أعلنت الأرصاد أن اليوم الأول من شهر رمضان حر وعواصف وأمطار. وشددت دار الإفتاء على أن صلاة التراويح ستكون في البيوت، ويؤكد علماء الدين الرسميون أن تجمعات المواطنين بغض النظر عن سمو الأسباب حرام شرعاً. ويشير مسؤولو جهاز حماية المستهلك إلى أن التكالب على شراء السلع يعطي فرصة للمستغلين لممارسة هواياتهم في الجشع. في وقت يرى أساطين الدراما أن مخاوف الفيروس أصابت سير العمل ونجا البعض منها. أما جيش الطلاب والطالبات القابعين في بيوتهم فيعتبرون انقلاب الليل نهاراً، والنهار ليلاً بات فرض عين بحكم الشهر الكريم، بعدما كان اختياراً بفعل الفيروس.
يأتي شهر رمضان هذا العام محملاً رغماً عنه بحمل كورونا، الذي قلب أحوال الكوكب رأساً على عقب. قوانين العمل لم تعد محددة، وقواعد الدراسة لم تعد مشددة، وتفاصيل الانتقال من مكان لآخر لم تعد بديهية، وأساسيات التسوق والزيارات والترفيه والرياضة لم تعد مضمونة، وأمور المرض والتعافي لم تعد معلومة، ورمضان ليس استثناء. وقدومه هذا العام يأتي مصحوباً بنكهة الوباء ومخاوف عدواه ووساوس العزل والحجر والإغلاق والحظر.
حظر التراويح
حظر إقامة صلاة التراويح التي تشهد إقبالاً كبيراً بمن في ذلك من لا يصلي بقية العام يشعل أجواء رمضان المحظورة هذا العام. فبين فريق مؤيد لحظر الصلوات درءاً لمخاطر العدوى وبلاء الوباء، وآخر مندد بالحظر ومنتهج نهج "كورونا لا يصيب صائماً مؤمناً مصلياً" وثالث يتابع الفريقين وهو يتعجب من تديين الفيروس بعدما خضع للتسييس أسابيع طويلة.
أسابيع طويلة منذ تفجر وباء "كورونا" في أواخر العام الماضي، وجموع المصريين تأمل في أن يلملم الفيروس متعلقاته ويرحل كما رحل غيره من إنفلونزا الطيور والخنازير تاركاً لهم بحبوحة من الوقت وقدراً من الجهد للاستعداد للشهر الذي تنتظره ملايين المصريين، سواء للصوم والصلاة والتفرغ للروحانيات، أو للنوم طيلة النهار والاستيقاظ طيلة الليل لتمرير ساعات الصوم والاستمتاع بأوقات التسلية والترويح عن النفس، أو لتحقيق الأرباح الخيالية والمكاسب المادية حيث استثمار حمى الشراء والانتفاع من هوس المشاهدة التلفزيونية والاستفادة من صرعات الخيم الرمضانية وموائد الرحمن الخيرية وكراتين رمضان الغذائية.
لكن تبقى الكراتين محتفظة لنفسها بمكانة الصدارة ومحققة لقب "الأعلى قدرة على المقاومة والصمود وتحدي الفيروس". "كرتونة رمضان" تلك العلبة السحرية التي بدأت صرعة رمضانية ثم تحولت أساسيات اجتماعية ذات نكهة إنسانية تارة ومسحة استتابة تارة أخرى ومجالاً للتجارة السرية في كل الأحوال تثبت هذا العام إنها ضمن فريق المستفيدين من أجواء الفيروس.
كرتونة الوجاهة الاجتماعية
في سلسلة السوبر ماركت الشهيرة، ينهمك عشرات العمال في بناء أهرامات شاهقة من "كراتين رمضان". بدءاً من 80 جنيهاً (5.7 دولار أميركي) مروراً بـ150 جنيهاً (9.50 دولار)، وانتهاء بـ500 جنيه (31.66 دولار)، يسارع العملاء بتكديس الكراتين في عربة التسوق، كل بحسب مستواه الاقتصادي وغاياته من التصدق. بينما يلوح البعض أن "كرتونة رمضان" فيها خلطة سحرية تحوي راحة بال وتوفير وقت وجهد للراغبين في التصدق حيث قام آخرون بتجميع المحتويات من سمن نباتي وسكر ومعكرونة، ووجاهة اجتماعية ورسالة تفاخرية حيث مجرد حملها يغني عن رفع راية "انظروا كم أنا مؤمن خيّر متصدق"، وراحة ضمير حيث قناعة بأن المحتويات تطعم الأفواه الجائعة وتملأ البطون الخاوية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يستند من يتبنى هذا الرأي إلى تنامي سوق سرية تُجرى فيها مقايضة محتويات الكرتونة من قبل بعض الحاصلين عليها بسلع أخرى أرقى وأسمى من صابون للغسالات الأتوماتيك أو سمن بلدي معتبر أو لحوم ودواجن وأسماك. كما يشير هؤلاء إلى أن بعض الجمعيات الخيرية التي تجمع الملايين تحت مسمى "كرتونة رمضان"، ربما لها صلة بجماعات سياسية تلتحف بالدين، أو تقتص من أموال الكراتين لسداد رواتب العاملين وحوافز وبدلات، ناهيك عن أن إطعام الأفواه من قبلهم لا يصحبه إطعام العقول والتوعية بمغبة دائرة الفقر المغلقة وغيرها.
لكن أصوات هؤلاء تظل حبيسة الأثير العنكبوتي هذا العام، وتصدح في المقابل أصوات الإعلانات التلفزيوينة والإذاعية حيث مناشدات للصائمين الخيرين الراغبين في رفع البلاء ودرء خطر كورونا لشراء "صكوك درء بلاء الفيروس". وعلى الرغم من الغموض الذي يكتنف صكوك درء البلاء، وأوجه صرفها، وهوية مستحقيها، فإنها تشهد هذا العام إقبالاً ملحوظاً. ربما يكون تعلق بقشة، ربما ترفع غمة الفيروس، أو رغبة في تجديد قنوات التصدق الرمضاني ومواكبة روح العصر.
عصا القانون
مواكبة روح العصر في رمضان 2020 وضعت العديد من المسؤولين في خانة الشد والجذب. الإجراءات المتبعة بصرامة من قبل الدولة لمنع التجمعات لا بعصا القانون، ولكن بجزرة التوعية تارة والتضييق تارة أخرى، تسفر عن جولات كر وفر مكوكية. وزارة الأوقاف منذ إعلانها عن تعليق الجمع والجماعات وصلاة التراويح في المساجد مع غلق المساجد غلقاً تاماً طيلة الشهر الكريم والدنيا تضرب تقلب.
كثيرون اعتبروا القرار، رغم يقينهم بأن الفيروس واقع والوباء حاصل، حرباً على الدين وتضييقاً على المتدينين. ولأن جولات الكر والفر وتربصات المصريين وترصداتهم للالتفاف حول القواعد والقوانين أمور معروفة، فإن المتابعين العقلانيين يفسرون القرارات الصارمة بمنع بث القرآن الكريم أو صلاة التراويح عبر مكبرات صوت المساجد سببها معرفة شبه يقينية بأن مثل هذا البث من شأنه أن يؤدي إلى تجمع المصلين على أبواب المساجد أو أسطح العمارات أو مداخلها وكأن فيروساً لم يكن.
ولم يكن أحد يتخيل أن تؤدي قرارات وتصريحات وزير الأوقاف المصري مختار جمعة حول تعليق صلاة التراويح والمعضدة بكمّ هائل من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وتأكيده على أن المنع المطبق "من منطلقات شرعية بحتة هدفه الحفاظ على النفس والانتقال من المتعذر إلى بديله المتيسر وهو الصلاة في المنزل، مع تأكيدنا أن من كان معتاداً على الصلاة في المسجد ومنعه العذر كتب له مثل أجر وثواب ما كان يعمل قبل أن يحبسه العذر، حيث يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم)، "إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً"، إلى تفعيل هاشتاغ "أقيلوا وزير الأوقاف". الذي يتداوله البعض من منطلق أن الفيروس لا يمكنه أن يصيب المصلين، وتناوله البعض الآخر عملاً بمبدأ "الصيد السياسي في مياه الفيروس العكرة".
مياه الفيروس العكرة
تمتد أزمة كورونا هذا العام لتصل إلى تجار متخصصين في تكديس الثروات في أزمنة الأزمات. وإذا كانت الحروب عرفت "أثرياء الحرب" فإن العام الحالي عرف "أثرياء الفيروس". وفي شهر رمضان تتلون الثروة بألوان عادات وتقاليد الشهر الكريم. ولأن لا "كورونا المستجد" أو غير المستجد قادر على تبديل عادات المصريين الشرائية أو تغيير تقاليدهم الاستهلاكية في هذا الشهر، فإن أخبار مصادرة أطنان من سلع رمضان الفاسدة والقبض على موردي المنتجات الرمضانية غير الصالحة للاستهلاك الآدمي تسير على قدم وساق. أطنان من السلع الغذائية التي يتم تخزينها وإخفاؤها من المحال لـ"تعطيش السوق" وخلق حالة من الهلع لدى المستهلكين ثم إعادة طرحها بأسعار مرتفعة، وغيرها أطنان من القراصيا والمشمشية وقمر الدين التي تم تعديل تواريخ صلاحيتها المنتهية لبيعها يُجرى الإعلان عنها يومياً.
ويومياً يطالع المصريون أخبار الدراما الرمضانية وجهادها الشرس في وجه كورونا. هذا المسلسل نجا بنفسه وبالملايين التي تقاضاها أبطاله والملايين الأخرى المتوقعة من عرضه وإعلاناته، وذلك تعثر إكماله وتبعثرت آمال أبطاله في اللحاق بالسباق الرمضاني فتتوالى تصريحاتهم بأن "عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم" وأن "قدر الله وما شاء فعل" وأن "رمضان هذا العام سيتم تخصيصه للعبادة والتضرع إلى الله لرفع البلاء والقضاء على الوباء".
نوايا التجمعات السرية
حرب القضاء على الوباء لا تتعارض ونوايا بدأت تنكشف ومخططات تنفضح. سطح العمارة يوشك على التحول إلى خيمة رمضانية لا تفرق عن مثيلتها في زمن ما قبل كورونا سوى أن تلك ينزل إليها المترمضنون وتلك يصعد إليها الملتفون على الحظر. الملتفون على التجمعات والمتوقعون للحشود على أبواب محال القطائف والكنافة والحلويات الرمضانية أعدوا خططاً بديلة. فبدلاً عن وقوع مهمة الشراء على فرد واحد من أفراد الأسرة، بات جميع أفراد الأسرة قابلين للتجمهر والاحتشاد والاصطفاف على أبواب محال الكنافة، بحكم تعطيل المدارس والجامعات وإغلاق العديد من المؤسسات. التناقض الواضح بين تجنب التجمعات والإغلاق الجزئي للأعمال والكلي للمدارس والجامعات لمنع انتشار العدوى من جهة، والانخراط فيها أمام محال الحلويات والسوبر ماركت والاحتقانات الناجمة عن صداع الصيام في الأيام الأولى مع الخوف من التقاط العدوى لا تواجهه سوى كتائب الديليفري التي بزغ نجمها في زمن كورونا ويواصل تألقه في رمضان بنكهة كورونا.
رمضان بنكهة كورونا هذا العام يؤجج مشاعر مختلطة مضطربة. البعض قرر الاستسلام للبكاء على لبن التراويح المسكوب وعزائم الأسرة المتبخرة في هواء الحظر والأجواء الصاخبة التي يخيم عليها هلع العدوى. والبعض الآخر اعتبر الحظر والعزل ومحدودية الحركة فرصة ذهبية للتركيز في العبادة بعيداً عن التزامات الزيارات والعمل.
يتندر البعض بأن كورونا وضع حداً لمساخر العمل الحكومي وقضاء المصالح التي تتعرض لشلل شبه تام وتأخير شبه كلي وعرقلة شبه مميتة في هذا الشهر من كل عام بحجة "صداع رمضان"، أو مواعيد العمل الرمضاني القصيرة"، أو "أستاذ حسين الغائب عن العمل لعمرة رمضان، أو مدام عفاف التي لا تأتي للعمل في رمضان لدواعي الاعتكاف". فكل ما سبق معطل عن العمل بيد كورونا لا بيد حجج رمضان والالتزام بكسل الصيام.
فوانيس رغم الحظر
ويظل الالتزام بفانوس رمضان طقساً لا ينال منه فيروس أو يقتص منه خوف من عدوى. الفوانيس في كل مكان. صحيح أن صرعات فانوس محمد صلاح (لاعب الكرة المصري الدولي) وحسن شحاتة (مدرب كرة القدم الشهير) وغيرهما لم تسفرا عن جديد هذا العام، لكن الفيروس دفع بالفانوس المصري مجدداً نحو القمة مزيحاً الفانوس الصيني عن الصدارة. تقليص الواردات أعاد للفانوس المصري هيبته، لا سيما المزين بقماش الخيامية المصري الشهير، الذي تسلل بهدوء إلى العديد من الشرفات ولسان حاله يقول: إنه رمضان حتى وإن كان بنكهة كورونا.