استطاعت الانتفاضة اللبنانية وضع السلطة أمام مفترق طرق، ما دفع الحكومة إلى تقديم استقالتها أكتوبر (تشرين الأول) الفائت، وكان ذلك تتويجاً لجهود الشارع.
ومنذ ذلك الحين، يشعر المراقب أن الانتفاضة تجمدت، أو بطأت حركتها. قد يكون هذا مسار الثورات الطبيعي، إذ غالباً ما تخرج بزخم وحماسة، وتبدأ بقوة تحطيمية غير منظمة، ومن ثم تقف مرتبكة بغياب مشروعها السياسي والاجتماعي، لتعيد البناء مجدداً. وهذا من المآخذ على الثورات تاريخياً، وصفها بالرومنسية والبحث عن المثالية، ما سبب فشل لائحة طويلة منها.
حتى الآن لم تجد الانتفاضة اللبنانية مشروعها السياسي، الذي تستطيع فرضه على أركان السلطة، أو مجموعة قيادية تستطيع أن توجه مسار التحركات، ما يجعلها في حالة ركود وهبوب، معتمدةً الصبر على قاعدة انتظار ما سيأتي حيناً، أو مستنفرة طاقاتها في النزول إلى الشارع، بعد قرار حكومي غير شعبي، أو حدث معين (ارتفاع في الأسعار...إلخ) أحياناً.
في الوضع اللبناني، النظام الطائفي متجذر في المؤسسات، ويعتمد على المحسوبيات الدينية، ما يجعل هذا النظام، أقرب إلى الديكتاتورية منه إلى الديمقراطية، وقد يكون المنتفضون بحاجة إلى مشروع جامع، ليواجهوا به الزعماء التقليديين، الذين يحاولون جاهدين أخد مسار الانتفاضة إلى مشاريعهم الخاصة غالباً، أو إلقاء الصبغات الطائفية على مسار التظاهرات.
العودة
عادت الانتفاضة إلى الشارع مجدداً نهار الثلاثاء الماضي (21 -4-2020) في اليوم الـ 188 على إنطلاقها، بعد الارتفاع المتسارع لسعر صرف الدولار، وما لحق ذلك من غلاء في الأسعار، إضافة إلى تزايد أعداد العاطلين من العمل.
لكن هذه المرة، كانت انتفاضة مع كمامات طبية وقفازات، وبقي المتظاهرون في سياراتهم احتراماً للتباعد الاجتماعي في زمن فيروس كورونا، حيث كان المتظاهرون المعزولون بين نارين، نار الجوع أو نار كورونا. وتزامنت مسيرات المتظاهرين مع بدء البرلمان جلسة تشريعية تمتد لثلاثة أيام، حيث أجبر الفيروس النواب أيضاً، بنقل مكان اجتماعهم إلى قاعة قصر الأونيسكو.
أين أصبح مشروع الانتفاضة؟
يقول الأستاذ الجامعي في العلوم السياسية جميل معوض، في حديث لـ "اندبندنت عربية"، إن "على الثورة تطوير مشروع سياسي - اقتصادي من أجل التفكير بعقد اجتماعي جديد بين الدولة والمواطن. عقد يقوم على العدالة الاجتماعية. وهناك العديد من المشاريع المطروحة، لكن لا رابط بينها كعناوين وبين الناس العاديين ومن يشكلون رافعة أساسية لهذه البرامج".
وعن أبرز التحديات، يشير إلى أن التحدي الأساس أمام الثورة، أن البرامج من دون ناس تبقى عناوين عريضة وطوباوية، "الثورة لا يجب أن تقتصر على الساحات، إنما أن تطور نفسها مع الناس".
ولكن بين المثالية وتطبيق البرنامج، هل يمكن تصنيف الانتفاضة على أنها ثورة؟ يجيب، "طبعاً ما حدث ليس بثورة، إذ إنه لم يشكل قطيعة مع ممارسات الماضي. إنها انتفاضة شعبية، وشرط تحولها إلى ثورة هو البرنامج السياسي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
سبق هذه التظاهرات اتهامات لقوى سياسية بالوقوف وراء تحركها، حيث سرت إشاعات أن الحزب التقدمي الاشتراكي، والقوات اللبنانية، وتيار المستقبل يتكتلون لتأسيس حلف معارض بوجه الحكومة، وهذا ما نفته الأحزاب الثلاثة. وذهبت الإشاعات إلى حد القول إن رئيس مجلس النواب نبيه بري يساند هذا الثلاثي في معارضة الحكومة.
في المقابل، يوضح الكاتب مصطفى فحص لـ "اندبندنت عربية"، أن "أطراف السلطة والانتفاضة يدركان أن الأمور ذاهبة إلى تصعيد خطير وحساس قد يؤدي إلى فوضى وعنف أهلي، لذلك تستعد المنظومة الحاكمة بشقيها السلطة والمعارضة، إلى الاستعانة مجدداً بأدواتها التقليدية التي أمّنت لها ذرائع استمرارها في السلطة إلى الآن، والأخطر أن الطبقة السياسية بشِقيها (موالاة ومعارضة)، وعلى الرغم من انقساماتها الطائفية والمذهبية العمودية والأفقية، لا تتردد في التخندق معاً، لحماية نظام مصالحها المشتركة، ومنع السقوط النهائي لأي طرف منها، مهما ضعف، أو تلاشت قوته، لقناعتها بأن سقوط أي جزء، يؤدي إلى سقوط على غرار حجارة الدومينو".
أما عن إشاعة أجواء تشكل معارضة تقليدية، يرى فحص، "أن الحزب والعهد هما بأمس الحاجة إلى عودة الصراع على غرار نموذج 8 و14 آذار سابقاً، ما يتيح لكافة القوى السياسية فرصة ثمينة لإعادة رص صفوفها تحت ذريعة حماية المكتسبات والامتيازات، وفي احتواء بيئاتهم المتأثرة بخطاب انتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الأول)".
ويضيف "ترغب الطبقة السياسية مجتمعة، بالعودة إلى الاستثمار في طوائفها، فبالنسبة لها هي أدوات حزبية وعصبيات مذهبية فاعلة في مجتمعات اعتادت عدم الخضوع لفكرة الدولة. والتباين الحاصل بين مشروع سيادة الدولة ومؤسساتها مقابل حرص الطوائف على استقلالية الجماعة المذهبية داخل الدولة، سيؤدي في المستقبل القريب إلى مواجهة قاسية بين الطرفين، خصوصاً حزب الله، وانتفاضة 17 أكتوبر، ستفرض تداعياتها نمطاً جديداً للحياة السياسية اللبنانية".
عودة الاصطفافات السابقة
في سياق متصل، يعتبر الكاتب مهند الحاج علي، أن عودة الاصطفافات السابقة وتشنجاتها المذهبية والمناطقية، هي"السلاح الذهبي لهذه الطبقة السياسية، العابر للجوع والسرقة والنهب والفشل، إذ يقف زعيم طائفة ويشير إلى الطرف الآخر لتحميله وطائفته مسؤولية الأزمة الحالية، ومن ثم يرد الزعيم الآخر بالأسلوب ذاته، ليُعاد إنتاج الصراع القديم الجديد وعصبياته للتغطية على الأموال المنهوبة، وعلى أي حراك وطني عابر للطوائف".
رأي المجتمع المدني
يقول الصحافي والناشط المدني طارق أبو صالح، من مجموعة لبنان ينتفض، "إن مجموعته لم تتوقف عن الحراك طوال الفترة الماضية ومنذ 17 أكتوبر، "نحن لم نعط ثقة للحكومة، حتى في فترة انتشار كورونا بقينا نتابع ونصدر بيانات، من موضوع تهريب العميل عامر فاخوري، إلى غيره من القوانين. الحكومة ومصرف لبنان هما من يستغلان أزمة كورونا لتمرير القوانين المجحفة بحق المواطن".
ويوضح أنهم كمجموعة كانوا ينتظرون رفع التعبئة العامة للعودة إلى الشارع، لكنهم "على تواصل دائم مع كل المجموعات في مختلف المناطق، لتحضير التحركات ولجبهة وخطاب معارض جديد".
وعن استمرارية التحركات، يشير إلى أنهم، "مستمرون، وطلبنا واضح: استقالة الحكومة الحالية، وتشكيل حكومة مستقلة من اختصاصيين، ولجنة تحقيق دولية تحقق بقضايا الفساد منذ التسعينيات إلى اليوم، لنعرف من كان المسؤول عن الهدر في البلد، كما أنه من غير المعقول أن تأتي المصارف وتمارس الـHaircut على رواتب وتعويضات المتقاعدين، وجنى عمر من عمل في الاغتراب لسنوات طويلة".
في المقابل، يوضح المهندس والناشط المدني رفول فرنسيس، أن الحكومة "لم تعطنا بوادر أمل، بعد المحاصصة التي جاءت في التعيينات الأخيرة، عدا عن أنها حكومة لون واحد، مع أن رئيسها يقول إنها حكومة مستقلين لكنها عكس ذلك".
ويرى فرنسيس، أن الحكومة "إذا كانت جدية في محاربة الفساد، فلتعلن من هم المسؤولون عن الفساد والهدر ومن يعطل أداءها حتى اليوم، لكن بالنتيجة يظهر أنها متاوطئة معهم. إلى اليوم لم تكشف أسماء من هرّب الأموال إلى الخارج، وهذا يدل على فشلها حيث لا تبرير لها بما أنها حكومة اللون الواحد".