حصد الطاقم السياسي الحاكم في لبنان في مطلع الأسبوع ما حذره منه كثر من أن طرح فكرة إقالة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة يوم الجمعة الماضي وحملة رئيس الوزراء حسان دياب عليه وتحميله مسؤولية التدهور الاقتصادي المالي، سينعكس سلباً على الوضع العام في البلد ويرفع سعر الصرف أكثر. افتتح السوق صباح الاثنين على ارتفاع فوري، فبات الدولار بـ 4200-4300 ليرة لبنانية، بعدما كان بلغ زهاء الأربعة آلاف بعد ظهر الخميس الماضي.
فضلاً عن ذلك، شهد الشارع تصعيداً جديداً للانتفاضة الشعبية ضد الطبقة السياسية، والتي كانت بدأت بتسخين الأجواء في نهاية الأسبوع الماضي عبر التظاهرات السيارة وقطع جزئي للطرقات، احتجاجاً على التردي المعيشي والارتفاع الجنوني لأسعار المواد الغذائية والبطالة التي ضاعفها الإقفال العام بسبب كورونا. استفاق اللبنانيون على قطع الطرقات في عدد من المناطق، التي سارع الجيش إلى فتحها بعد عراك مع المحتجين، ثم ما لبث أن عم كل لبنان.
تحرك الشارع يعاكس حجة فريق عون
وأدى ارتفاع سعر صرف الدولار إلى إقفال عدد من محلات الصيرفة غير المرخص لها في مناطق عدة من القوى الأمنية، بناءً لطلب القضاء.
وفيما كانت حجج مؤيدي إقالة سلامة في جلسة مجلس الوزراء الجمعة الماضي، أي الوزراء الموالين لرئيس الجمهورية ميشال عون و"التيار الوطني الحر" و"حزب الله"، أن الموقف الشعبي الضاغط ضده وضد المصارف لا يمكن تجاوزه، باعتبار أن الأسبوع الماضي شهد تظاهرات أمام المصرف المركزي في بيروت وفي صيدا وغيرها من المحافظات، وكان لافتاً أن تجمعات المحتجين يوم الاثنين عادت إلى شعاراتهم الداعية إلى رحيل الحكام كافة. وقال بعضهم بوضوح: ليس رياض سلامة وحده المسؤول، بل كل القوى السياسية المتهمة بالمشاركة في الهدر والفساد. وبعض الناشطين هاجم بشدة "التيار الوطني الحر". أي أن الآية انقلبت، بعدما كانت تظاهرات الأسبوع الماضي ضد سلامة قامت بها مجموعات في الانتفاضة موجهة بحسب تأكيد أكثر من جهة سياسية، من قبل "حزب الله" للتركيز على المصارف وسلامة بأنهم وراء التدهور السريع في السوق النقدية، وأن الحزب وعدداً من حلفائه استغلوا نقمة المواطنين ضد المصارف والمصرف المركزي جراء التقنين في سحب الودائع بفعل الشح في السيولة، لتأليب الشارع ضد سلامة قبيل استخدامه كبش محرقة تحت شعار محاسبة المقصرين والفاسدين، فيما الهدف من وراء الحملة يتعدى ذلك إلى السيطرة على هذا الموقع المهم في الدولة.
أبرز الذين حذروا من انعكاسات إقالة سلامة كان رئيس المجلس النيابي نبيه بري، الذي اعتبر أنه "يجب أن تُناقش بمسؤولية، وأن يتم درس كل جوانبها ومفاعيلها، والتحسب جيداً لما بعدها، حتى يأتي أي قرار يُتخذ محصناً وصائباً، بعيداً من الانفعال والارتجال"، مشدداً على أنه لا يدافع عن سلامة بل عن لبنان. لكنه رأى أن حكومة دياب "تبدو أحياناً عدوة نفسها".
ممانعة بري وإمساك "حزب الله" بالقرار
وعلمت "اندبندنت عربية" أن موقف بري هذا كان وراء قرار ضمني من قبل "حزب الله" بالتريث، فأبلغ بعض الفرقاء عشية جلسة يوم الجمعة الماضي أن القضية ستناقش خلالها، لكن لن يتخذ قرار بالإقالة و"ستكون الجلسة منضبطة"، مع أن أكثرية الثلثين لخيار تنحية سلامة كانت مؤمنة. وفيما بات معروفاً أن وزيري بري غازي وزني وعباس مرتضى عبرا عن هواجس رئيس البرلمان، وكذلك فعل وزيرا "المردة"، رافضين فكرة الإقالة، طلب دياب تأجيل البحث في الأمر بانتظار التوافق السياسي، فأجل عون البت في الأمر.
حقق "حزب الله" من وراء الاختباء وراء جموح فريق عون و"التيار الوطني الحر" للسيطرة على موقع أساسي في الدولة، أهدافاً عدة. استطلع مواقف الفرقاء كافة من تغيير سلامة و"هز العصا" للأخير حيال استمرار التزامه تنفيذ العقوبات الأميركية المالية تجاهه، واستخدم دياب رئيس الحكومة السني في مواجهة أحد مواقع نفوذ الحريرية السياسية إضافة إلى عون، وبعث برسالة إلى الجانب الأميركي بقدرته على السيطرة على هذا الموقع باعتبار أنه سيلعب دوراً رئيساً في تعيين البديل، وأثبت أنه قادر على التحكم بقرار الحكومة ومكوناتها ولجم الحلفاء، إذ إن حتى حليفه عون والنائب جبران باسيل لا يمكنهما السيطرة على حاكمية مصرف لبنان إذا لم يسانده الحزب.
البطريرك والحريري وجنبلاط يعاكسون الحزب
لكن في المقابل، لم يستطع الحزب أن يستمر في إدارة اللعبة من الخلف، فانكشف موقفه بإدارة الحملة على سلامة. ولم يكتف رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" وليد جنبلاط بالهجوم على عون وسعيه إلى السيطرة على مصرف لبنان، حين قال لمحطة "الحدث- العربية" في معرض شرحه معارضته ليل الأحد، "دياب لا شيء بل الحلف الثنائي التيار الوطني الحر ومن خلفه حزب الله يبنون لبنان الجديد، وقد يكون ولاية إيرانية أو سورية وسنقاوم هذا المشروع". ومع أن جنبلاط يحرص على مراعاة عدم استفزاز الحزب في الظروف الحالية التي يمر فيها لبنان، أكد "سنقول لا لمحاولات حزب الله إلغاءنا، وتطبيق مثال سوريا والعراق وإيران في لبنان".
ومع أن زعيم تيار "المستقبل" سعد الحريري هو الآخر يحرص على تجنب الاشتباك مع الحزب، فإن هجومه العنيف ضد حملة دياب وعون على سلامة أزعجت الحزب على الرغم من أنه لم يتطرق إلى دوره في الحملة. هجوم الحريري الذي تبعته مواقف سنية قوية ضد دياب، يزيد من تعرية الأخير في طائفته حيث أن تغطيته فيها معدومة، خصوصاً بعد لقاء رؤساء الحكومة السابقين مع الحريري لتنسيق الموقف، لأن المزاج السني يعتبر رئيس الحكومة ألعوبة في يد الحزب وعون وباسيل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والأمر الثالث الذي عاكس الحزب ولم يحسب حسابه أيضاً موقف البطريرك الماروني بشارة الراعي الذي دافع عن سلامة منتقداً حكم دياب المبرم عليه، ومنتقداً "الشكل الاستهدافي الطاعن بكرامة الشخص والمؤسسة التي لم تعرف مثل هذا منذ إنشائها". وذهب الراعي أبعد حين سأل: "من المستفيد من زعزعة حاكمية مصرف لبنان؟". وقال "المستفيد نفسه يعلم. أما نحن فنعرف النتيجة الوخيمة وهي القضاء على ثقة اللبنانيين والدول بمقومات دولتنا الدستورية. وهل هذا النهج المُغاير لنظامنا السياسي اللبناني جزءٌ من مخطط لتغيير وجه لبنان؟".
إضافة إلى رد فعل البطريرك، قطع إعلان رئيس "تيار المردة" سليمان فرنجية أن وزيريه في الحكومة لن يؤيدا تسمية الوزير السابق منصور بطيش المقرب من عون وباسيل، بديلاً لسلامة، الطريق على تعيين من يريده عون وفريقه. ويفترض بالحزب أن يأخذ في الاعتبار موقف حليفه الماروني الثاني، بحيث لا يستأثر الفريق العوني بالموقع المالي. لكن الحديث عن استبدال سلامة، وإن تأجل للأسباب المذكورة، فإن فريق عون لن يستكين وسيواصل المحاولة في وقت أطلق ذلك عملية منافسة شديدة على تبوؤ المركز، حيث أن الوزير في حكومة دياب دميانوس قطار يطمح للحاكمية في وجه المرشح العوني.
غموض الموقف الأميركي
قيل الكثير في هذا الخضم عن الموقف الخارجي من اندفاعة عون ومن ورائه "حزب الله" لتنحية سلامة، وتحديداً عن الموقف الأميركي الذي بقي غير واضح.
ولاحظ العديد من السياسيين الذين يتسقطون ما تقوله الديبلوماسية الأميركية التي تتابع عن كثب ما يجري في لبنان من زاوية تأثير "حزب الله" في القرارات، والترصد بدقة ما يجري في المصرف المركزي، أن الأميركيين لم يقولوا شيئاً عن سلامة مثلما فعلوا عندما أثيرت قضية تعيينات نواب الحاكم في المصرف قبل زهاء شهر، فأعلنوا أنهم قدموا النصيحة للبنانيين بتعيين من يمكن للمجتمع الدولي أن يتعاون معهم، ما أدى إلى تأجيل تلك التعيينات لأن واشنطن أبدت تحفظاً قوياً على بعض الأسماء التي كانت مطروحة. وأشار السياسيون إلى أن الجانب الأميركي قرر تجنب إسداء "النصيحة" كما فعل في شأن تعيينات نواب الحاكم.
وفي وقت شاعت تسريبات بأن السفيرة الأميركية في بيروت دوروثي شيا أبلغت باسيل حين التقته الأسبوع الماضي، أن لا مجال لأي مساعدات إذا جرى تغيير سلامة، رجحت مصادر فضلت عدم الكشف عن هويتها لـ"اندبندنت عربية" أن يكون ذلك من باب التكهنات لا أكثر بسبب علاقة سلامة مع الجانب الأميركي. وأوضحت أن واشنطن "لا يهمها الأشخاص بل يهمها وقف هيمنة حزب الله على السلطة السياسية في البلد، وأن باسيل أبلغها بأن من يصر على إقالة سلامة هو حزب الله. لكن هذا لا يعني عدم الاهتمام بتفاصيل ما يجري على صعيد هذا الموقع المالي المهم".
وفي كل الأحوال لم تكن الديبلوماسية الأميركية وحدها التي اهتمت بكل الضجة التي حصلت. فالجانب الفرنسي تابع عن كثب التفاصيل واعتبر أن المسؤولين اللبنانيين يتلهون بأمور كثيرة بطريقة خاطئة، عن أولوية الإنقاذ الاقتصادي ومعالجة الوضع المالي ومحاولة إدخال أموال إلى البلد عن طريق مشاريع "سيدر" وعبر التواصل مع صندوق النقد الدولي.