إلى أن النبوءة كانت مسيحية – والتي تحولت إلى ندبٍ وصراخٍ وعويلٍ وأهلٍ يحضنون أبناءهم وما إلى ذلك.
صحيح يومها أن الرعب سرعان ما زال بعد مرور دقائقٍ لم ينته فيها العالم، بيد أن كُثراً من ناس طيبين، وساذجين أيضاً بقوا مرعوبين لسنوات قبل أن يضربوا موعداً مع كارثة النهاية بعد ألف عام باعتبار أن "الدنيا تؤلف ولا تؤلفان" كما يفيدنا حسٌ شعبيٌّ!
ولنعد هنا إلى زمننا الحاضر، وتحديداً إلى العام ونصف العام اللذين سبقا النهاية الجديدة المفترضة، ولنتوقف تحديداً عند سينمائي ما كان يمكنه إلا أن يدلي بدلوه في المناسبة هو الذي اعتاد في أفلامه أن يدنو من المسائل الشائكة بحس إبداعي لا يُضاهى، وبشيء من سخرية قد لا تكون على رؤوس الأشهاد. هو الدنماركي لارس فون ترير الذي لا شك أنه اليوم أشهر مبدعي بلاده على الصعيد العالمي خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وعُرف على وجه الخصوص بأن من المستحيل عليه أن يصنع سينماه كما يصنع الآخرون سينماهم. من هنا كان طبيعياً أن يدنو بشكل مغاير تماماً من الموضوع "نفسه"، موضوع نهاية العالم، في فيلم حققه ليعرض في مسابقة مهرجان كان السينمائي الرسمية في عام 2011 كتمهيد لتَواكبِه عما قريب مع كارثة النهاية.
يتحدث فيلم ترير هذا عن نهاية العالم إنما من خلال عرس فتاة. ونهاية العالم هنا بالمعنى الحرفي للكلمة. الفتاة صاحبة العرس هي جوستين إحدى شقيقتين ينقسم زمن الفيلم بينهما بالتساوي، حيث إنه يتألف من قسمين يحمل أولها اسم جوستين عنواناً له، فيما يحمل الثاني اسم الشقيقة الأخرى كلير.
في القسم الأول لدينا العرس بدءاً من توجه جوستين إلى القصر العائلي الفخم والمنعزل، حيث يقام الاحتفال وسط صخب العائلة والأصدقاء، لكن العروسين سيصلان متأخرَيْن لأن السيارة "الليموزين" المبالغ في طولها على الطريقة الأميركية تعجز عن الالتفاف وسط طرق الغابات، ولكن هذا التأخير الذي يقلق الجميع في الانتظار لا يبدو أنه يثير قلق العروس نفسها، فهي منشغلة البال بعِدة أمور يبدو أن زواجها أقلها أهمية، أما الأكثر أهمية فهي نهاية العالم إذ نراها تتمسك بما بات البعض يتوقعه من اصطدام حتمي لكوكب آت من الفضاء الخارجي يدعى "ميلانكوليا" أي "الكآبة" على اسم لوحة شهيرة للرسام ألبريخت دورر، بكوكب الأرض.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بالنسبة إلى المتوقعين سيكون الاصطدام خلال أيام وسيقضي على العالم كله. وطبعاً لن يأخذ أحد، باستثناء جوستين، الأمر على محمل الجدية. بل إن جوستين نفسها لا تبدو مرتعبة، فهي أصلاً امرأة تتوق إلى النهاية ومن دون أن يخلّف هذا لديها أية مرارة، فتتصرف على سجيتها في الاحتفال وتراقب أحوال من حولها ولا سيما ما يدور بين والديها المطلقين (الأب عابث شديد السخرية والأم صارمة إلى حد كبير) والسخافات التي يقترفها رب عملها المدعوّ إلى الاحتفال، وسمات الشر البادية لدى صهرها زوج كلير، ولا سيما تصرفاته التي تبدو على عكس جوستين محبة للحياة معتقدة أنها ستدوم إلى الأبد.
نهاية هادئة وشخصية!
في القسم الثاني من الفيلم وهو المتركز، إلى حد ما، حول كلير، سينقلب هذا كله: تدور أحداث هذا القسم بعد أيام من العرس الذي أخفق. الآن بات واضحاً أن جوستين كانت محقة في تصديقها النبوءة فالكوكب القاتل يقترب ولم تعد تفصل الأرض عن النهاية سوى أيام قليلة. وبالطبع هنا، لأننا في فيلم لمخرج كبير ولسنا في واحد من تلك الأفلام الخرافية العلمية الأميركية التي تصوّر نهايات متخيلة صاخبة للعالم مع مؤثرات بصرية ضخمة وألوف الكومبارس وشتى آيات الخراب والصراخ والدماء وما إلى ذلك، ولأننا في فيلم تأملي عميق، لن نرى النهاية إلا بصورة هادئة من خلال شخصيات في حديقة القصر تحت كوخ خشبي بسيط بني تحقيقاً لرغبة الفتى ابن كلير.
غير أن هذا كله ليس هو المهم هنا. المهم بالنسبة إلى الفيلم "دراسة" رد فعل الأختين على ذلك الحدث قبل وقوعه، فإذا كانت جوستين تتقبل الأمر منذ البداية - أي في القسم الأول من الفيلم، على الأقل - بشيء من الهلع والاكتئاب فيما أختها تسرّي عنها نافية التوقّع مقبلة على الحياة. فجوستين تقدّم إلينا منذ البداية حبورة حنوناً تعيش حياتها بهدوء على عكس كلير التي تبدو خلف قناع الحبور قلقة متطرفة في ردود فعلها. وسنفهم بالتدريج أنها ليست خائفة من النهاية بقدر ما هي قلقة من عدم حدوث النهاية المتوقعة. أما القلبة التي تحدث في الجزء الثاني، فهي في الأساس تطاول تصرّف الشقيقتين، إذ هنا وأمام النهاية الحتمية تبدو هذه النهاية منشودة دافعة إلى هدوء تأملي مريح لدى جوستين وإلى رعب حقيقي في المقابل لدى كلير.
متعة الكارثة من مبدع مختلف
واضح هنا أن كلاً من الشقيقتين تمثل جانباً من تناقضاتنا الداخلية ليس فقط إزاء حدث حاسم كهذا الحدث الكبير. أما السؤال الوجودي الذي يبني عليه المخرج/الكاتب فيلمه كله فإنه يكمن ها هنا: في تعلقنا بالحياة أو بالموت وفي عبثية هذا كله. في عبثية الوجود الإنساني. غير أنه من الصعب أن نبحث في فيلم لفون ترير عن معنى أو عن مغزى أخلاقي، فالحقيقة هي أنه ومهما كان من شأن هذا المعنى وعمقه الفلسفي وأسئلته الحاسمة، يظل الأساس بالنسبة إلى سينما فون ترير أساس فرجة وإن حمّل هذه الفرجة قلقاً واعتراضات وصراعات واستفزازات صارت كلها علامات على سينما تريد في كل فيلم وليس في المنظومة المتكاملة للمبدع ككل، أن تعيد بناء الكون والأسئلة الكبرى (أخلاقية كانت أو وجودية أو جمالية أو فلسفية) من جديد. إنها سينما تريد أن تحلّ نفسها بديلة للإبداع البشري ككل في كل فيلم.
ولعل الغريب في هذا الفيلم هو أن "نهاية العالم" تحدث فيه بالفعل وسيصطدم الكوكب الدخيل بكوكبنا ويدمّره، ولكن لن يشهد الحادث الجلل سوى امرأتين وصبي احتموا تحت كوخ وهمي مؤلف من بضع قطع من الخشب، ولكن في مشهد أخّاذ وعلى وقع موسيقى تجعل نهاية العالم بسيطة حنونا ورائعة الحسن. أفلم نخبركم أعلاه أن فون ترير لا يفعل أبداً كالآخرين؟