لا شكّ أنّ القراء المطلعين على تاريخ المسرح الأميركي في القرن العشرين سيدهشون وهم يروننا ننسب هذا العمل إلى الموسيقي الألماني كورت فايل بدلاً من كاتب النص الأميركي إلمر رايس الذي تعتبر المسرحية الحاملة هذا العنوان من أشهر أعماله، إلى درجة أنها تُرجمت وقُدّمت في عددٍ لا بأس به من اللغات، بينها العربية.
لكننا، سنبادر هنا بأن نقول لهم إن ليس في الأمر خطأ مطبعي ولا قصور معرفي. ما نتحدّث عنه هو، تقريباً، العمل نفسه، لكن في صيغته الأوبرالية من منطلق أن من عادة الأوبرا أن تُنسب إلى صاحب الموسيقى. ولنضف بأن ما نفعله هنا إنما هو، من منطلق ما، نوع من "الانتقام" المنصف لفايل على ما أصابه من إجحاف خلال عمله الطويل والبديع مع مواطنه برتولد بريخت.
فالحال أنه إذا كان قرّاء بريخت ومتابعو أعماله يعتبرون دائماً أن أشهر تلك الأعمال "أوبرا القروش الثلاثة" عملاً بريختياً خالصاً، فإن كثراً منهم قد لا يتذكّرون أنّ الموسيقى الرائعة التي بُني عليها العمل هي من إبداع كورت فايل، وكذلك حال "مسرحية" مغناة أخرى أوبرالية بدورها تحمل اسم بريخت، وهو أمر طبيعي على أي حال، هي "ماهاغوني".
ولئن كان يمكن السكوت عن مثل هذا الظلم في حق فايل بالنسبة إلى مساهماته الموسيقية القيّمة في عديد من مسرحيات بريخت الأخرى، فإنّ هذا السكوت يبدو فادحاً. لكن ما العمل وبريخت هو بريخت؟ هو صاحب الظل الطاغي والشعبية الهائلة في الوقت الذي نعرف فيه أن كورت فايل لا ترقى شهرته، بأي حال من الأحوال، إلى شهرة بريخت، وإن كان لا يقل عنه موهبة وحضوراً في فنون القرن العشرين.
بدايات مسرح الشارع الغنائي
من هنا تلوحُ الفرصة سانحة لإعطاء فايل ولو بعض حقه حين يتعلق الأمر بالحديث عن أعمال أخرى حققها وهو في منفاه الأميركي، انطلاقاً من نصوص غير بريختية، وكانت لا بأس بها كمياً، حتى ولو أن أياً منها، مع استثناءات قليلة، لا يرقى إلى شهرة أعمال بريخت.
ومن هذه الاستثناءات "مشهد على الطريق" مسرحية إلمر رايس التي حين أقدم فايل على تحويلها إلى مغناة موسيقية راقصة عام 1949، كان عمرها قد بات نحو عقد ونصف العقد من السنين تحوّلت خلالهما إلى أيقونة مسرحية. وهكذا إذ وضع فايل بصماته الموسيقية عليها، كان في وسعه أن يربط اسمه بشكلها الجديد بشكل لا يضر الكاتب الأصلي. وفي هذا كان "الانتقام" الذي أشرنا إليه.
مع موسيقى فايل تحوّلت المسرحية إلى عمل غنائي قائم بذاته، ربما يمكن للبعض أن يرى فيه الرحم الشرعي الذي وُلدت منه أعمال بديعة أخرى من هذا النوع، لعل أبرزها "قصة الحيّ الغربي" التي ستتبع الأسلوب نفسه، بل المزج الموسيقي نفسه بين الجاز والموسيقى التعبيرية مع دنو من الموسيقى التجريبية الاثنى عشرية، تزييناً لغناء فردي وجماعي على الطريقة نفسها التي كانت تسم الأعمال المشتركة بين بريخت وفايل، بما في ذلك الانطلاق مما يمكن تسميته حتى في غناء الشارع بـ"أغاني الكاباريه" الموروثة من الغناء البرليني الرائع!
غير أنّ أروع ما في الأمر هنا هو هذا الخروج إلى الشارع في عمل غنائي مسرحيّ لا يقوم على حدث محدد، بل على جملة مشاهد من الحياة والعلاقات بين الجيران، مع أنها تعتبر واحدة من أبرز المسرحيات الواقعية والاجتماعية في المسرح الأميركي لمرحلة النصف الأول من القرن العشرين.
والطريف، أنّ المسرحية لم تفقد هذا الطابع حين صارت مغناة. فهي هنا أيضاً ظلّت خالية من الحدث، ومما هو استثنائي: إننا هنا أمام شريحة من الحياة المتواصلة تُقدّم إلينا في فصلين بدلاً من فصول المسرحية الأصلية الثلاثة، وتحديداً ضمن إطار ما مال إليه الكتاب، دائماً في القرن العشرين، من تقديم لشريحة الحياة تلك في مكان سكني واحد، يجمع أنماطاً من البشر يُقدّمون بصفتهم، في مجتمعهم الصغير، كناية عن أهل المجتمع الكبير.
ولمّا كان ما يحدث حقاً، يحدث في التراكم المتواصل، مُكوَّناً من أحداث صغيرة، تعني كل شيء في دلالات العلاقات في ما بينها، يصبح ما يُقدّم أمام أعيننا جزءاً من ذلك التراكم، وعلينا نحن معشر المتفرجين، إذ في إمكاننا تخمين ما حدث قبل رفع الستارة، لأن جزءاً منه يروى لنا في الفصول، أو من خلال ما يحدث في هذه الفصول، ونراه بأم أعيننا، ولكن مع فايل: نسمعه بآذاننا حيث تحوّل الكثير من الحوارات إلى أغانٍ فردية وجماعية. وصارت البطولة للطريق نفسها جزءاً أساسياً من مجتمع الناس الطيبين البسطاء الذين يتحدثون عن حياتهم تاركيننا نتخيّل ما سيحدث بعد ذلك، وتحديداً على ضوء موقعنا مما شاهدنا.
مع نهاية لا تقول لنا شيئاً محدداً، لأنها لا تخرج عن كونها ثرثرة جيران، هم هنا لكي يعلقوا على أحداث وتبادل بين شخصيات يعتقدون أنها، بالنسبة إليهم، مشهد يرونه، ناسين للحظة أن ما يرونه، وما نراه، يمكن أن يحدث لنا ولهم أيضاً، ليطلع غيرنا وغيرهم، يعلقون ويتحسرون، ويخيل إليهم أن "هذا لا يحدث إلا للآخرين".
فرصة آخر سنوات العمر
بالتحويل الموسيقي البديع الذي أسبغه على العمل يمكن القول إن كورت فايل شعر أنه قد استعاد اعتباره على أكثر من صعيد، وصار يعد واحداً من كبار موسيقيي القرن العشرين، خصوصاً أنه كان موسيقياً امتزجت لديه كما أشرنا الطليعية الألمانية بالحداثة الأميركية بالنزعة التمردية، التي نشأت في فيينا أوائل القرن، وأنتجت أحلى إبداعات الموسيقى الاثنى عشرية، بالجاز الصاخب الآتي من أفريقيا، وبأغاني الكاباريه البرلينية. والحال أن هذا كله ما جعل لكورت فايل عالميته وتميزه في الوقت نفسه، وحافظ له على مكانته الكبرى التي بات يتمتع بها اليوم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
منذ بداياته عرف كورت فايل بنزعته الثورية، فهو المولود في ديشاو 1900، كان لا يزال يافعاً حين تمرّد على أهله، وتوجّه إلى برلين، حيث درس مع الموسيقيين الكبيرين آلن برغ وإنغلبرت همبردنغ، وهذا طبعاً غير المغني الإنجليزي الذي تبنى الاسم نفسه في الستينيات! وخلال العامين 1919 - 1920 قاد الأوركسترا الأوبرالية في ديشاو، ثم تحوّل مرة أخرى إلى برلين، حيث تابع دراسته، وبدأ يؤلف قطعاً للآلات الوترية، وكانت قطعه الأولى تجريبية وتجريدية. أمّا الأوبرا الأولى التي لحنها فكانت بعنوان "الأطراف"، وهي من فصل واحد، أنجزها في 1926.
وفي العامين التاليين أنجز عملين أوبراليين آخرين، جعلاه يعتبر مع بول هندميث، أفضل مؤلف أوبرالي شاب في ألمانيا. وكانت تلك هي المرحلة التي التقى فيها بريخت، وبدأ التعاون معه، وكان أول عمل لهما هو "صعود وسقوط مدينة ماها غوني" (1927) الذي يسخر من الحياة في مدينة أميركية متخيلة. ومن بعده كانت "أوبرا القروش الثلاثة". غير أنّ الإجماع الذي ساد من حول هذا العمل سرعان ما انفرط بالنسبة إلى أعمال كورت فايل التالية، حيث بدا وكأنه يكرر نفسه.
مهما يكن فإنّ مشكلات فايل في تلك الآونة لم تكن فنية بحتة، بل كانت سياسية أيضاً، إذ في 1933 اضطر إلى مبارحة برلين هرباً من اضطهاد النازيين الذين اعتبروا عمله الموسيقي "عملاً منحطاً مؤلفه يهودي منحط".
وحين بارح فايل برلين أمضى بضع سنوات بين باريس ولندن، ثم توجّه عام 1935 إلى نيويورك، حيث كان النجاح الذي حصّده كبيراً، عبر عديد من الاستعراضات الأوبرالية، وكان من أبرز أعماله خلال تلك المرحلة "جوني جونسون" (1936)، و"درب الخلود" (1937)، و"السيدة في الظلام" (1941).
ومنذ ذلك الحين لم يتوقف فايل عن العمل، وكان تعاونه خصوصاً مع نصوص ماكسويل أندرسون وموس هارت وآيرا غرشوين شقيق جورج غرشوين. إضافة إلى ذلك، كتب كورت فايل في تلك المرحلة كثيراً من الأغاني والأعمال الموسيقية، لا سيما كونشرتو للبيانو وسيمفونيتين، لكن هذه الأعمال لم تلفت إليه الانتباه الذي كان قد واكب أعماله الأوبرالية.