ما إن تدخل إلى زقاق البلدة القديمة في مدينة نابلس الفلسطينية (شمال الضفة الغربية)، حتى تتغلغل إلى أنفك رائحة السمسم المحمص التي تعبق في أرجاء المكان. فمعصرة أبو خرمة التي يزيد عمرها على 110 أعوام ما زالت إلى اليوم تعمل بالطريقة التقليدية. وفيها حجارة الطاحونة الضخمة، التي تدور فوق حبات السمسم، لا تكترث البتة بجمال الآليات الحديثة والتكنولوجيا.
تعود بدايات المعصرة إلى عام 1908، إبان الحكم العثماني (التركي)، حيث كان في فلسطين 20 معصرة فقط. واستمر العمل بها بطريقة تقليدية، باستخدام الحيوانات، حتى خمسينيات القرن الماضي.
يقول تامر أبو خرمة، وهو وريث من الجيل الرابع لـ "اندبندنت عربية"، "كانت صناعة السمسم إحدى الصناعات الهامة في الاقتصاد الفلسطيني، حيث اعتبرت جزءاً من الهوية الوطنية الثقافية والاجتماعية لارتباطها بالتراث والتقاليد والطب الشعبي قديماً. فزيت السمسم كان عنصراً أساسياً في استخدامات الطعام والعلاج لدى الفلسطينيين، إلى جانب زيت الزيتون".
لا تزال المعصرة تحتفظ حتى اليوم بالطاحونة الحجرية القديمة. ويروي أبو خرمة أن جد والده جلب حجارتها البركانية بداية القرن الماضي من منطقة حوران السورية، "حيث كانت ولا تزال تستخدم لطحن السمسم"، مشيراً إلى أن وصولها إلى فلسطين استغرق أشهراً طويلة "بسبب ثقل وزنها".
مرهقة وصعبة
عملت معصرة أبو خرمة عشرات السنوات مستخدمة الحيوانات، وكانت الجِمال والخيول تدور حول الطاحونة لعصر السمسم. لكن مع بداية الخمسينيات، ومجيء الكهرباء، استبدلت الحيوانات بمولد كهربائي.
وعن مكونات المعصرة وطريقة الصناعة التقليدية، يقول أبو خرمة، الذي يحترف هذا العمل منذ 40 عاماً، "كانت عملية إنتاج زيت السمسم ومشتقاته صعبة للغاية، وتحتاج إلى وقت وجهد كبيرين. فالطاحونة المكونة من حجرين ضخمين هي العنصر الأساس في الإنتاج، حيث كنا ننقع السمسم بالماء والملح، داخل أحواض حجرية، لثماني ساعات تقريباً، وذلك لغسله من الشوائب وتنقيته وتسهيل تقشيره. وبعدها، ينقع بماء حلو لساعات عدة حتى يجف تماماً، ومن ثم تنقل بذور السمسم النقية إلى داخل فرن عربي قديم، كان يُستخدم للتحميص على حرارة عالية. ولدينا القنوات التي كانت تُستخرج الطحينة بداخلها أيضاً".
وكغيره من أصحاب الصناعات التقليدية، يطمح أبو خرمة إلى ترميم معصرته وتجميلها، ثم تحويلها إلى متحف تراثي، لا يخدم السياحة فحسب، بل يستقبل أيضاً طلاب المدارس والجامعات والمؤسسات التعليمية المختلفة، لتمكينهم من التعرف إلى الطرق القديمة في صناعة السمسم ومشتقاته، وأهميته بالنسبة إلى الاقتصاد الفلسطيني.
سمسم مستورد
اختفت زراعة السمسم بشكل شبه كلي من فلسطين، على الرغم من أنها كانت مصدر دخل رئيس للمزارعين. ووفق إحصائية الصناعة الأولى، الصادرة خلال الانتداب البريطاني عام 1928، بلغ عدد المعاصر آنذاك 45 معصرة. لكن بعد انخفاض إنتاج السمسم بشكل كبير في البلاد، خلال السنوات الماضية، لم يتمكن أصحاب هذه الحرفة من الصمود.
هكذا، اضطر عدد منهم إلى إغلاق المعاصر التقليدية أو استبدالها بأخرى آلية وحديثة. والأخيرة تعتمد على السمسم المستورد من أفريقيا، في إنتاجها الطحينة ومشتقاتها من الحلاوة، والكُسبة (بقايا المعاصر، التي تقدم غذاءً للمرضعات) وزيت السيرج (السمسم) والقزحة (حبة البركة).
إهمال واندثار
الباحثة في وزارة السياحة سارة الشماس، التي أعدت دراسة حديثة عن معاصر السمسم في فلسطين، تقول "هدف التفكير والاهتمام بدراسة هذا الموضوع إلى الخروج بتوصيات حول ضرورة عودة زراعة السمسم إلى سابق عهدها، خصوصاً أنها اختفت بشكل شبه كلي من البلاد".
ووفق الشماس، "أدت الحروب والغارات المتتالية إلى تراجع هذه الزراعة وصناعاتها في فلسطين، إضافة إلى غياب الوعي بأهمية الحفاظ على الصناعات التقليدية، بخاصة معاصر السمسم التقليدية".
كما أن سياسة إسرائيل، في مصادرة الأراضي الفلسطينية الزراعية الخصبة، أسهمت كثيراً في تقليص المساحات المزروعة بالسمسم.
وتدعو الشماس الجهات الرسمية الفلسطينية والمتخصصين إلى تقديم الدعم لأصحاب المعاصر التقليدية من أجل إعادة تأهيلها والمحافظة عليها، وحماية ما تبقى منها. فهي "جزء من التراث الوطني الفلسطيني".
تراث غذائي
يعتبر السمسم لدى الفلسطينيين عنصراً أساسياً في صناعة الحلويات الشعبية، مثل البرازق والكراكيش وأطباق الحلبة والقزحة وحلوى عيد ميلاد المسيح (السمسمية)، وكعك القدس (كعك بسمسم). كما يضاف إلى الزعتر المطحون والدقة، في حين تستخدم بذوره في مناقيش الزعتر بالسمسم والفطائر والمعجنات والزلابية الشهيرة في فلسطين.
يذكر أن أقدم معصرة للسمسم في البلاد موجودة في مدينة الخليل (جنوب الضفة الغربية)، ويمتد عمرها قرابة ألف عام، حيث تم تأسيسها في العصر المملوكي، عام 1300. وفي مدينة القدس، هناك معصرتان، أعيد تأهيل واحدة وتعمل حتى الآن، ويعود تاريخها إلى أكثر من 350 عاماً.