هوي سعر برميل النفط أواخر الأسبوع المنصرم إلى ما دون الصفر في سابقة تاريخية تعد الأولى من نوعها، إذ إن بائعي النفط سيدفعون للمشترين لكي يأخذوا من بضاعتهم المكدسة. ويبرز فيروس كورونا وتداعياته على الاقتصاد العالمي والخسائر التي تسبب بها لجميع قطاعاتها متهماً رئيساً في هذه الحادثة التاريخية، وعلى الرغم من ذلك هناك أسباب أخرى دفعت أسعار النفط الأميركي للهبوط التاريخي بحسب متخصصين في الشأن النفطي، أبرزها حالة التخمة في أسواق النفطية الأميركية لارتفاع المخزون الاستراتيجي من هذه السلعة، بالإضافة إلى حرب الأسعار في الآونة الأخيرة، التي أسهمت في إغراق الأسواق العالمية بالنفط قبل الوصول إلى اتفاق بين دول أوبك+ لخفض الإنتاج. وهنا يبرز عدد من التساؤلات أبرزها كيف وصلت الأزمة إلى هذه المرحلة؟ وما تداعياتها على دول الخليج العربي الغنية بالنفط؟
التفرقة بين نفط "برنت" و"غرب تكساس"
في بداية الحديث عن الأزمة النفطية الحالية لا بد من التفرقة بين أنواع النفط، لا سيما أنهما مختلفان اختلافاً كلياً في الجوانب كافة. وقال المتخصص في الشأن الاقتصادي فهد بن جمعة لـ"اندبندنت عربية"، "لابد من التفرقة في ما يخص النفط الأميركي ونفط دول الخليج، وهو ما يطلق علية (نفط برنت)، فما حدث من انهيار في الأسواق النفطية كان نتيجة لامتلاء المستودعات في أميركا بالنفط. في حين أن نفط برنت يستخدم في التسويات النقدية، لذا فإن أسعاره لن تتأثر مما حدث في أميركا، لا سيما إذا أخذنا في عين الاعتبار أن صادرات دول الخليج والسعودية محدودة لها، إذ لا تتجاوز 400 ألف برميل".
كارثة حقيقية
ولفت إلى أن الاقتصاد العالمي في العموم يعاني كارثة حقيقية بسبب وباء كورونا، وأشار إلى أنه، "من المتوقع أن تمتد الآثار السلبية التي تسبب بها الفيروس إلى مطلع 2021، وفي أفضل الأحوال إلى نهاية عام 2020 الحالي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأوضح، أنه عند الحديث عن اقتصادات دول الخليج، فلا بد من التفرقة في ما بينها لاختلاف حجم الاقتصاد لكل دول، فالسعودية تعد الأكبر اقتصاداً على مستوى الشرق الأوسط وليس الخليج فقط، إضافة إلى امتلاكها تنوعاً في الإيرادات غير النفطية منذ إطلاق رؤية 2030، كما أنها تتشارك مع دول الخليج في ما يخص الأسواق النفطية وهي شرق آسيا، وتعد الصين أكبر مستورد للنفط السعودي. ويمكن القول إن تداعيات انتشار كورونا تسببت في انخفاض طلب الصين إلى ما يقارب 60 في المئة، ولكن بالنسبة لدول الخليج فلن يتسبب ذلك في مشكلة اقتصادية بسبب وجود احتياطيات نقدية لديها تستطيع استغلالها لتجاوز الأزمة".
وفي ما يخص المشروعات يرى بن جمعة، أن ما يمر به العالم اليوم يتوجب إعادة ترتيب الأولويات بشأنها، مشيراً في الوقت ذاته إلى أن التأثير السلبي في الاقتصاد يعتمد على حجم تفشي الوباء. وأشار إلى أنه "من المتوقع عند انتهاء الأزمة أن يستعيد الاقتصاد عافيته بشكل تدريجي وهو ما قد يستغرق سنوات".
العامل النفسي للصناعة النفطية
من جانبه، يرى صادق الركابي، مدير مركز البحوث الاقتصادية في المركز العالمي للدراسات التنموية في المملكة المتحدة، أن ما حدث في الأسواق النفطية أثر بشكل كبير في ثقة المستثمرين بالأسواق النفطية بشكل عام.
وأشار إلى أن "العامل النفسي للصناعة النفطية مهم للغاية، خصوصاً أن الكثير من المستثمرين اليوم أصبحوا يخشون هذه التقلبات الكبيرة في أسعار النفط، مما يجعل دول الخليج تفكر في التوجه إلى الأسواق الآسيوية، وهذا ما حدث بالفعل، إذ تعد الصين وكوريا الجنوبية واليابان أكبر عملائها".
ولكن هذا التوجه سيعمل على رفع معدلات التنافسية في تلك الأسواق، خصوصاً أنه تنافس من كبار المصدرين، وزاد "بالتالي يخشى في المستقبل أن تُملأ خزانات تلك الأسواق بالنفط كما حدث في أميركا، وتكون هناك تخمة في المستقبل القريب في حال استمرت حالة الإغلاق العام بسبب كورونا، مما سينعكس سلباً على الصناعة النفطية واقتصادات الدول المصدرة للنفط".
وتابع، "القدرة المالية لدول الخليج العربي تجعلها قادرة على خفض الإنتاج بشكل يرفع الأسعار، وعلى نحو لا يؤثر في برامجها التنموية. وفي السعودية على سبيل المثال هنالك ملاءة مالية كبيرة، ويوجد خطط لتنوع الاقتصاد وبالتالي عدم الوقوع في فخ الاعتماد الكلي على النفط.
السوق النفطية ليست جاذبة
أضاف الركابي، أن السوق النفطية اليوم، ليست جاذبة للمستهلكين كما كانت، لا سيما أن هناك تطويراً للصناعة الجديدة، التي تعتمد على التكنولوجيا وتحسين استخدام كفاءة الطاقة والاستفادة من الطاقة البديلة، مما يجعل النفط سلعة لا يعول عليها كما كان في السابق.
وأكد أن صناع القرار في دول الخليج العربي تنبهوا للأمر، خصوصاً أن عدداً من الدراسات كشفت أن السوق النفطية في تضارب، لذا وضعوا خططاً ورؤى جديدة للتنمية، في مقدمتها رؤية 2030 لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، الهادفة إلى تنوع الاقتصاد السعودي، وتعدد إيراداته غير النفطية، التي تعتمد على تنمية العنصر البشري وتطوير برامج التنمية وإيجاد إيرادات بديلة للنفط، أبرزها الاستثمارات الخارجية التي من المتوقع ارتفاع دخولها للسعودية مما سيخلق أسواقاً جديدة، لا سيما أن فرص الاستثمار في دول الخليج العربي كبيرة.
نموذج اقتصادي جديد
وأكد الركابي أن النموذج السابق في دول الخليج العربي المعتمد على النفط وإيراداته كان مناسباً في المرحلة السابقة، واستدرك، "اليوم المتغيرات والمتطلبات تغيرت، ويجب معها تغير نموذج الاعتماد على مصدر أحادي إلى التنوع في الإيرادات ومصادرها، إذ يجب أن يكون هناك خفض في الإنتاج على بعض المشروعات وإعادة أولويات العمل على ذات الإنتاجية والربح الأعلى منها".
وأشار إلى أهمية تعزيز الشركة بين القطاع العام والخاص مما يزيد فرص جذب الاستثمارات الخارجية لدول الخليج العربي، إضافة إلى الاعتماد على الذكاء الصناعي والتكنولوجيا، مما يوفر فرصاً واعدة لشباب الدول تخلق أسواقاً جديدة بها.
أزمة كورونا والفرص
أوضح الركابي أن أزمة كورونا خلفت فرصاً جديدة لأسواق منطقة الخليج العربي، التي يمكن أن تكون بديلاً للصين، وقال "بدأ الحديث عن تنوع سلاسل الإمداد العالمية وعدم الاعتماد على قطب واحد وهو الصين لتوريد السلع والصناعات، لذا بدأت الدول في التفكير في مناطق جغرافية أقرب خصوصاً للقارة الأوروبية، وتعد منطقة الخليج العربي موقعاً استراتيجياً، ويمكن أن تكون منطقة لتوريد الكثير من الصناعات لأوروبا ومركزا لمصانعها".
أسعار النفط "برنت" وصلت 16 دولاراً
يرى المتخصص في الشأن الاقتصادي فضل البوعنيين، أن تراجع أسعار النفط لم تقتصر على النفط الأميركي فحسب، بل على جميع المنتجين، وقال، "إن جائحة كورونا أثرت في الطلب بشكل كبير، وبالتالي باتت الأسعار تحت ضغط كبير. ولا يمكن عزل ما يحدث لنفط غرب تكساس عن نفط برنت برغم وجود التباين بينها. ولكن البعض ركز على العقود الآجلة في نفط غرب تكساس، وما حدث لها من انهيار ودخولها النطاق السلبي، وهذا أمر مختلف لأنه مرتبط بالعقود الآجلة وآلية تسعيرها واستحقاقاتها، إلا أنه يعكس ما يحدث للنفط عالمياً، وفي الولايات المتحدة بشكل خاص".
لافتاً إلى أن أسعار برنت لامست 16 دولاراً، وهذا أمر مقلق ومؤثر أيضاً؛ والأكيد أن تأثيره في مالية دول الخليج كبير خاصة إذا ما استمرت الأسعار في نطاقها الحالي.
وأضاف، "ما يحدث في أسواق النفط يرجع إلى ثلاثة أسباب؛ الأول جائحة كورونا التي عطلت الاقتصاد، والثاني انخفاض الطلب على النفط، والثالث ما يحدثه المضاربون على عقود النفط في الولايات المتحدة الذين سيتسببون بكارثة لصناعة النفط لا يمكن الخروج منها بسهولة".
معالجة أصل المشكلة
يرى البوعنيين، أن الاقتصاد العالمي دخل أزمة قد تكون طويلة الأمد بسبب كورونا وانخفاض الطلب على النفط، فكيف يمكن لدول الخليج تفادي تداعيات انهيار النفط؟
تابع، "لا يمكن تفادي تداعيات انخفاض الطلب الحاد إلا من خلال معالجة أصل المشكلة. وأعني معالجة جائحة كورونا التي عطلت الاقتصاد العالمي وتسببت في انخفاض حاد للطلب ما تسبب في تدهور الأسعار حتى مع إجراء أوبك+ لخفض تاريخي بـ9.7 مليون برميل يومياً".
وأضاف، أن الدول المنتجة قامت بدورها من خلال خفض الإنتاج، وربما يتبعه خفض آخر، إلا أن المهم التعامل بكفاءة لتحفيز الطلب، وهو ما لم يحدث إلا بإيجاد لقاح وعلاج لكورونا، لذا يجب على دول أوبك أن تضخ أموالاً لدعم الشركات المتخصصة الباحثة عن علاج ولقاح لكورونا. فمن خلاله يمكن القضاء على الوباء وعودة قطاعات الاقتصاد للعمل من جديد.
أما من الناحية المالية فأعتقد أن دول الخليج ستلجأ إلى الاستدانة لسد العجز المتوقع وتمويل إنفاقها الرئيس، كما أنها ستؤجل كثيراً من مشروعاتها لأسباب مرتبطة بانخفاض الدخل.
خطا في الربط
من جانبه قال المتخصص في الشأن النفطي عايض آل سويدان، إن هناك مغالطة كبيرة تدور في الأيام الأخيرة عن تراجع خام غرب تكساس وإمكانية تأثيره في دول الخليج خصوصاً خاماتها النفطية. فما حدث شأن أميركي وليس له علاقة بدول الخليج، وحتى نكون أكثر دقة خام غرب تكساس يعتبر مناطقي ويتعامل به في الولايات المتحدة، بينما دول الخليج تستخدم خام دبي وعمان وبرنت كهيكلة تسعيرية لخاماتها.
وأضاف، "بشكل عام الانهيار الذي حدث للعقود الآجلة لخام غرب تكساس ودخولها في منطقة السالب نشر الذعر في الأسواق، ورأينا ذلك على أسعار برنت حتى بلوغ السعر 19.90 دولار وبعد ذلك رجع إلى فوق 20 دولاراً".
وأوضح، "أن الاقتصاد العالمي في أسوأ أوضاعه، بسبب تفشي فيروس كورونان الذي أدى إلى شلل يقارب 50 إلى 60 في المئة من قطاع المواصلات في العالمن الذي بدوره قلل الطلب على النفط والنتيجة تدهور أسعاره. لكن دول الخليج لديها الكثير من الخيارات لتخفيف حدة هذه الأزمة. أهمها قلة تكلفة الإنتاج مقارنة بغيرها من الدول الأخرى لذلك حتى مع الأسعار المتدنية لا تزال تجني أرباحاً ولو بمستوى قليل".
مستويات مديونية طبيعة
وتابع، "أن دول الخليج تعتمد استراتيجية الاستثمارات طويلة الأجل، حتى ولو لم تستثمر في مشروعات نفط وغاز في الوقت الحالي فلديها القدرة على استمرارية الإنتاج بنفس المستويات دون الحاجة لاستثمارات جديدة. ولديها مستوى مديونية طبيعي قليل بالنسبة للدخل الإجمالي، على سبيل المثال السعودية يبلغ الدين العام 24 في المئة حتى مع تدهور أسعار النفط. وهذا يعطيها أفضلية في إصدار سندات إذا دعت الحاجة. إضافة إلى ذلك دول الخليج لديها احتياطيات مالية كبيرة، وبالإمكان استخدامها في وقت الضرورة. وأشار إلى وجود صناديقها السيادية وإمكانية استغلالها في اقتناص الفرص في الوقت الراهن حيث الكثير من الشركات فقدت الكثير من قيمتها السوقية".
خطط استراتيجية لما بعد النفط
وذكر، "أنه بلا شك فإن دول الخليج تعي جيداً هذه المرحلة الصعبة، لذلك رأينا الكثير منها بدأ بإصلاحات اقتصادية ووضع خططاً استراتيجية لما بعد النفط.
وأوضح آل سويدان، "إن دول الخليج تنقسم هنا إلى دول متقدمة في الإصلاحات ودول لا تزال متذيلة القائمة، وعليها التسريع من العمليات الإصلاحية واللحاق بالركب للاستعداد لما بعد النفط. هناك عوامل كثيرة بدأت بضغط على صناعة النفط، ومنها التحول للطاقة النظيفة، والسيارات الكهربائية، وطاقة الهيدروجين وإن كانت في بدايتها".