غضب عالمي يتنامى تجاه الصين مع استمرار اجتياح فيروس كورونا المستجدّ أبدان البشر موقعاً أكثر من 200 ألف قتيل حول العالم، وسط تزايد الأدلة على إخفاء السلطات الصينية الكثير من الحقائق والمعلومات حول نشأة وانتشار الفيروس، مما أدى إلى تحوّله لجائحة تهدّد شعوب الكرة الأرضية.
هذا الغضب تُرجم في الأيام الأخيرة الماضية إلى دعاوى قضائية رفعها أشخاص وولايات أميركية ضد بكين تطالب بالتعويض عن الأضرار والخسائر الناجمة، فضلاً عن مطالبات من حكومات مختلفة حول العالم بالتحقيق.
أولى الدعاوى القضائية رفعتها ولاية ميزوري الأميركية، الأسبوع الماضي، أمام القضاء الفيدرالي الأميركي، متهمة بكين بالكذب بشأن خطورة فيروس كورونا المستجد وطبيعته المعدية، حيث واصلت الصين نفي انتقاله بين البشر حتى 21 يناير (كانون الثاني) الماضي، فضلاً عن محاولة إخفائه منذ ظهور الإصابات الأولى به في مدينة ووهان مطلع ديسمبر (كانون الأول) 2019. وطالبت الدعوى بتحمل الحكومة الصينية المسؤولية عن الوفيات والأضرار الاقتصادية الجمّة التي يتكبدها العالم، بمن فيهم مواطنو ميزوري.
دعاوى قضائية
ورفع محامون أميركيون دعاوى جماعية تضمّ آلافاً من المطالبين بالتعويضات من 40 دولة حول العالم، بما في ذلك بريطانيا والولايات المتحدة، أمام القضاء الفيدرالي في ولاية فلوريدا الشهر الماضي وفي مناطق أخرى. وفي ما يتعلق بالقضية المرفوعة في فلوريدا، فإن المسؤول عنها هو شركة "بريمن غروب" للمحاماة التي يعمل لديها شقيق المرشح الديمقراطي للرئاسة الأميركية جو بايدن، التي فازت قبل ثلاث سنوات بقضية بقيمة 1.2 مليار دولار ضد الصين بشأن تصنيع مواد بناء معيبة، بحسب صحيفة "الديلي ميل".
ويطالب مواطنون في أستراليا حكومتهم برفع دعوى قضائية دولية ضد الصين للحصول على تعويضات عن الخسائر التي لحقت بهم نتيجة الجائحة.
وزعم تقرير صادر عن مركز هنري جاكسون، البريطاني المتخصص في الأبحاث السياسية، أنه يمكن لمجموعة الدول الصناعية السبع المعروفة بـ G7 أن ترغم الصين على دفع تعويضات بقيمة 6.42 تريليون دولار، فضلاً عن 37 مليار دولار لأستراليا. ومع ذلك يشير خبراء قانونيون إلى أن حكومة الصين محمية بمبدأ الحصانة السيادية وأن سوء سلوك النظام الذي لا شك فيه لا يشكل أسباباً كافية لتجاوز هذه الحصانة. ويحظر قانون الحصانات السيادية، الدعاوى القضائية ضد الدول الأجنبية مع استثناءات قليلة للغاية.
ويسعى محامون حقوقيون في إسرائيل، مختصون في مقاضاة الدول بتهم الإرهاب، لمقاضاة الصين. ويجادل المحامون بأنه على الرغم من أن الدول تتمتع بالحصانة القانونية، فإن هناك استثناءات بموجب قانون الولايات المتحدة للأضرار الشخصية أو الممتلكات والإجراءات في الخارج التي تؤثر على الشركات في حدودها.
تجريد الحصانة السيادية
وفي ظل الاتهامات الدولية للصين بالافتقار للشفافية مع شعبها وبقية العالم خلال المراحل المبكرة من تفشي الفيروس التاجي، قدّم عدد من أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين مشروعات قوانين لتعديل قانون الحصانات السيادية الأجنبية، حتى يتمكن الأميركيون من مقاضاة الصين على إخفاقاتها. وقدّم عضوا مجلس الشيوخ عن الحزب الجمهوري، مارشا بلاكبيرن ومارثا ماكسلي، تعديلاً يسمح برفع دعاوى قضائية ضد أي دولة تسمح بالأسلحة البيولوجية. كما قدّم النائبان الجمهوريان، توم كوتون وجوش هاولي، تشريعاً مشابهاً، يسمح للأميركيين بمقاضاة الصين أو الكيانات الأجنبية بسبب الفشل أو الخداع أثناء حالات الطوارئ العامة. وقال هاولي في إعلانه عن مشروع قانونه في 14 أبريل (نيسان) "أطلق الحزب الشيوعي الصيني العنان لهذا الوباء. يجب محاسبتهم على الضحايا".
لكن في تعليقات لصحيفة "واشنطن بوست"، حذرت إيشيمين كيتنز، أستاذ القانون الدولي بجامعة كاليفورنيا، من مقترحات المشرعين للتخلص من الحصانة السيادية للصين باعتبارها "كابوساً كاملاً". وقالت "أي شخص يعمل في العلاقات الخارجية يدرك أنه في اللحظة التي تبدأ فيها بتجريد دول أخرى من الحصانة السيادية، فإنك تفتح على نفسك الباب لدعاوى قضائية في المحاكم الأجنبية لـدى 190 دولة أخرى، التي من المحتمل أن تقرر أن تفعل ذلك بك". وقالت إن الطريقة الأكثر ملاءمة لمحاسبة الصين هي إنشاء محكمة دولية للتحقيق في فشلها وعدم شفافيتها، وليس رفع دعاوى قضائية تذهب سدى.
وبالفعل، تشترك دول كبرى عدة في المطالبة بتحقيق واسع في تصرفات الصين منذ ظهور الفيروس، بخاصة أن تايوان، التي حققت نجاحاً واسعاً في مكافحة الفيروس على أراضيها، بعثت برسائل تحذير لمنظمة الصحة العالمية في 31 ديسمبر تؤكد انتشار الفيروس بين البشر، وهي التحذيرات التي تجاهلها كل من المنظمة وبكين التي أبقت على مطار ووهان مفتوحاً أمام حركة الطيران الدولي خلال الأسابيع الثلاثة الأولى من شهر يناير.
عقبات تطارد الصين
وبينما لا توجد آلية قضائية دولية يمكن بموجبها مقاضاة الدول في مثل هذه الحالات، فإن هذا لا يعني غياب العواقب، فيبدو أن ما يمكن أن تتكبده الصين جرّاء تصرفاتها في إدارة أزمة انتشار الفيروس القاتل على أراضيها وغياب الشفافية التي قصمت ظهر الاقتصاد العالمي وأسفرت عن إصابة أكثر من مليوني شخص بالفيروس وفقدان ملايين آخرين لعملهم، سيكون أكثر كلفة من مجرد تعويضات مالية مستبعدة.
ففي تعليقات لـ"اندبندنت عربية"، قالت بيفين هيسيه، المحامية والمسؤولة السابقة لدى مجلس الأمن القومي لتايوان، إن الصين تفقد مصداقيتها في جميع أنحاء العالم، فأرقامها المنشورة رسمياً حول أعداد المصابين والوفيات مشكوك فيها على نطاق واسع. وقد أثمرت حملتها الدعائية العالمية عن نتائج عكسية، بما في ذلك اتهام الجيش الأميركي زوراً بإحضار فيروس كورونا إلى الصين، وادّعاء التبرع بمستلزمات طبية، بينما كانت في الواقع تقوم ببيع الأقنعة وغيرها من معدات الوقاية الشخصية إلى بلدان أخرى، ونشر معلومات مضللة حول كيفية تعامل الحكومات الأجنبية مع الوباء. وأضافت أن سمعة بكين باعتبارها نظاماً غير شفّاف، وحتى كاذب، تم ترسيخها وإعادة تأكيدها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويقول جيرمي هواي-شي شيانغ، الباحث لدى مؤسسة التبادل الآسيوي التيواني، إنه بينما عملية التقاضي صعبة، لكن أخطاء الصين الأوليّة وعواقبها العالمية قد أثارت قلقاً حول العالم، مما سيعزز الآراء التي لا تثق بها. وبالإضافة إلى ذلك، فإن التقارير المنشورة عن تصدير إمدادات طبية صينية ذات جودة منخفضة يزيد من ضعف موقفها. ويتابع "في الوقت الذي تحاول الصين التحول إلى قوة عالمية، فإن انعدام الثقة الذي تسارع وتفاقم جراء أزمة (كوفيد-19) سيضيف العقبات إلى طموحاتها".
ليس مصداقيتها فحسب، إذ يشير شيانغ إلى أن هذه الأزمة دفعت العديد من دول العالم إلى إعادة التفكير في العلاقات مع الصين، وضرورة تقليل الاعتماد عليها في الضروريات الأساسية. وبالفعل دعا العديد من المشرعين الأميركيين إلى استعادة إنتاج الإمدادات الطبية بعيداً عنها، بينما تدفع اليابان أيضاً بسلاسل التوريد للتنويع. وربما بدأت عملية إعادة التفكير وإعادة توطين بعض الصناعات هذه بالفعل منذ بدء الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، لكن أزمة جائحة كورونا زادت من إصرار العديد من المتشددين وغير المتشددين، على حدّ سواء.
تايوان تثير فزع الصين
هناك أمر آخر ربما سيكون من العواقب الجيوسياسية المزعجة للصين، وهو بزوغ نجم تايوان في هذه الأزمة منذ تحذيرها أولاً من فيروس غامض خطير ينتشر بين البشر في الصين ووصولاً إلى اتّخاذها نموذجاً في مكافحة الفيروس، كان محل إشادة دولية وإعلامية على مدار الأسابيع القليلة الماضية.
وتشكل تايوان القضية الأكثر حساسية لبكين في منطقة جنوب شرق آسيا، حيث تصرّ الأخيرة على أن الجزيرة الواقعة في الجنوب الغربي قبالة سواحلها جزء من الدولة الصينية، ولا بد من إعادتها إلى سيادتها. وبالفعل وقع صدام بين الحكومة التايوانية ومنظمة الصحة العالمية التي تتعامل معها باعتبارها جزءاً من الصين. البلد الذي يقطنه ثلاثة وعشرون مليون نسمة، وتحكمه حكومة منتخبة ديموقراطياً، استقل عن الصين منذ عام 1949، لكن تنظر جمهورية الصين الشعبية إلى الجزيرة كمقاطعة.
وتقول هيسيه إن الدول أصبحت أكثر استعداداً للاعتراف رسمياً بتايوان وتقديرها كدولة مستقلة عن الصين. وأضافت أن "استجابة تايوان السريعة والفعالة للوباء في المرحلة الأولى من تفشي المرض تميزها عن الصين، التي تدعي أن تايوان جزء منها. إن مستوى الشفافية المرتفع لحكومة تايوان بشأن الوباء هو تناقض حاد مع افتقار الحزب الشيوعي الصيني له". وأشارت إلى ما وصفته بـ"دبلوماسية الأقنعة" في تايوان التي تفتح الأبواب أمام العديد من البلدان التي لم تكن تقيم معها علاقات دبلوماسية من قبل. ومما يثير فزع الصين أن تايوان تثبت نفسها لتكون علامة تجارية صاعدة ومستقلة على الصعيد الدولي.
وفي حين واجهت منظمة الصحة العالمية انتقادات دولية واسعة بسبب انحيازها للمعلومات الواردة من الصين ودعمها باعتبارها ذات مصداقية، في حين تجاهلت تحذيرات تايوان، فإن الجائحة جذبت الحديث دولياً عن تزايذ النفوذ الصيني داخل المنظمة الدولية. وتقول مسؤولة مجلس الأمن القومي السابقة إن عملية التأثير التي تمارسها بكين في المنظمات الدولية باتت تخضع للتدقيق عن كثب، وسيتم فحصها. وقد نبهت الاستجابات المسيسة من قبل منظمة الصحة العالمية، بخاصة مديرها العام تيدروس ادناهوم، العديد من الدول (مثل الولايات المتحدة وأستراليا) إلى مدى سيطرة الصين على عملية صنع القرار في منظمة الصحة العالمية. وتضيف "في المستقبل، ستواجه الصين وقتاً أكثر صعوبة في اختراق المنظمات الدولية الأخرى والتأثير عليها بالطريقة التي كانت تقوم بها".
ويتفق الخبراء على أن تجاهل منظمة الصحة العالمية لتحذيرات تايوان بشأن انتقال الفيروس بين البشر يعود إلى نفوذ الصين الهائل، حيث تتجنب المنظمة كمبدأ أي اتصالات مع تايوان. كما أنها، باعتبارها ليست عضواً في المنظمة، ليس لديها أي سيطرة على ما إذا كانت منظمة الصحة العالمية تهتم بالرد على أي من اتصالاتها. فضلاً عن إصرار آخرين على أن المنظمة الدولية تحيّزت لحكومة الحزب الشيوعي الصيني في الاستجابة للوباء. وبما أن بكين لم ترغب في الإبلاغ عن الوباء في المرحلة الأولى من تفشي المرض، فقد فقدت منظمة الصحة العالمية الفرصة في إصدار أحكامها المهنية.